مقدمة للدكتور طه حسين
مقدمة الكتاب
الباب الأول: سيرة إقبال
1 - أسرته
2 - في سيالكوت
3 - في لاهور إلى سنة 1905
4 - سفره إلى أوروبا
5 - إقبال في وطنه
الباب الثاني: فلسفة إقبال
1 - منظومة أسرار خودي
2 - خلاصة أسرار خودي
3 - المنظومة الثانية
4 - أوجه أخرى لفلسفة إقبال
5 - إجابة إقبال المعترضين على فلسفته في أوروبا
الباب الثالث: شعر إقبال
1 - دواوين إقبال
2 - مذهب إقبال في الفنون الجميلة
3 - مذهب إقبال في الشعر خاصة
4 - شعر إقبال
5 - أمثلة من شعر محمد إقبال
خاتمة
مقدمة للدكتور طه حسين
مقدمة الكتاب
الباب الأول: سيرة إقبال
1 - أسرته
2 - في سيالكوت
3 - في لاهور إلى سنة 1905
4 - سفره إلى أوروبا
5 - إقبال في وطنه
الباب الثاني: فلسفة إقبال
1 - منظومة أسرار خودي
2 - خلاصة أسرار خودي
3 - المنظومة الثانية
4 - أوجه أخرى لفلسفة إقبال
5 - إجابة إقبال المعترضين على فلسفته في أوروبا
الباب الثالث: شعر إقبال
1 - دواوين إقبال
2 - مذهب إقبال في الفنون الجميلة
3 - مذهب إقبال في الشعر خاصة
4 - شعر إقبال
5 - أمثلة من شعر محمد إقبال
خاتمة
محمد إقبال
محمد إقبال
سيرته وفلسفته وشعره
تأليف
عبد الوهاب عزام
مقدمة للدكتور طه حسين
يرحم الله صديقى الكريم عبد الوهاب عزام فقد كان مصدر نفع أي نفع، وخير أي خير لوطنه ولغته. كان رائدا من رواد الحياة الأدبية العليا بأدق معانيها وأصدقها في الوطن العربي كله، ثم في التقريب بين هذا الوطن العربي، وبين أوطان أخرى بعيدة في الشرق والغرب.
عرفته طالبا في مدرسة القضاء الشرعي مختلفا إلى دروس الجامعة الحرة، وكنت في تلك الأيام أستاذا للتاريخ اليوناني الروماني القديم، فكان يختلف إلى الدروس التي كنت ألقيها. وأشهد لقد كان أبرع الطلاب الذين كانوا يشهدون دروسي في تلك الأيام وأنجبهم. كان أرقهم قلبا، وأدقهم شعورا، وأصفاهم ذوقا، وأبعدهم أفقا.
لم يكن يكتفي بدروسه في مدرسة القضاء على عسرها وتعقدها، وإنما كان يقبل عليها وجه النهار، ثم يسعى من آخر النهار إلى الجامعة فيشهد ما كان يلقى فيها من دروس، فإذا فرغ لنفسه حين يقبل الليل جد في الدرس والاستذكار لما كان يسمع في المعهدين من دروس.
ثم لم يكن يكتفي بهذا كله، وإنما كان يضيف إليه نشاطا جديدا لم يكن مألوفا في مصر أثناء ذلك العصر.
كان يحاول أن يتعلم اللغة التركية، وكنت إذا أردت أن أدرب طلاب الجامعة على قراءة نص من النصوص الفرنسية التي تتصل بتاريخ الحضارة اليونانية أو الرومانية أو بالأدبين اليوناني واللاتيني؛ كلفته هو القراءة والتفسير، وقمت منه مقام الأستاذ الذي يعلم تلاميذه كيف يقرءون وكيف يفقهون.
وكان زملاؤه يألفونه ويعجبون به، وكنت له محبا وبه معجبا كزملائه. وقد ظفر بالليسانس من الجامعة القديمة، وتخرج في مدرسة القضاء الشرعي، ثم أرسل إلى السفارة المصرية في بلاد الإنكليز حين استطاعت مصر أن ترسل السفراء إلى البلاد الأجنبية. فلم يكتف بعمله فيها، وإنما اختلف إلى جامعة لوندرة، فسمع لدروس المستشرقين فيها، وجعل يدرس اللغة الفارسية وآدابها، وظفر منها بدرجة الماجستير، ثم دعوته إلى الجامعة المصرية بعد أن أصبحت حكومية، فعلم في كلية الآداب مع أستاذه وكان يعلم اللغة العربية واللغتين الفارسية والتركية، ولم يكن يكتفي بهذا أيضا، وإنما كان يستزيد من العلم باللغات الشرقية حتى أتقن الفارسية والتركية، وأصبح مؤسسا للقسم الذي كانت تدرس فيه هاتان اللغتان. فهو أول مصري علم في جامعة وطنه اللغات الشرقية الإسلامية.
وفي أثناء ذلك ظفر بترجمة عربية للشاهنامه، فصححها وأكملها، ثم نشرها وتقدم بها وبدراسة للشاهنامه؛ لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية، وكان يوم مناقشته في رسالته يوما مشهودا من أيام الجامعة؛ شارك في مناقشته أساتذته الذين صاروا له زملاء، وحضر هذه المناقشة تلاميذه، كما شهدها مدير الجامعة ووزير المعارف إذ ذاك.
فكان امتحانه عيدا من أعياد كلية الآداب، بل من أعياد الجامعة، رأت فيه مصر شابا من شبابها يتخصص في الأدب الفارسي ويشارك الغربيين في إحيائه، ثم يحييه للأمة العربية التي بعد عهدها بمثل هذه الدراسات. ثم صار أستاذا للغة الفارسية وآدابها ورئيسا للدراسات الشرقية الإسلامية، ولم يلبث أن برز في هذه الدراسات فأتقن العلم بها إتقانا نادرا، وكان في الوقت نفسه كثير البحث عن القديم من الأدب الفارسي، كثير العكوف على دراسته مغرقا في دروس التصوف الفارسي؛ حتى تأثر بهذا التصوف في حياته اليومية وفي سيرته مع من يألف من الأساتذة ومن يعلم من الطلاب. وظفر ذات يوم بنسخة مخطوطة من كتاب كليلة ودمنة الذي نقل إلى العربية في القرن الثاني للهجرة، وكانت نسخته تلك أقدم النسخ المعروفة من هذا الكتاب، فأسرع إلى تحقيقها ونشرها، ثم أنفق حياته الجامعية كلها في تثبيت هذه الدراسات الشرقية الإسلامية، فتخرج عليه تلاميذ برعوا في هذا اللون من العلم كما برع أستاذهم، وأصبحوا الآن أساتذة لهذه الدراسات في الجامعات المصرية.
فهو لم يهد علمه إلى وطنه العربي فحسب، وإنما أهدى إلى هذا الوطن علماء نابهين يسيرون الآن سيرته، فيهدون علمهم إلى وطنهم وينشئون لهذا الوطن علماء مثلهم. فقد كان عبد الوهاب عزام إذن شخصية مباركة على العالم العربي الحديث لم يؤثر نفسه بالخير، بل لم يؤثر نفسه بخير ما، وإنما آثر وطنه بالخير كله وبالجهد كله وبالإخلاص كله. فإذا عدا عليه الموت فاختطفه من بين تلاميذه وزملائه ومحبيه، فإن الموت لم يقدر عليه ولم يقطع صلته بالحياة؛ لأنه ما زال يحيا بيننا بعلمه الذي انتشر في الشرق العربي كله بل في الشرق الإسلامي كله، وبتلاميذه الذين يبذلون من الجهد مثل ما بذل، ويجدون في الدرس كما جد، ويخلصون قلوبهم لوطنهم وأمتهم وللعلم كما أخلص جهده لوطنه وأمته وللعلم. وقد استكشف فيما استكشف نابغة من نوابغ الشرق هو الشاعر العظيم محمد إقبال شاعر الهند والباكستان، فلم يختص نفسه بما درس من شعره وأدبه، وإنما قدم طائفة صالحة رائعة من آثاره لوطنه وللغته العربية، وألف عنه كتابا ممتعا هو الذي أشرف بتقديمه إلى قراء العربية في طبعته الثانية.
وهو كتاب أقل ما يوصف به أنه صورة صادقة رائعة لكاتبه ولموضوعه جميعا. فهو لا يصور إقبالا وحده، وإنما يصور معه مؤلفه عبد الوهاب عزام. كلا الرجلين كان عذب الروح محببا إلى القلوب، وكلا الرجلين كان بعيد المرامي؛ لم يكن عبد الوهاب عزام يكتفي بأن يكون مصريا عربيا، وإنما كان يريد - وقد حقق ما كان يريد - أن يكون عربيا إسلاميا. فأتقن العلم بأمور المسلمين جميعا قريبهم وبعيدهم، وسار سيرة المسلم الصادق في إسلامه والمتصوف المخلص في تصوفه. ولم يكن إقبال يكتفي بأن يكون هنديا يفكر دائما في أن يستقل المسلمون بالباكستان، وإنما كان حريصا على أن يكون كذلك، وعلى أن يكون مسلما صادق الإسلام ومتصوفا خالص التصوف.
فكان لقاء هذين الرجلين الكريمين لقاء روحي ائتلفا فتحابا في ذات الله وفي ذات الإسلام. وكلا الرجلين كان شاعرا كاتبا. أدى إقبال أكثر آثاره شعرا، وترجم عبد الوهاب عزام إلى العربية كثيرا من آثاره شعرا أيضا. ثم لم يقف عزام عند اللغة الفارسية وحدها، وإنما أتقن معها التركية ونقل منها إلى العربية أشياء كثيرة متفرقة. ولم ينفع وطنه بالعلم ولا بالعلم والأدب وحدهما، وإنما كان سفيرا لبلاده في الباكستان، فأحسن السفارة وبلغ من التقريب بين المسلمين من العرب والمسلمين من الشرق البعيد ما لم يبلغه مصري قبله.
ثم يريد الله لعبد الوهاب عزام أن يختم حياته مديرا للجامعة الأولى التي أنشئت في أعماق نجد في عاصمة البلاد العربية السعودية. ولو قد مدت له أسباب الحياة هناك لكان لتأثيره في العقل العربي شأن أي شأن، ولكن لله حكمة هو بالغها وأمرا هو منفذه؛ فقد اختار لعبد الوهاب عزام أن يلم بوطنه وأهله وأصدقائه مودعا أو كالمودع، ثم يسافر إلى جامعته في الرياض فيكون هذا آخر العهد به آخر العهد بشخصه الحبيب، فأما علمه وأدبه فباقيان ما بقيت اللغة العربية والأمة العربية. سلام على عبد الوهاب عزام من صديق له وزميل أحبه أشد الحب، وآثره أعظم الإيثار، ولقي من حبه وإيثاره ما لا يستطيع أن ينساه.
مقدمة الكتاب
محمد إقبال شاعر نابغة، وفيلسوف مبدع، احتفل في باكستان وغيرها في نيسان الماضي بالذكرى الرابعة عشرة لوفاته. وذكره يشيع، وصيته يذيع على مر الأيام، ولا سيما منذ نشأت دولة باكستان، وهي حقيقة تخيلها والناس منه يضحكون، ويقظة حلم بها واليائسون به يتفكهون.
احتفى الناس بذكراه كل عام، وكثرت المجامع في كل ذكرى تشيد بدعوته، وتدعو إلى رسالته، وشرع أدباء الأمم يعنون بترجمة شعره إلى لغاتهم.
وقد سئلت أن أكتب في سيرته وفلسفته وشعره كتابا مجملا، أجعله مقدمة لتفهم دواوينه التي ترجمتها إلى اللغة العربية. فأجبت على العلات، وعلى كثرة الشواغل.
وأنا لا أدعى إلى إقبال إلا لبيت؛ استجابة لما في نفسي من عشق وإكبار لهذا الشاعر الفيلسوف المؤمن.
وهذه مقدمة أقدمها تعريفا به. أقدم فيها ما يقرب إلى القارئ صورته ويجمل له دعوته؛ ليتهيأ لقراءة هذا الكتاب طلبا للتفصيل، ورغبة في المزيد، وشوقا إلى شعر بدع وفلسفة أنف، وإعجابا بالفكر المحلق، والمفكر الحر، والفيلسوف الذي لا يسير مع الزمان، ولا يخضع لتقلب الحدثان، والشاعر الذي ينفخ الحياة في الموات، ويبعث في القفر ألوان النبات، ويشعل الجمر الخامد، في الرماد الهامد.
أبين في هذه الكلمات كيف سمعت بإقبال اسما مبهما وقولا معجما، وكيف زادت معرفتي به على مر الزمان حتى وقعت في بحره وسبحت في لجه، ثم أويت إلى الساحل أنظر العباب الزاخر، والآذي الثائر، وأصف ما أرى لمن لم يعرفه معرفتي، ولم يولع به ولوعي.
سمعت وأنا في بلاد الإنكليز، قبل وفاة الشاعر بأكثر من عشر سنين، أن في الهند صوفيا اسمه إقبال له نظرات في التصوف، وله فلسفة في النفس، وأن ذكره جاء في بعض المجلات الأوروبية، وكلامه نشر فيها. وأنا نزاع إلى الصوفية منذ نشأت. وزادني معرفة بها ورغبة فيها وحبا في المزيد منها؛ أن تعلمت اللغة الفارسية وقرأت الشعر الفارسي. وأعلام شعراء الفرس وأشدهم استيلاء على النفوس واستحواذا على القلوب هم الصوفية منهم. وقد أثروا تأثيرهم في الشعر الفارسي حتى لا يخلو شاعر فارسي من نفحة صوفية.
لبثت متشوقا إلى إقبال؛ أخباره وشعره وفلسفته. على قلة ما سمعت عنه، وعلى غموضه وعلى كثرة شواغلي.
وما أحسب علمي به زاد على هذه النتف من الأخبار، حتى صحبت الصديق الشاعر محمد عاكف رحمه الله - وكان صديقي ورفيقي وأنيسي في حلوان دار إقامتنا، وفي جامعة القاهرة - فأراني يوما ديوان پيام مشرق أحد دواوين الشاعر إقبال، وما قرأت من قبل ولا سمعت من شعر إقبال كثيرا ولا قليلا.
وقال محمد عاكف: إن صديقا - وأحسبه سفير تركيا في أفغانستان يومئذ - أرسله إلي. فأقبلنا على الديوان نقرأ معا فنعجب بالفكر والشعر، وننتقل في روضة أنف تلقى العين والنفس بهجتها من النوار والزهر، مختلف الألوان والأشكال، مؤتلف الرونق والجمال.
عرفت إقبالا في كلامه يومئذ، ولكنها معرفة من قرأ قليلا من كلامه، غير خبير بعباراته. ولا عارف بإشاراته ولا مدرك فلسفته ومذاهبه ودعوته ومقاصده.
ولا تزال نسخة پيام مشرق التي أعارني إياها الصديق محمد عاكف عندي عليها علاماته في مواضع الإعجاب. أو مواضع السجود من الشعر كما قال الفرزدق،
1
وهي عند ذكرى اللقاء الأول، لقاء إقبال في ديوان رسالة المشرق، وذكرى شاعر الإسلام محمد عاكف.
ثم أهدى إلي أحد مسلمي الهند - وقد عرف حبي إقبالا وحرصي على الاستزادة من كلامه - المنظومتين: أسرار خودي ورموز بي خودي. فرأيت فيهما أسلوبا بدعا من الفلسفة التي سماها فلسفة خودي «الذاتية»، وطريقة عجبا في الشعر، ومذهبا معجبا في التأليف بين مذهبه وبين الإسلام؛ عقائده وفلسفته وحضارته وتاريخه. وما زال أصحابي في بلاد العرب والعجم يتحفونني بما تناله أيديهم من دواوين إقبال، فأزداد معرفة به وإعجابا وحبا وغراما.
وشرعت أنشر ترجمة منثورة لشعره في مجلة الرسالة. ولا أدري كم واليت نشر قطع من شعر إقبال وعرفت به. وقد دعيت قبل وفاة الشاعر ببضع سنين وأنا في مدينة الإسكندرية إلى التحدث عنه. وكان الأدباء في بلاد العرب عرفوه بي، وعرفوني به. فتحدثت بما راع السامعين من فلسفة الشاعر وشعره.
وشرعت سنة 1936م أنظم منظومة سميتها اللمعات، وأهديتها إلى إقبال ونشرت مقدمتها في مجلة الرسالة.
2
وكان من سعادة الجد وغبطة العين والقلب، أن قدم إقبال مصر في طريقه إلى المؤتمر الإسلامي الذي اجتمع في المسجد الأقصى سنة 1931م.
ودعت جمعية الشبان المسلمين إلى الاحتفال بالرجل العظيم. واقترح أستاذنا الشيخ عبد الوهاب النجار - رحمه الله - أن أقدم محمد إقبال إلى الحضور؛ إذ كنت - على ضآلة معرفتي - أعرف الحاضرين به. وكان هذا شرفا لي وسرورا، وفاتحة من عالم الغيب لصحبة طويلة، صحبة المريد للمرشد، والتلميذ للأستاذ، ومقدمة لجهد مديد في الكتابة عن الشاعر والحديث عنه، وترجمة دواوينه إلى العربية.
تحدثت ما وسعت معرفتي، وأنشدت أبياتا من ديوان رسالة الشرق علقت بذهني.
وهي بالعربية فيما أتذكر:
يا من يطلب في المدرسة المعرفة والأدب والذوق! إن أحدا لا يشرب الخمر في مصنع الزجاج
قد زادت دروس حكماء الفرنج عقلي، وأنارت صحبة أصحاب البصائر قلبي
أخرج النغمة التي في قرار فطرتك. يا غافلا عن نفسك! أخلها من نغمات غيرك.
وكذلك أنشدت هذه الشطرات:
يا لك من يراعة
تصورت من نور
مسيرها سلسلة
الغياب والحضور
وسنة الظهور
وقلت له حين انفض المجلس: لا تؤاخذني، ليس في وسعي أن أنشد شعرك خيرا مما أنشدت. فقال: حسن! أنشدت صحيحا. ووقف إقبال بعد أن عرفت الحاضرين به تعريفا موجزا، فتكلم بالإنكليزية في أحوال المسلمين وتطور الفكر الإسلامي، وأفاض ما شاء علمه وبيانه. ومما وعيته من هذا الكلام قوله عن الصوفية: إنهم علماء النفس بين المسلمين.
وقد وكل إلى الأستاذ محمد الغمراوي أن يسجل خلاصة خطاب إقبال ويقرأها على الحضور. فكتب وحاول أن يترجم ما كتب ارتجالا، ثم رأى أن يترجم على روية وينشر الترجمة في مجلة الشبان المسلمين. وقد حرصت على لقاء الشاعر من بعد، ولكن ضيق الوقت قبل سفره إلى القدس لشهود المؤتمر الإسلامي لم يبلغني ما حرصت عليه إلا لقاء للوداع في محطة القاهرة.
ولبثت أكتب عن إقبال، وأترجم من شعره ما وسع وقتي، وعلى قدر فقهي وعلمي بسيرته حتى نعي إلينا في نيسان من سنة 1938م.
فكان كما قال أبو تمام: أصم بك الناعي وإن كان أسمعا.
وقد احتفلت جماعة الأخوة الإسلامية بتأبينه - وكنت يومئذ رئيس الجماعة - فكان لها حفلتان بقبة الغوري وجمعية الشبان المسلمين، وتكلمت في الحفلين وأنشدت من منظومة اللمعات التي نظمتها وأهديتها إلى إقبال. وأنشدت قصيدة ترجمتها من ديوانه «بانگ درا». وكان مما قلت في أحد خطاباتي في تأبين الشاعر العظيم:
في اليوم الحادي والعشرين من شهر نيسان/أبريل سنة 1938م، والساعة خمس من الصباح، في مدينة لاهور، مات رجل كان على هذه الأرض عالما روحيا يحاول أن ينشئ الناس نشأة أخرى، ويسن لهم في الحياة سنة جديدة.
وسكن فكر جوال جمع ما شاءت له سعته من معارف الشرق والغرب، ثم نقدها غير مستأسر لما يؤثر من مذاهب الفلاسفة، ولا مستكين لما يروى من أقوال العظماء.
ووقف قلب كبير كان يحاول أن يصوغ الأمة الإسلامية من كل ما وعى التاريخ من مآثر الأبطال وأعمال العظماء.
وقرت نفس حرة لا يحدها زمان ولا مكان، ولا يأسرها ماض ولا حاضر. فهي طليقة بين الأزل والأبد، خفاقة في ملكوت الله الذي لا يحد.
مات محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الذي وهب عقله وقلبه للمسلمين وللبشر أجمعين، الرجل الذي يخيل إلي - وأنا في نشوة شعره - أنه أعظم من أن يموت وأكبر من أن يناله حتى هذا الفناء الجثماني.
فاضت روح الرجل الكبير المحبوب في داره بلاهور، ورأسه في حجر خادمه القديم علي بخش، وهو يقول: إني لا أرهب الموت، أنا مسلم، أستقبل المنية راضيا مسرورا.
قرأت كلام إقبال في الحياة والموت، ورأيت استهانته بالحمام واستهزاءه بالذين يرهبونه. ما كان هذا خدعة الخيال ولا زخرف الشعر؛ فقد صدق إقبال دعوته في نفسه حين لقي الموت باسما راضيا.
جد المرض بإقبال وكان يقترب إلى الموت وهو متقد الفكر قوي القلب، يصوغ عقله كلمات يوقظ بها النفوس النائمة، وينثر قلبه شررا يشعل به القلوب الخامدة. وكان في شغل بنظم ديوانه الأخير «أرمغان حجاز»؛ هدية الحجاز، وكان قلب الشاعر يهفو إلى الحجاز. وكم تمنى أن يموت فيه. وقد ضمن هذه الأمنية دعاءه في كتابه رموز بي خودي.
ومما قال في أشهره الأخيرة:
آية المؤمن أن يلقى الردى
باسم الثغر سرورا ورضى
وقد أنشد هذين البيتين - وهما مما أنشأ أخيرا - قبل الموت بعشر دقائق وترجمتهما:
نغمات مضين لي هل تعود
أنسيم من الحجاز يعود؟
آذنت عيشتي بوشك رحيل
ألعلم الأسرار قلب جديد؟
وقد زرت من بعد قبره وداره. ولقيت ولده جاويد وخادمه علي بخش وسيقرأ القارئ هذا في الفصول الآتية.
ولما سافرت إلى مدينة دلهي عام 1947م، عزمت على السفر إلى لاهور، على بعد المشقة وظهور الفتن والقلق في أرجاء الهند. وما كان مثلي، وقد قدم الهند، ليصبر عن زيارة ضريح إقبال وداره. فأعددت للسفر إلى لاهور، ونظمت أربعة أبيات، وسألت نقاشا في دلهي القديمة أن ينقشها على لوح من الرخام، وحملتها معي وسلمتها إلى القوام على ضريح إقبال لتوضع هناك. والأبيات:
عربي يهدي لروضك زهرا
ذا فخار بروضه واعتزاز
كلمات تضمنت كل معنى
من ديار الإسلام في إيجاز
بلسان القرآن خطت ففيها
نفحات التنزيل والإعجاز
فاقبلنها، على ضآلة قدري
فهي في الحق «أرمغان الحجاز»
و«أرمغان الحجاز» في البيت الأخير معناها هدية الحجاز، وهو اسم آخر منظومة نظمها إقبال. وقد نشرت بعد وفاته.
وكان من عجائب الاتفاق أن بلغت لاهور قبل ذكرى وفاة إقبال بيومين، ولم أكن أعرف موعد هذه الذكرى، وكانت حفلة لي ولوفد من إيران رئيسه الصديق علي أصغر حكمت، عند ضريح إقبال، وكانت حجرة الضريح لم تكمل بناء.
وقد ألقيت كلمة في هذا الاحتفال جاء فيها:
إقبال!
يا شاعر الإسلام! أنرت مقاصده، وجلوت فضائله وأضأت سراجه، وأوضحت منهاجه، ودعوت المسلمين إلى المجد الذي يكافئ دعوتهم، ويلائم سنتهم، ويناسب تاريخهم.
إقبال!
يا شاعر الشرق! أشدت بمآثره، وفخرت بروحانيته، وأخذت على الغرب المادية الصماء، والغرور والكبرياء، ونقدت قادته، وزيفت سادته، دحضت باطلهم، وأبطلت سحرهم، ووقفتهم للحساب العدل، وأبنت ما لهم وما عليهم، وما أحسنوا وما أساءوا.
إقبال!
يا شاعر الحياة! عرفت معناها وكشفت عن قواها، وبصرت بمجراها ومنتهاها، وأوضحت منارها وصواها.
إقبال!
يا شاعر النفس! أثرت خفاياها، وأظهرت خباياها، وأبنت ما في «خودي» من كهرباء، فيها القوة والنار والضياء، ودعوت إلى إثارة معادنها، واستخراج دفائنها. وقلت:
أخرج النغمة التي في قرار فطنتك، يا غافلا عن نفسك! أخليها من نغمات غيرك.
إقبال!
يا شاعر بيخودي! أوضحت كيف يكون الإيثار، وكيف ينظم الفرد في الجماعة.
إقبال!
يا شاعر الحرية! أشدت بذكرها، وأكبرت من قدرها، ودعوت إليها كاملة، وأردتها شاملة، وأبغضت العبودية في شتى مظاهرها، ومختلف صورها.
إقبال!
يا شاعر الجهاد والدأب، والكدح والنصب. قلت إن الحياة جهاد مستمر، وكفاح لا يستقر، وإن الحياة في الموج الهائل، والموت في سكون الساحل.
إقبال!
يا شاعر التجديد والتقدم! قلت إن الحياة مجددة تكره التكرار، ومقدمة تأبى التقهقر. ودعوت الإنسان أن يمضي قدما في الحياة مقدما، له كل حين فكرة، وفي كل ساعة نغمة. وبينت أن الإقدام والابتكار، هما فرق ما بين العبيد والأحرار.
إقبال!
يا شاعر الجمال!
صورته في الأرض والسماء، واليبس والماء، وفي الصحاري الجرداء، والحدائق الغناء، وفي الصبح والمساء، والضياء والظلماء، وصورته في كل خلق كريم، ومنهج قويم.
إقبال!
يا شاعر الجلال! جلوته في الخالق والخليقة، وفي الهمم العالية، والعزائم الماضية، والأماني الكبيرة والمقاصد الجليلة.
إقبال!
أيها الشاعر الملهم! بانت لك الأسرار، ورفعت عن الغيوب لك الأستار. فرأيت الباطن كالظاهر، وأدركت المستقبل كالحاضر.
إقبال!
يا شاعر الإسلام، ويا شاعر الشرق، ويا شاعر الحياة، ويا شاعر الإنسانية، ويا شاعر الحرية والجهاد والتقدم والإقدام، ويا شاعر الجمال والجلال!
لقد حييتك على بعد الديار وشط المزار، وأشدت بذكرك وعرفت بقدرك وأهديت إليك اللمعات، جوابا لمنظومتيك «أسرار خودي» و«رموز بي خودي».
وأنا اليوم أحييك على القرب. وسيان في عظمتك القريب والبعيد. إن هذا الضياء لا يقيس المسافات، ولا تبعد عليه الغايات.
إن هذا الفكر الذي يطوي الآفاق، ويخترق السبع الطباق، لا تختلف عنده الأرجاء، فالداني والنائي لديه سواء.
كان مناي أن أزورك في حياتك، ثم تمنيت أن أزور ضريحك بعد مماتك. وهأنذا أشرف بأن ألقي أمامك هذه الكلمات، وأودع ضريحك هذه الزهرات:
عربي يهدي لروضك زهرا
ذا فخار بروضه واعتزاز «الأبيات المثبتة [سابقا]».
لقد ضمنت لك آثارك الخلود في هذه الدنيا، وعند الله جزاؤك في الأخرى، جزاء المجاهدين المخلصين.
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين .
ثم ذهبت أنا والصديق علي أصغر حكمت إلى دار إقبال، التي سكنها آخر عمره ومات فيها، وهي دار صغيرة المبنى كبيرة المعنى، تأخذها العين في نظرة، ويسافر فيها الفكر إلى غير نهاية.
وقابلنا هناك جاويد، وهو ابن الشاعر. ذكره في كثير من شعره، وأعرب عن أمله فيه، ورجائه في مخايله، وسمى باسمه المنظومة الرائعة «جاويد نامه». وجاويد معناه الخالد.
ورأينا حجرة كان الشاعر الخالد يكتب فيها شعره ومقالاته، وفيها فاضت روحه. وهي حجرة يستطيع شاعر بليغ أن يفصلها أبياتا خالدات، وقصائد سائرات.
لبثنا حينا في الدار ذات الذكر والعبر نحدث جاويد. وأهدى إلينا صورة والده. وإنها لذكرى عظيمة: صورة إقبال يهديها ابن إقبال في دار إقبال.
وكان علمي بإقبال يزداد على مر الزمان، فيزداد شغفي به، وإكباري إياه، وإيماني بمذهبه في هذه الحياة. فترجمت من شعره، وهممت بأن أترجم ديوانا من دواوينه، فلم يتسع وقتي، ولا تسنى مطلبي.
ولما بعثت إلى باكستان سفيرا لمصر هاج نفسي القرب، ولقيت بين الحين والحين من يحدث عن إقبال ومن رآه؛ فزحزحت الشواغل عن ساعات من الوقت شغلت فيها بإقبال. فترجمت ديوانين من دواوينه؛ ترجمت «رسالة المشرق» وطبعتها في كراجي حين الذكرى الثالثة عشرة لوفاة الشاعر، ثم ترجمت «ضرب الكليم» ونشرته في القاهرة حين الذكرى الرابعة عشرة. وأترجم اليوم - والله المستعان - ديوانين: «أسرار خودي» و«رموز بي خودي». وقد قاربت الفراغ منهما والحمد لله. وكم شاركت في الاحتفال بإقبال فقلت وسمعت، وكم جالست أحباء إقبال ومنهم من عاشره ووعى عنه عن كثب، وعرف معيشته في داره، ومجالسه بين أصحابه وسماره.
ولا تزال مجالس أصدقاء إقبال تجتمع عندي كل أسبوع مرة أو مرتين، فنقرأ شعره ونروي أخباره، ونستمع إلى حديث العارفين بفلسفته، المتوفرين على استكناه حقائقها واستجلاء أسرارها.
وكثيرا ما سمعت من هؤلاء الأصدقاء الذين سميتهم دراويش إقبال؛ أن هذه المجالس أحب شيء إليهم في هذه الدنيا، وأنها عندي لكذلك.
هذه كلمة أردت أن أعرف بها القراء إقبالا كما عرفته ؛ ليقبلوا على قراءة تاريخه وفلسفته وشعره في الفصول الآتية.
الباب الأول
سيرة إقبال
الفصل الأول
أسرته
يرجع نسب أسرة محمد إقبال إلى براهمة كشمير. أسلم أحد أجداده قبل ثلاثة قرون في عهد الدولة المغولية، كبرى الدول الإسلامية التي قامت في الهند. أسلم هذا الجد على يد الشيخ شاه همداني أحد أئمة المسلمين في ذلك العصر.
وهاجر محمد رفيق جد محمد إقبال من قرية لوهر في كشمير إلى مدينة سيالكوت من ولاية بنجاب. وكثير من أهل كشمير يهاجرون إلى سيالكوت طلبا للرزق؛ إذ كانت أقرب المدن إلى بلادهم، ومنها ينتشرون في أرجاء الهند. فكثير من أهل سيالكوت يرجعون إلى أصول كشميرية.
حل محمد رفيق في سيالكوت ومعه أخوة ثلاثة، أحدهم الشيخ محمد رمضان وكان صوفيا ألف كتبا كثيرة باللغة الفارسية.
وسعى محمد رفيق في طلب الرزق يعينه ابنه محمد نور أبو محمد إقبال.
وقد ذكر إقبال في مواضع من شعره أنه من سلالة البراهمة، لا يفخر بهذا الأصل بل يفخر بأن رجلا من سلالة البراهمة أدرك من حقائق الإسلام وأسراره ما أدرك.
يقول في ضرب كليم يخاطب «سيدا مصابا بالفلسفة»:
وإنني في الأصل سومناتي
إلى مناة نسبي واللات
وأنت من أولاد هاشمي
وطينتي من نسل برهمي
ويقول في أبيات أخرى عنوانها: إلى أمراء العرب:
هل يسعد الكافر الهندي منطقه
مخاطبا أمراء العرب في أدب
ويقول في پيام مشرق:
انظر إلي فما ترى في الهند غيري رجلا من سلالة البراهمة عارفا بأسرار الروم وتبريز.
وفي شعر آخر:
قد قامر الأمراء بالدين والقلب في حلبة السياسة، فما ترى غير ابن البرهمن محرما للأسرار.
ويقول في بال جبريل في قصيدة مسجد قرطبة:
أنا كافر هندي فانظر إلى شوقي وذوقي، ملء قلبي الصلاة والسلام، وعلى شفتي الصلاة والسلام.
ويقول في هجرة أسرته من كشمير:
لقد هجر الدر أرض اليمن
ونافجة المسك أرض الختن
وبلبل كشمير في الهند ثاو
بعيدا من الروض خار الوطن
والدا إقبال
كان والداه صالحين تقيين؛ فأما أبوه فكان متصوفا عاملا كادحا في كسب رزقه يعمل لدينه ودنياه.
ويؤثر عنه أنه قال لإقبال حين رآه يكثر قراءة القرآن: إن أردت أن تفقه القرآن فاقرأه كأنه أنزل عليك.
وهذه قصة نظمها إقبال في كتاب رموز بي خودي:
سائل كالقضاء المبرم. طرق بابنا طرقا متواليا. فثرت غضبا وضربته بعصا على رأسه؛ فتبعثر ما جمعه بسؤاله. والعقل أيام الشباب لا يفرق بين ضلال وصواب. ورآني والدي فاغتم واربد وجهه وتأوه، وسال الدمع من عينيه. واضطربت روحي الغافلة وطار لبي.
قال أبي: تجتمع غدا أمة خير البشر، تجتمع أمام مولاها، ويحشر غزاة الملة البيضاء وحكماؤها والشهداء، وهم حجة الدين وأنجم هذه الأمة، والزهاد والوالهون والعلماء والعصاة.
ويأتي هذا السائل المسكين صائحا في هذا المحشر شاكيا.
فماذا أقول إذ قال لي النبي: إن الله أودعك شابا مسلما، فلم تؤدبه بأدبي، بل لم تستطع أن تجعله إنسانا.
فتمثل عتاب النبي الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف والرجاء. تفكر قليلا يا بني. اذكر اجتماع أمة خير البشر.
انظر يا بني إلى شيبي، واضطرابي وقلقي. ولا تقس على أبيك ولا تفضحه أمام مولاه. إنك كم في غصن المصطفى، فكن وردة من نسيم ربيعه. خذ من ربيعه نصيبا من الريح واللون. لا بد لك أن تظفر من خلقه بنصيب.
وأم إقبال كانت تقية ورعة حتى كانت تتحرج أن تأكل من وظيفة زوجها؛ إذ كان يعمل مع رئيس عرف بأكل بالرشوة، ولم تكن وظيفة زوجها من مال هذا الرئيس، ولكن كذلك كان ورعها.
ولإقبال في أمه قصيدة طويلة من ديوانه «بانگث درا» يقول فيها:
ساميت النجم بتربيتك، وكان فخر الآباء والأجداد بيتك. كانت حياتك صفحة مذهبة في كتاب الكون، كانت قدوة في الدين والدنيا.
عمر محمد نور والد إقبال زهاء مائة سنة، وكف بصره في سن الثمانين، وتوفي 17 آب سنة 1930، وتوفيت والدة إقبال في 14 تشرين الثاني سنة 1914 وسنها ثمان وسبعون سنة.
1
مولد إقبال
في هذا البيت الطاهر ولد وليد سمته أمه محمد إقبال. ويروى أن والده رأى قبل مولده حمامة بيضاء ناصعة تطير فتقع في حجره وتسكن إليه، وعبرت الرؤيا أنه سيرزق ابنا عظيم الجد والإقبال يعلو على الناس.
ولد محمد إقبال في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة 1289ه / 22 شباط سنة 1873م. ولم يأبه أحد بمولد هذا الطفل إلا كما تأبه أسرة فقيرة بمولد ابن فيها.
ولكن الله تعالى كان يعلم يوم مولد إقبال أن قد ولد في هذا البيت الصغير من مدينة سيالكوت رجل يعلو فكره وقلبه على حدود الأوطان والأزمان، أن قد ولد فيلسوف نابغ وشاعر مبدع من الذين يهبهم الله البشر في العصر بعد العصر؛ ليخلقوا ويجددوا ويهدوا على هذه الأرض.
إن لهذا الطفل الوليد لأثرا باقيا في تاريخ أمته وتاريخ المسلمين وتاريخ البشر أجمعين.
الفصل الثاني
في سيالكوت
من الميلاد إلى سن اثنتين وعشرين
بدأ إقبال التعليم في طفولته على أبيه، ثم أدخل مكتبا ليتعلم القرآن. ولا ندري كم حفظ إقبال من كتاب الله في طفولته. ولا ريب أنه حفظ كثيرا منه في هذه السن وبعدها؛ إذ كان في كبره يعلم القرآن. وكثرة اقتباسه من القرآن في شعره تدل على أن القرآن كان في قلبه ولسانه. ثم أدخل الصبي مدرسة البعثة الأسكوتية
1
في سيالكوت. ويقال إن أباه أدخله هذه المدرسة؛ ليكون في رعاية صديقه مير حسن. وكان أستاذا أديبا متضلعا في الأدب الفارسي عارفا بالعربية.
وقد امتاز إقبال بذكائه وجده، ففاق أترابه، ونال جوائز كثيرة.
ومن نوادره أنه وهو في سن العاشرة، جاء إلى المدرسة متأخرا فسئل عن تأخره فقال: الإقبال يأتي متأخرا.
وحينما كان في السنة الرابعة - في نظام التعليم في هذه المدرسة وليست بعيدة من الرابعة في التعليم الابتدائي عندنا - أخذه والده إلى صديقه مير حسن وقال: أريد أن تعلمه الدين بدل ما يتعلمه في المدرسة. فأجاب الأستاذ مبتسما: هذا الصبي ليس لتعليم المساجد وسيبقى في المدرسة.
ولبث إقبال من ذلك الحين إلى أن أتم الدراسة في كلية البعثة الأسكوتية في رعاية مير حسن وتأديبه.
ورأى الأستاذ من ذكائه ومخايله، بل من قوله وفعله، ما زاده إعجابا به وتأميلا فيه؛ فعني بتلقينه الدين والعربية والفارسية.
ولما رآه ينظم الشعر وعرف موهبته فيه، أرشده وحرضه وحسن له أن ينظم باللغة الأردية مكان البنجابية.
مير حسن
يقترن ذكر مير حسن بسيرة إقبال، ويشاد بأثر هذا الأستاذ في تأديب تلميذه. فيحسن أن نعرف به بعض التعريف:
2
هو من المنتسبين إلى آل البيت، وكان أستاذ اللغة العربية في كلية سيالكوت، وكان متضلعا في الأدب الفارسي. وكان علما من أعلام البلد، يعرفه الصغير والكبير، مهيبا مبجلا. وكان ضعيف البصر يمشي الهوينى متوكئا على عصا طويلة. ويسير من داره إلى الكلية مسافة ميلين في ساعة، وكان لا يتأخر عن موعده دقيقة.
وقد اقترح عليه عميد الكلية أن يركب عربة على أن تؤدي له الكلية أجرتها. فقال له: أتريد أن أفقد في العربات ما بقي لي من قوة؟! وكان مضرب المثل في ضبط الوقت والتزام المواقيت. واتفق أن تأخر مرة عن اجتماع في الكلية دقيقتين؛ فكان هذا حديثا عجيبا بين زملائه. ومن لطائفه أن عميد الكلية قال له حينما جاء متأخرا:
لقد لبثنا دقيقتين ننتظرك. فأجاب فورا: لا بأس لقد انتظرتك سنين حتى جئت إلى هذا العالم. وكان العميد أصغر منه سنا.
وقد بلغ من هيبته أن الأساتذة والطلبة كانوا إذا رأوه قادما خلوا له الطريق أو أفسحوا له. وكان الطلبة الذين يقرءون عليه العربية يجدون منه شدة وتقريعا أول الأمر، فإذا جاوز المرحلة الأولى أفادوا كثيرا من غزارة علمه.
ولم يكن الشيخ، على هذا، غليظا جافا بل كان ظريفا فكها في مواضع الظرف والتفكه.
وقد وفى إقبال لأستاذه فأشاد بذكره في شعره. ولما عرض على إقبال لقب «سير» كما ترى فيما يأتي، اشترط أن يمنح أستاذه لقب شمس العلماء؛ فأجيب إلى ما اشترط.
نظم الشعر
وكان إقبال في هذه المرحلة من عمره ينظم الشعر، ويزداد على مر الأيام إحسانا فيه. وكان يرسل بين الحين والحين شعره إلى الشاعر داغ أحد شعراء الأردية النابهين. ونظر الشاعر الكبير في قصائد الشاعر الشادي، ثم كتب إليه أن لا ترسل إلي شعرك فما يحتاج إلى تنقيح.
وعاش داغ حتى ذاع صيت إقبال وبلغ في الشعر ما بلغ؛ فكان يفخر بأنه نقح شعر إقبال في صباه.
وفرغ إقبال من الدرس في الكلية الأسكوتية سنة 1895، وسنه زهاء اثنتين وعشرين سنة.
الفصل الثالث
في لاهور إلى سنة 1905
انتقل الشاب الذكي الطلعة الشاعر الذي فاق أترابه في المدارس، انتقل إلى لاهور حاضرة ولاية بنجاب وإحدى مدن الهند الكبرى. وهي أول مدينة في الهند اتخذتها دولة إسلامية دار ملك. صارت عاصمة الدولة الغزنوية حينما غلبت على أفغانستان فلم يبق لها إلا ما فتحته من أرض الهند. وبقيت هذه المدينة الكبيرة في مقدمة مدن الهند حضارة وعلما وفنا.
وكانت حين قصد إليها إقبال قبل نصف قرن، مباءة علم وأدب، تعمل مجامعها في نشر الأدب الأردي وإحلاله محل الأدب الفارسي. وتألفت فيها مجامع أدبية تدعو بين الحين والحين إلى محافل ينشد فيها الشعراء عيون أشعارها، ويسمى هذا مشاعرة، والمشاعرة سنة شائعة في باكستان والهند حتى اليوم. •••
دخل إقبال كلية الحكومة في هذه المدينة؛ ليتم تعلمه وجد في الدرس كدأبه. وكان موضع الإعجاب في ذكائه وعلمه وأدبه.
ومما يؤثر عنه في ذلك الحين - وهي أثارة ذات دلالة بليغة - أنه أخذ على أحد علماء الدين كذبا فبلغ من نفسه هذا المنكر. فلبث أياما مكتئبا حتى سأله أستاذه توماس آرنلد فقص عليه القصة. فقال الأستاذ: سترى كثيرا من هذا في حياتك.
استمر إقبال في دراسته حتى نال الدرجة التي تسمى في نظام التعليم الإنكليزي
B. A.
وجلى في امتحان العربية والإنكليزية، ونال جوائز التفوق وذلكم سنة 1897م.
ثم تابع الدراسة إلى درجة
M. A. «أستاذ في الفن» في الفلسفة حتى أتم دراسته مجليا نائلا جائزة أخرى من الكلية.
وتلمذ إقبال في هذه الكلية لأستاذ الفلسفة الإسلامية السير توماس آرنلد.
توماس آرنلد
ويحبب إلي أن أسجل ذكرا عن هذا الأستاذ الجليل وفاء بحقه على إقبال وعلى المسلمين كافة:
كان أستاذ العربية في جامعة لندن، ثم أستاذ الفلسفة في جامعة عليكره فكلية الحكومة في لاهور.
وكان واسع العلم ثبتا متواضعا منصفا نصيرا للمسلمين محبا للحضارة الإسلامية.
وقد ألف كتابه «دعوة الإسلام»
1
ليبين أن الإسلام انتشر بالدعوة لا بالقوة، ففصل تاريخ انتشار الإسلام ولا سيما في الجهات التي لم يكن للمسلمين فيها سلطان. وقد أخبرني أنه تعلم اللغة الهولندية؛ ليقرأ السجلات التي تبين انتشار الإسلام في جزيرة جاوه وما يتصل بها. وكتابه هذا وحيد في بابه لم يؤلف مثله مسلم ولا غير مسلم.
ولما ألغى مصطفى كمال الخلافة كتب كتابه «الخلافة»، وهو شاهد بسعة علمه ونفاذ فكره.
وقد عرفته في لندن في مدرسة اللغات الشرقية، فأنست به وأحببته وجرأني على صحبته لين جانبه ودماثة خلقه.
وكنت أسأله عما يشكل علي وأنا أكتب رسالتي في «التصوف وفريد الدين العطار».
وقد عرفت فيه التواضع والتثبت، فكان يحب أن يقول: لا أدري، إن لم يكن على بينة مما يسأل عنه. وكان كثيرا ما يسألني حين أحدثه في أمر: أأنت على يقين من هذا؟
وكان يحب العادات الإسلامية ويميل إلى أزيائنا وسنننا. أذكر أني تعشيت معه في داره، فبدأ الطعام قائلا: بسم الله، وودعني حين الانصراف قائلا: في أمان الله.
وجاء إلى مصر بدعوة من جامعة القاهرة، وآثر النزول في حلوان، وهي دار إقامتي، ثم انتقل إلى المعادي. وكنت أقابله بين الحين والحين، وكان يزورني في ليالي رمضان؛ التماسا لسماع القرآن.
وذهبت إليه مرة في الفندق الذي نزل به في حلوان، فأخرج من حقيبته عمامة وطربوشا، وقال: أرني كيف تكور العمامة، ثم قال: أرني أوثر العمامة والجبة وأشعر حين ألبسهما أني في زي أستاذ كما أشعر أني صبي حين ألبس هذه الملابس. وأشار إلى الملابس الإفرنجية التي كان يلبسها.
وأذكر أنا اجتمعنا على مائدة في دارنا ومعنا الكبتن كننج الإنكليزي، وكان هذا معنيا بالبلاد العربية. وقد سعى في تأييد الأمير عبد الكريم حينما حارب الإسبان في الريف، فقال لي كننج: قرأت التاريخ فأنبئني أي الفريقين كان أكثر سماحة وسجاحة المسلمون أم النصارى؟ قلت: يجيب هذا السؤال أستاذنا توماس آرنولد. فقال الأستاذ فورا: لا ريب أن المسلمين كانوا أكثر تسامحا من النصارى.
وقال لي يوما وقد ذكرنا إقبالا: إنه تلميذي. قلت: هو إذا شاب. قال: أتحسبه شابا بأنه كان تلميذي. أنت لا تدري كم سني.
هذه ذكر لا تعرف بالسير توماس آرنولد، ولكني أذكرها اعتزازا بها، وحبا لذكر هذا الأستاذ الكريم أستاذ إقبال، ولعل أحد الكاتبين عنه يجد فيها فائدة.
هذا الأستاذ عرف إقبالا وقدر مواهبه، فقربه وحرضه على الاستزادة من العلم، وتوكدت بينهما صداقة، صداقة التلميذ المتطلع البار والأستاذ العالم المخلص.
فلما فارق آرنولد لاهور راجعا إلى وطنه نظم تلميذه الوفي قصيدة عنوانها: «نواح الفراق»، أعرب فيها عن حبه أستاذه وإكباره إياه وتحسره لفراقه.
بعد إتمام الدراسة
فرغ إقبال من تحصيل العلم في الكلية، فاختير لتدريس التاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية في لاهور.
2
ثم نصب لتدريس الفلسفة واللغة الإنكليزية بكلية الحكومة التي تخرج فيها.
وقد نال إعجاب تلاميذه وزملائه بسعة علمه وحسن خلقه، وسداد رأيه، واتجهت الأبصار إليه، وذاع ذكره حتى صار من أساتذة لاهور النابهين.
وفي ذلك الحين دخل في خدمته خادمه الوفي علي بخش، وأستأذن القارئ في التعريج على علي بخش، خادم إقبال الأمين الذي صحبه طول حياته، وصحب أولاده بعد مماته. وملازمة هذا الرجل إقبالا منذ دخل في خدمته حتى فرق بينهما الموت، يدل على لين إقبال ويسر معاملته. روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «خدمت النبي
صلى الله عليه وسلم
عشر سنين، فما قال لي في شيء فعلته: لم فعلته؟ ولا في شيء تركته: لم تركته؟»
3
وقد حدثني بعض من صحبوا إقبالا أو زاروه أنه كان يجلس في داره فيدخل عليه من يشاء فيسأله عما يشاء، وعلي بخش قريب منه يلبي دعوته ويقضي ما يأمره به ويحرص على أن يمد أرجيلته بالنار كلما خبت. وكان الشاعر مولعا بها لا يكاد يفتر عنها في مجلسه.
واقترن ذكر علي بخش بكثير من سيرة إقبال. وقد حرصت على أن أراه في دار إقبال حينما ذهبت إلى لاهور فلقيته، وأخذت صورتي معه في ربيع السنة الماضية. وراسلته بعد من كراجي.
في محافل الأدب في لاهور
لبث الشاعر النابغ في لاهور عشر سنين، منذ قدم إليها من سيالكوت، إلى أن سافر إلى أوروبا.
أتم دراسته في كلية الحكومة، ثم درس في الكلية الإسلامية فالكلية التي تخرج فيها. فعرفت مدارس لاهور ومجامع الأدب فيها شابا وسيما قويا يتقد ذكاء وشوقا إلى المعرفة، ويتطلع إلى التزود من العلم إلى غير نهاية.
وقد دوى صوت إقبال في محافل الأدب ينشد قصائده. وحرصت الصحف على نشر شعره. وأيقن الشعراء والعلماء أن لهذا الشاب شأنا، ولكن لم يحزروا الشأو البعيد الذي يبلغه الشاعر؛ إذ كان شأوا لا يدركه إلا إقبالا وقليل من أمثاله في تاريخ البشر.
وأول قصائده الرنانة التي ألقيت في جمع حاشد قصيدته التي أنشدها في الحفل السنوي لجماعة حماية الإسلام في لاهور «أنجمن حماية إسلام» سنة 1899 وعنوانها أنين يتيم «ناله يتيمي»، وفي السنة التالية أنشد في حفل هذه الجماعة قصيدة يخاطب فيها يتيم هلال العيد.
ومن القصائد التي نبهت الناس إليه قصيدة همالا، التي أنشدها في أحد المحافل الأدبية. وقد سأله كثير من أصحاب الصحف أن ينشروها فأبى، ثم أذن بنشرها في صحيفة المخزن سنة 1901 ثم نشرت قصائده في صحف أخرى من بعد.
وكذلك أنشأ إقبال في ذلك الحين قصائد تعرض فيها للسياسة.
وترجم إقبال في هذه المرحلة من عمره قصائد من اللغة الإنكليزية. ونشر أول كتاب له، وهو كتاب في الاقتصاد باللغة الأردية.
وفي هذه السنين كان يفكر في نظم ملحمة على غرار ملتن الشاعر الإنكليزي.
كتب إلى أحد أصدقائه سنة 1903:
أنا منذ زمن طويل أنزع إلى أن أكتب على طريقة ملتن «الفردوس المفقود وغيره»، وأحسب أن الوقت قد حان. فما تمضي ساعة هذه الأيام دون تفكير في هذا الأمر. لبثت أفكر في هذا طول خمس سنين أو ست، ولكن لم أشعر بالنزوع إليه كما أشعر اليوم.
الفصل الرابع
سفره إلى أوروبا
عزم إقبال على الرحيل إلى أوروبا للتزود من العلم، اتباعا لمشورة السير توماس آرنولد، وسنه يومئذ اثنتان وثلاثون سنة.
وخرج معه بعض أصدقائه لتوديعه إلى دلهي. وبلغ إقبال وصحبه مدينة دلهي صبح الثاني من شهر أيلول سنة 1905. فاستقبلهم في محطة دلهي جماعة فيهم السيد حسن نظامي الدهلوي من أحفاد نظام الدين أوليا، وبعد أن استراح قليلا في دار أحد مستقبليه توجه إلى مزار الشيخ نظام الدين أوليا، وهو من أعظم مزارات الهند مكانة وأكثرها قصادا،
1
وهو في أطراف مدينة دلهي.
وفي طريقه مر على مزار السلطان همايون ثاني ملوك الدولة المغولية، وهو أول مزار شيد لملوك هذه الدولة في الهند. فقد توفي أبوه بابر مؤسس الدولة في كابل ودفن فيها.
2
ولما بلغ مزار نظام الدين أنشد قصيدة باللغة الأردية إنشادا شاجيا.
يقول في هذه القصيدة بعد مدح نظام الدين:
أسير عن الوطن الجميل، تجذبني لذة شراب المعرفة. إني شجرة برية ترمق سحاب الجود، لم يحوجني الله إلى بستاني.
ويقول:
منيتي أن أكون خادم خلق الله ما حييت، لا أتمنى عمرا خالدا
منيتي أن أضع جبيني على أقدام الوالدين، لقد صيرني الوله محرم أسرار الحب.
وفي هذه القصيدة نفحات من شعر إقبال ومن فلسفته، الفلسفة والشعر اللذين شاعا من بعد فملآ الآفاق نورا ونارا.
وخرج من المزار إلى دار السيد حسن نظامي، فتلبث بها قليلا وسمع إنشاد قوال هناك.
3
ثم رجع إلى المدينة دلهي، ومر في طريقه على قبر الشاعر الكبير الذي هو أعظم شعراء المسلمين في الهند قبل إقبال، ميرزا أسد الله غالب المتوفى سنة 1869م.
وقد استأذن القوال في إنشاد بيت لغالب، واستمع إقبال مأخوذا بالشعر والذكرى، فلما هم الحاضرون بالانصراف قبل قبر الشاعر العظيم وانصرف. ومثل إقبال يقدر شعر غالب ويخشع لذكراه ويلثم قبره.
إقبال في أوروبا
توجه إقبال إلى بمباي، فركب سفينة قاصدا إنكلترا، والتحق بجامعة كمبردج لدرس الفلسفة، وتلمذ للأستاذ الدكتور ميكتاكرت. وعكف على المطالعة في مكتبة الجامعة، ونال من هذه الجامعة درجة في فلسفة الأخلاق، ثم سافر إلى ألمانيا فتعلم الألمانية في زمن قليل، والتحق بجامعة ميونخ . وكتب رسالته «تطور ما وراء الطبيعة في فارس»،
4
وهي أول كتاب في الفلسفة عرف الناس بمقدرة إقبال على النظر والبحث، وسعة اطلاعه في الفلسفة. وقد أهدى الكتاب إلى أستاذه توماس آرنلد، ونشره في لندن.
عاد إقبال إلى لندن، فدرس القانون، وجاز امتحان المحاماة، والتحق كذلك بمدرسة العلوم السياسية زمنا.
وكان الأستاذ آرنلد حينئذ أستاذ العربية في جامعة لندن، واضطر إلى الانقطاع عن عمله ثلاثة أشهر، فاختار إقبالا ليخلفه في عمله.
ولم يأل محمد إقبال - وهو في أوروبا - في لقاء العلماء والتحدث إليهم ومداولة الرأي معهم في قضايا من العلم والفلسفة. وكان كدأبه طول عمره مولعا بالقراءة والاستزادة من المعرفة جهد الطاقة.
حدثني الشيخ سيد طلحة، وكان أستاذا في جامعة بنجاب، قال: حدثني خادم مكتبة الجامعة أنه لم ير أحدا كإقبال حرصا على مطالعة الكتب والنظر فيها والاستزادة منها.
وكان إقبال في أوروبا ذلك الحين كثير التحدث عن الإسلام وثقافته وحضارته، وألقى محاضرات في الإسلام نشرتها الصحف الكبيرة، وقد دلت آراؤه وشعره من بعد، أنه لم يعجب بحضارة أوروبا، ولم يخل عليه تمويهها، ولا أبرق عينه لألاؤها. ومما أنشأ قبل عودته إلى الهند قوله:
يا ساكني ديار الغرب، ليست أرض الله حانوتا. إن الذي توهمتموه ذهبا خالصا سترونه زائفا، وإن حضارتكم ستبخع نفسها بخنجرها. إن العش الذي يبنى على غصن دقيق لا يثبت.
وكان بعد أن علم ما علم ورأى ما رأى في الهند وأوروبا يتنازعه طريقتان في الحياة؛ طريقة العمل وطريقة الفكر. وبدا له حينا أن يهجر الشعر ويغامر فيما يغامر الناس فيه، ولكن صديقه السير عبد القادر وأستاذه آرنلد حسنا له أن يدوم على نظم الشعر.
وما كان أعظمها خسارة للأدب الإسلامي وأدب العالم كله وللإنسانية جميعها لو هجر إقبال الشعر فلم يخرج للناس دواوينه التسعة.
الفصل الخامس
إقبال في وطنه
لبث إقبال في أوروبا زهاء ثلاث سنين، ثم رجع إلى وطنه سنة 1908م.
ولما مر بدلهي استقبله أصدقاؤه وعارفوه كما ودعوه قبل ثلاث سنين. وذهب إلى مزار نظام الدين أوليا كما ذهب إليه حين سفره إلى أوروبا.
وليت شعري أعنى إقبال بهذه الزيارة أن يبين أنه على العهد لم يغيره السفر إلى أوروبا، ولم يرعه ما رأى فيها وما سمع، ولم تفتنه فتنتها ولا سحرته حضارتها؟ والحق أنه نظر واعتبر، وملك عقله وقلبه.
بلغ إقبال لاهور في السابع والعشرين من حزيران سنة 1908 واحتفل كثير من أهل لاهور بعودته بعد غيبة ثلاث سنين، وتعددت المجامع للترحيب بعود الرجل النابغ الذي افتقده أصحابه والمعجبون به زمنا طويلا، وأنشدت في هذه المجامع قصائد جاء في واحدة منها بيت معناه:
طال حنيننا إلى شعرك يا من طبق الآفاق صيته في الشعر.
وفي هذا دلالة على أن الناس كانوا ألفوا أن يقرءوا شعر إقبال في الفينة بعد الفينة، فافتقدوه في هذه الفترة، وعلى أن إقبالا كان له صيت في الشعر قبل سفره إلى أوروبا. (1) في المحاماة
نال إقبال إجازة المحاماة في لندن، وهو اليوم في لاهور يمتهن المحاماة. وكان لإقبال من ذكائه وعلمه وبيانه ما يؤهله لأن يبلغ في المحاماة أعلى الدرجات، ولكن الرجل خلق لغيرها، ورشح لما هو أجل وأعلى. وإنما أراد بها كسب الكفاف ليفرغ للرسالة التي حملها في هذه الحياة، الرسالة التي تنطق بها فلسفته وسيرته وشعره ونثره.
وحدثت أنه كان يسأل وكيله كم عندك؟ فإن عرف أن عنده ما ينفق منه إلى آخر الشهر لم يرغب في قبول قضايا حتى الشهر التالي، وأنه كان لا يقبل وكالة في قضية حتى يعلم أن وكيله محق في القضية التي يوكله فيها، وأنه يستطيع أن يأخذ له حقه.
وقد داوم على المحاماة حتى سنة 1934م قبل وفاته بأربع سنوات إذ اضطره المرض إلى تركها.
وسئل مرة ألم ينسه عمله الكثير يوما قضية من قضاياه. فقال: كنت في مكتبة المحكمة فجاءني أحد موكلي يخبرني أن قضيته أمام القاضي. قلت إن لقضيتك يوما آخر. ولكنه ألح علي أن أذهب معه إلى قاعة القضاء. فقلت للقاضي : إن لقضية الرجل موعدا آخر. فنظر القاضي في الأوراق فتبين أن القضية قدمت إليه خطأ قبل موعدها.
وفي هذه القصة دلالة على أن الشاعر الفيلسوف السياسي لم يشغله الشعر والفلسفة والسياسة عن قضاياه ومواعيده. (2) في التعليم
رجع إقبال إلى التدريس في كلية الحكومة التي تخرج فيها، والتي درس بها من قبل، فعلم الفلسفة والأدب العربي والأدب الإنكليزي. وكان راتبه منها خمسمائة روبية.
ثم استقال من الكلية بعد أن عمل بها نحو سنة ونصف، واكتفى بالمحاماة.
وحدث خادمه الوفي، علي بخش، قال:
سألته حين استقال من الكلية لماذا استقلت؟ فأجاب: يا علي بخش إن خدمة الإنكليز عسيرة، وأعسر ما فيها أني لا أستطيع أن أحدث الناس بما في نفسي ما دمت في خدمتهم. وأنا اليوم حر، ما شئت قلت، وما شئت فعلت.
استقالة إقبال من الكلية لم تقطع صلته بالجامعة؛ فكان يعمل في مجالسها ولجانها. وقد لبث سنين عميدا لكلية الدراسات الشرقية ورئيسا لقسم الدراسات الفلسفية.
ويظهر أن النظام الإنكليزي في الجامعات يجيز أن يتولى أستاذ مثل هذه الأعمال دون أن يكون موظفا في الجامعة.
وكان ذا صلة دائمة بالكلية الإسلامية في لاهور، وكذلك كان كثير الاهتمام بالجامعة الملية في دلهي، دائم الاتصال بها.
وفي مؤتمر المائدة المستديرة عمل في لجان نظرت في إصلاح التعليم في الهند.
وفي سنة 1933 دعي هو والشيخ سليمان الندوي والسير رأس مسعود إلى كابل للنظر في التعليم عامة، وفي نظام جامعة كابل خاصة. وعملت حكومة الأفغان بأكثر ما أوصى به.
وأعظم ما أمد به إقبال التعليم والتربية، فلسفته في الذاتية. وقد طبقها على التربية والتعليم والفنون في كثير من شعره.
وقد كتب في هذا أحد المعلمين النابهين الأستاذ سيدين كتابا اسمه فلسفة إقبال التعليمية.
1
محاضرات في أرجاء الهند
كان العلامة إقبال
2
دائم الاتصال بمعاهد العلم في لاهور وغيرها، وكانت الجامعات تدعوه إلى زيارتها والمحاضرة فيها.
دعي إلى مدراس سنة 1928، فألقى محاضرات هناك، وبدأ محاضراته الست التي أكملها من بعد في إله آبادو عليكره، والتي جمعت فسميت : «إصلاح الأفكار الدينية في الإسلام».
3
وهي أعظم ما كتب إقبال في الفلسفة.
ثم ذهب إلى بنگلور في إمارة ميسور أوائل سنة 1929م فلقي حفاوة بالغة، ودعاه المهاراجا إلى مدينة ميسور فذهب إليها، وحاضر في جامعتها، واحتفل الناس به كثيرا. وقال أحد أساتذة الهنادك في إحدى الحفلات:
يقول المسلمون: إن الدكتور إقبالا لهم، والحق أنه لنا جميعا لا يختص جماعة أو دينا. فإن افتخر المسلمون بأنه أخوهم في الدين فنحن نفتخر بأن إقبالا هندي.
وفي هذه السفرة زار إقبال قبر السلطان حيدر علي وقبر ابنه السلطان تيبو، وأصغى في خشوع إلى قصيدة أنشدها شاعر على قبر «تيبو سلطان». وإقبال من المعجبين بهذا الملك، وقد ذكره في كثير من شعره، شأنه في الإعجاب بالأحرار الشجعان المجاهدين الذين يلقون الموت في سبيل الحق صابرين راضين محتسبين. والسلطان تيبو - ويسمى في الهند تيبو سلطان - جاهد الإنكليز جهادا كبيرا ولم يقعده عن جهادهم إلا الموت.
وقد اجتهد في أن يستعين على الإنكليز بعض الدول الإسلامية، كما حاول أن يحالف نابليون عليهم. وكان نابليون حينئذ في مصر. وقد جمع له الإنكليز ما استطاعوا وحاصروه. فلما يئس من النصر أنف عن ذل الأسر، فألقى بنفسه من قلعة فمات سنة 1213ه.
ثم توجه إقبال تلقاء حيدر آباد فبلغها في الرابع عشر من كانون الثاني، وازدحم الناس لاستقباله. واصطف الصبيان ينشدون نشيد إقبال القومي. ودعاه نظام حيدر آباد فنزل في ضيافته أياما.
في الجامعة الإسلامية
ودعا الدكتور الأنصاري - رحمه الله - سنة 1932م حسين رءوف بك إلى القدوم إلى الهند وإلقاء محاضرات في الجامعة الإسلامية. وحسين رءوف عرف في العالم الإسلامي منذ حرب تركيا وإيطاليا سنة 1911؛ إذ كان ربان المدرعة حميدية، فغامر بها في البحر الأبيض وأغرق كثيرا من سفن الطليان.
وقد شارك في أحداث تركيا حربا وسلما حتى تولى رياسة الوزراء أيام حرب الاستقلال.
جاء حسين رءوف إلى دلهي فألقى محاضرات في الجامعة على جمع حاشد. وقد رأس إحدى الحفلات محمد إقبال فتكلم بعد حسين رءوف في اتحاد المسلمين ، وأبطل دعوة الوطنية بينهم وأبان عن مفاسدها.
ثم رأس اجتماعا آخر، ورجا الناس أن يسمعوا منه مثل ما سمعوا في اليوم الأول، ولكنه اكتفى بكلام قليل ختمه بهذه الفكاهة: ذهب إلى إبليس جماعة من تلاميذه أيام الحرب العظمى «الحرب العالمية الأولى»، فوجدوه خاليا ساكنا يدخن سيجارا، فسألوه كيف جلس خاليا فارغا من العمل؟ فأجاب: وكلت كل أعمالي إلى الحكومة البريطانية هذه الأيام.
وبعد أشهر عاد إقبال إلى الجامعة الإسلامية في دلهي، فألقى محاضرة موضوعها السفر من لندن إلى قرطبة. وحدثني الأستاذ أحمد برويز أنه سمع هذه المحاضرة، فرأى كيف اجتمع عقل إقبال وقلبه وعلمه وأدبه على الإعجاب بآثار العرب في الأندلس، والإشادة بها. وحدث في هذه المحاضرة عن لقائه الفيلسوف برجسون في باريس وتحدثه معه في الفلسفة وفي أمور من الإسلام كان يجهلها الفيلسوف.
وفي هذا الصدد أذكر ما روي عن إقبال أنه حدث برجسون في الزمان - ولهذا الفيلسوف نظرية فيه توافق فلسفة إقبال من بعض الوجوه، وأن برجسون وثب من كرسيه عجبا حينما ذكر إقبال الأثر المعروف: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.» وهذا الأثر مضمن في شعر إقبال في منظومته رموز بي خودي.
احتفل بإقبال في الجامعة الإسلامية وتكلم كثير في الإشادة بأدبه، وكان ممن تكلم هناك مولانا أسلم الجراجبوري، فقال:
قرأت الشعر بالعربية والفارسية والأردية. ولا حرج علي أن أقول إن إقبالا أعظم شعراء المسلمين؛ إن كلامه ليفيض بالحقائق الإسلامية، ولقد هدى ناشئتنا سواء السبيل. إن إقبالا حذق علوم الغرب، ثم أبلغ المسلمين الرسالة التي بصرتهم بحقيقة الإسلام وعظمته، وملأت قلوب الشباب الغافل النائم، بحب الرسول والقرآن.
ومنحت جامعة عليكره وجامعة إله آباد إقبالا لقب دكتور قدرا لمكانته في الأدب واعترافا بفضله.
سفره إلى أفغانستان
دعا نادر شاه ملك الأفغان - رحمه الله - محمد إقبال إلى أفغانستان، ودعا معه السير رأس مسعود والشيخ سليمان الندوي، دعاهم ليشيروا على حكومته في أمور الدين والتعليم.
وبلغ إقبال وصاحباه كابل في آخر تشرين الأول سنة 1933، فاحتفى بهم الملك والحكومة والكبراء والأدباء. ثم أشاروا على الحكومة بما رأوا فيه صلاح التعليم؛ فعملت بكثير مما أشاروا به.
وفي هذه السفرة ذهب الشاعر العظيم المولع بتاريخ الإسلام وسير عظمائه في غزنة وقندهار، فزار قبر مكسر الأصنام يمين الدولة وأمين الملة السلطان محمود الغزنوي، وزار قبر الشاعر الصوفي الكبير مجد الدين سنائي. وله قصائد بليغة في هذين المشهدين وغيرهما مما رأى في أفغانستان.
وقد خلد هذه الرحلة بمنظومته «مسافر»، كما سجلها الشيخ سيد سليمان الندوي في كتاب. (3) في السياسة
فلسفة إقبال فلسفة أمل وعمل وجهاد وإقدام، ودعوة عزة وكرامة وحرية. فهي مدد للأمم المجاهدة لحريتها وكرامتها، تبعث فيها النور والنار.
وقد وجه دعوته إلى البشر عامة، والمسلمين خاصة، وأخذ من التاريخ الإسلامي أمثلة لفلسفته وصورا لشعره.
كان شعره، وما يزال، أناشيد مسلمي الهند المجاهدين. ولا ريب أن شعر إقبال أشعل في النفوس ثورة على سلطان الإنكليز في الهند، وأمد المجاهدين بالأمل والعزم والإقدام.
وقد شارك إقبال، إلى هذا، في سياسة بلاده بأقواله وأفعاله، ورأس مجامع سياسية. وكان عمادا قويا لحزب الرابطة الإسلامية.
وحسب رجل أن يقول فيه القائد الأعظم محمد علي جناح: كان لي صديقا، وإماما وفيلسوفا. وكان في أحلك الساعات التي مرت بالرابطة الإسلامية راسخا كالصخرة. لم يزلزل لحظة واحدة قط. •••
وألح عليه أصدقاؤه سنة 1926 أن يرشح نفسه في انتخاب الجمعية التشريعية في بنجاب، فأيده الناس وانتخب بغير عناء. ولا تزال خطبه في هذه الجمعية شاهدة بعمله فيها.
وقد عمل في حزب الرابطة الإسلامية ورأس الاجتماع السنوي في إله آباد سنة 1930. وكانت أحوال مسلمي الهند حينئذ تعظم الشقة والتبعة على من يتصدى لقيادتهم. وفي هذا الاجتماع ألقى خطبة مسهبة دعم فيها آراءه بحجج من الفلسفة والاجتماع والأخلاق. ونبه الناس إلى أن اتحاد الهند عسير في هذه الأحوال، ولا سبيل إلى جمع الكلمة إلا باعتراف كل جماعة في الهند بالجماعات الأخرى، والتعاون بين الجماعات المختلفة.
قال: «إن رينان الفيلسوف الفرنسي يقول: إن الإنسان ليس أسيرا للجنس والدين ولا لمجاري الأنهار وسلاسل الجبال، ولكن كل جماعة كبيرة من البشر، صحيحة العقل حية القلب، ينشأ فيها شعور يجمعها، تسمى أمة .
يعني أن الأمة لا تنشأ بالأقوام والأوطان، ولكن بالشعور الذي يربط آحادها.
ثم قال إقبال: إن الفرق الاجتماعية والجماعات الدينية في الهند لا تقبل التغاضي عن أشخاصها من أجل الوحدة الهندية، حتى ينشأ لها هذا الشعور الذي ينشئ الأمة في رأي رينان. إن لهذا الشعور ثمنا يأبى أهل الهند أن يؤدوه.
فينبغي إذا ألا نلتمس اتحاد الهند في محو الفوارق بين الجماعات، بل نلتمسه في الاعتراف باختلاف الجماعات والعمل للتعاون بينها.
إن السياسي ينبغي أن يعترف بالحقائق الماثلة ويستفيد منها جهد الطاقة. وإن وجدنا وسائل للتعاون الحق، يحل السلام والصفاء في هذه الأرض العتيقة، وتحل مشاكل آسيا السياسية كلها. إنا ليحزننا أن نرى إخفاقنا في مساعينا إلى الاتفاق على ما يحقق السلام بيننا.»
ويتصل بهذه الخطبة خطبته في المؤتمر الإسلامي حينما تولى رياسة اجتماعه السنوي سنة 1932. قال فيها:
أنا لا أقبل الوطنية كما تعرفها أوروبا، وليس إنكاري إياها خوفا من أن تضر بمصالح المسلمين في الهند، ولكن أنكرها لأني أرى فيها بذور المادية الملحدة، وهي عندي أعظم خطرا على الإنسانية في عصرنا.
لا ريب أن الوطنية لها مكانها وأثرها في حياة الإنسان الأخلاقية، ولكن العبرة في الحقيقة بإيمان الإنسان وثقافته وسننه التاريخية. هذه هي في رأيي الأشياء التي تستحق أن يعيش لها الإنسان ويموت من أجلها، لا بقعة الأرض التي اتصلت بها روح الإنسان اتفاقا.
وفي هذا توكيد لما قال من قبل عن مقومات الأمم في خطبته سنة 1930. وكتب إقبال إلى محمد علي جناح رئيس الرابطة الإسلامية الملقب القائد الأعظم سنة 1937، فقال فيما قال:
إن خير وسيلة إلى السلام في الهند في هذه الأحوال أن تقسم البلاد على قواعد جنسية ودينية ولغوية.
كان إقبال أول من دعا إلى أن تقسم الهند فيكون للمسلمين بها موطن يخصهم؛ إذ رأى محالا أن يعيش سكان الهند جماعة واحدة أو جماعتين متعاونتين.
وكانت هذه، في رأي الناس، دعوة عجيبة لقيها بعضهم بالتعجب والسخرية، ورآها بعضهم حلم رجل مجنون. •••
واشترك إقبال في مؤتمر الطاولة المستديرة سنة 1931 و1932 في لندن، وكان المؤتمر ينظر في دستور جديد للهند. وكان لأقواله وأعماله أثر بين في أعمال المؤتمر. وقد مر في سفره بروما وأقام بالقاهرة أياما.
وقد احتفلت بمقدمه جمعية الشبان المسلمين وشهدت الاحتفال. ودعاني أستاذي الشيخ عبد الوهاب النجار رحمه الله - وكان وكيل الجمعية - إلى أن أعرف الحاضرين بالضيف العظيم. فتكلمت على قدر معرفتي بإقبال يومئذ، وأنشدت بعض ما تذكرت من شعره. وأذكر أني أنشدت أبياتا من ديوانه رسالة المشرق.
وألقى هو محاضرة باللغة الإنكليزية تكلم فيها عن تطور الفكر الإسلامي أو في موضوع قريب من هذا. ولا أزال أتمثله قائما يتدفق في بيانه ويروع بعلمه وفكره. وقلت له بعد المحاضرة: ليس في وسعي أن أنشد شعرك أحسن مما أنشدت. فقال: أنشدت إنشادا صحيحا.
وأذكر أني كنت في درس التاريخ الإسلامي في كلية اللغة العربية من الجامع الأزهر، فدخل هو وجماعة معه وأنا أتكلم في أنساب العرب، ثم برح القاهرة. وكان هذا آخر عهدي به. توجه تلقاء بيت المقدس فشهد المؤتمر الإسلامي، وتكلم هناك. ولو سجلت كلمة إقبال في المسجد الأقصى لوجدنا فيها للمسلمين خيرا كثيرا.
وفي السنة التالية شهد مؤتمر الطاولة المستديرة الثالث، وفي عودته مر بإسبانيا، ورأى آثار المسلمين فيها، فأوحت إليه شعرا منه قصيدته الخالدة في جامع قرطبة. وقد استأذن حكومة إسبانيا في أن يصلي بالجامع. ولعلها أول صلاة فيه منذ غابت شمس الإسلام عن قرطبة.
والذي يرى صورة شاعرنا الفيلسوف المسلم الغيور مصليا في جامع قرطبة، يقرأ قصيدة بليغة، ويتخيل ما جال في فكر شاعر الإسلام في هذا المقام الهائل، والمشهد الرائع.
لقد نظم إقبال نفسه هذه القصيدة، ونشرت في ديوان بال جبريل. وهي إحدى بدائعه. لا يفوق شاعر إقبالا فيما نظم في جامع قرطبة، ولكن أرى في صلاته قصيدة تروع نفسي معانيها ويكاد قلمي يخط ألفاظها. وعسى أن أخطها يوما. ماذا جال في نفس شاعر الإسلام وهو في محراب الجامع والجامع عطل من الصلاة والآذان؟ وهو كما قال البحتري في إيوان كسرى:
فهو يبدي تجلدا وعليه
كلكل من كلاكل الدهر مرسى
بل كما قلت أنا فيه من شعر الصبى:
فهو قلب من الأمان خلي
حائر في بلاه ليس بسال
كاد يملي على عقائده الشك
ك زوال التسبيح والإهلال
فهو لولا الإيمان هدمه اليأ
س فيخوي على الذرى والقلال
كيف آي أضاءها في جدار
قلم مد من مداد الجمال
هل لها قارئ هناك عليم
بمعاني الهدى وسر الجلال
سور تسكن الغبار كما غا
ض برمل نبع النمير والزلال
ومرايا الزمان تصدأ كالمر
آة قد طال عهدها بالصقال
ليت شعري أستطاع إقبال أن يسمع من وراء الأجيال الأذان، تردده مآذن جامع قرطبة؟ أم أنصت إلى القرآن يرتله الأئمة في المحراب؟ أم انقلبت آيات القرآن التي لا تزال تنير في جدران المسجد ترتيلا في أذنه، ووحيا في قلبه؟ أي قصيدة هذه؟ أي شاعر ينطم القصيدة التي عنوانها: «إقبال في محراب قرطبة».
ولما أعيد تنظيم الرابطة الإسلامية سنة 1935 انتخب إقبال رئيس شعبة الرابطة في بنجاب، وذلكم قبل وفاته بثلاث سنين.
ولم يعجز إقبالا مرضه المزمن، عن التفكير والعمل والكتابة ونظم الشعر. ورسائله التي كتبها في آخر حياته إلى القائد الأعظم وغيره شاهدة بوقدة قلبه، وذكاء عقله، ومضيه في جهاده على العلات وتمطره في حلبته حتى الممات.
لقب «سير»
في سنة 1922 قدم لاهور صحفي إنكليزي ساح في المشرق، وسمع صيت إقبال الأدبي في أوروبا وبلاد الشرق. فأشار على حكومة بنجاب أن تمنح الشاعر الكبير لقب سير. فدعي إقبال إلى دار حاكم بنجاب الإنكليزي لأول مرة. وقد حكى أحد أصدقائه
4
أنه لم يرغب في إجابة الدعوة وأنه ألح عليه وحمله في عربته إلى دار الحاكم، ثم اقترحت له ألقاب أقل من رتبة سير فأباها، ثم عرض عليه لقب سير فرغب عنه ولكن أحد كبار أصدقائه
5
أصر على قبوله. فقبل على شرط أن يمنح أستاذه مير حسن، لقب شمس العلماء. وهو الأستاذ الذي ثقفه في الأدب العربي والفارسي كما ذكرنا قبلا. ولم يكن الأستاذ ذا صيت يسوغ منحه هذا اللقب، ولكن إقبالا أصر عليه فقبله الحاكم.
وقد آخذ بعض الناس إقبالا بقبول هذا اللقب من الإنكليز وأذاعوا عنه أقاويل. ونشرت بعض الصحف نظما ونثرا فيهما هزؤ بالشاعر الثائر داعية الحرية، ولكن أصدقاءه والمعجبين به احتفلوا بهذه المنحة احتفالا كبيرا عند قبر جهانگير في ضواحي لاهور. وشارك الهنادك والسيك، المسلمين في هذا الاحتفال.
وما كان لقبول هذا اللقب أثر ما في نفس الشاعر الفيلسوف وعمله. وما زال طول حياته ينفث شعره في النفوس حياة وقوة وإباء وجهادا ودعوة إلى الحرية وثورة على الجبروت، وإيقاظا للمسلمين خاصة، وتبصيرا لهم بمكانهم في هذا العالم ومكانتهم في تاريخه. وما أعرف كشعر إقبال دعوة إلى الثورة على الاستعباد والتمرد على الطغيان، وإلى لقاء الشدائد في هذه الحياة بأكبر منها أملا وعزما وجهادا. (4) مرضه
شرعت العلل تعتري الشاعر الفياض، الذي يخيل إلى قارئه أنه لا يفتر ولا يمل ولا يمرض ولا يموت.
أصابته حصاة في الكلية، فعالجه الحكيم البصير الدهلوي
6
فنجع علاجه.
وفي سنة 1935 بح صوته، وجهد كثير من الأطباء في شفائه، فلم يجد جهدهم حتى عالجه الحكيم البصير فخفت العلة قليلا.
وفي السنة نفسها توفيت زوجه، فبلغ موتها من نفسه، وأحزنه كثيرا.
وترادفت علل أصاب بعضها القلب، واستمرت تنقص من قوته شيئا فشيئا، تنقص من قوة جسمه ولا تنال من عقله وروحه. فلم يفتر عن نظم الشعر، ولم ينقطع عن التفكير والبيان حتى الأيام الأخيرة.
واشتدت العلة في شهر نيسان 1938، وبلغت مبلغ الخطر في التاسع عشر من الشهر. وعني الأطباء به كل عناية، فما أغنى حرصهم على شفائه شيئا.
وكان - رحمه الله - يحس دنو أجله ويذكره غير هائب ولا جازع. وكان يردد قبل موته ببضعة أيام أن المسلم يلقى الموت مسرورا. وقال لصديق ألماني قبل وفاته بيوم: إني مسلم لا أرهب الموت، إذا جاء الموت لقيته مبتسما.
وأرسلت إليه جزازة من صحيفة في جنوبي أفريقيا فيها أن المسلمين في اجتماع لهم في ناتال، دعوا له ولجناح وكمال أتاتورك بطول الحياة. فقال: أنا ختمت عملي، وجناح يؤدي رسالته، فعلى المسلمين أن يدعوا له هو بطول العمر. وفي مساء العشرين من نيسان دخل عليه ابنه جاويد وسنه حينئذ ثلاث عشرة سنة. فقال له: هلم إلي يا بني! اجلس، فما أدري لعلي ضيف لبضعة أيام. قال أحد الحاضرين: إنه صغير السن يفزعه مرضك. فأجاب: أريد أن يلقى كل حدث لقاء الرجال. وقال لجود هري محمد حسين، وكان من المقربين إليه ووصي على أولاده بعد موته ولقيته سنة 1947 في لاهور وذهبت معه إلى دار إقبال وقبره، وفي دار إقبال لقيت جاويد فأهدى إلي صورة والده، ولم يعش محمد حسين بعد صديقه كثيرا؛ قال له إقبال: كتبت في آخر «جاويد نامه» أبياتا عنوانها «خطاب لجاويد»، وقلت فيها: إن في عصرنا هذا قحطا في الرجال. وعسير فيه الظفر بلقاء رجال الله؛ فإن تكن سعيد الجد لقيت أحد أصحاب البصائر، وإلا فاعمل بهذه النصائح.
ثم قال: وحين يشب جاويد، بعد موتي، أفهمه هذا الشعر.
وفي هذه الليلة سئل عن صحته، فقال: أريد الخلاص من هذه المشقة فورا. (5) وفاته
روي عن راجه حسن، وكان مع إقبال ليلة وفاته - ولقيته في لاهور مرات وفي كراجى وسمعت منه هذا - أن إقبالا رحمه الله - أنشد قبل موته بنحو عشر دقائق:
نغمات مضين لي هل تعود؟
أنسيم من الحجاز يعود؟
آذنت عيشتي بوشك رحيل
هل لعلم الأسرار قلب جديد؟
ومن شعر إقبال:
آية المؤمن أن يلقى الردى
باسم الثغر سرورا ورضا
وكذلك كان إقبال حين الموت. وضع يده على قلبه قائلا: الآن بلغ الألم هنا. وتأوه وأسلم الروح إلى خالقها وهو مبتسم. وما بدا عليه أثر من سكرات الموت، وكان إلى اللحظة الأخيرة كامل الشعور. «إنا لله وإنا إليه راجعون.»
عمره
توفي إقبال وعمره بالتوقيت الهجري: سبع وستون سنة وشهر وستة وعشرون يوما، وبالحساب الشمسي خمس وستون سنة وشهر وتسعة وعشرون يوما.
الاحتفال بجنازته ودفنه
شاع في الناس النبأ الفاجع، والخطب الصاعق؛ نعي إقبال. فكان الأسى على قدر حب الناس إياه، وإكبارهم وإعظامهم له، وعلى قدر ما وعت قلوبهم، وأنشدت أفواههم من شعره، وعلى قدر ما نفذت إلى سرائرهم، وأنارت في ضمائرهم أقوال الرجل العظيم الخالد، داعية الحياة والإقدام ومصور الإنسانية في أروع صورها وواصف الحياة في أجمل وجوهها.
عطلت الدواوين والمتاجر، وذهب الناس زرافات ووحدانا إلى «جاويد منزل» دار محمد إقبال.
رأيت أنا هذه الدار مرات. ما ذهبت إلى لاهور إلا زرتها، وهي دار صغيرة، طبقة واحدة، يلج داخلها إلى فناء صغير، ثم يصعد درجات إلى بهو، يفضي إلى حجرتين عن يمين وشمال. دخلت الحجرة التي إلى الشمال وقيل هذه حجرة إقبال. كان ينام فيها ويكتب شعره، ويمضي كثيرا من وقته.
قلت هذه الحجرة التي وسعت الدنيا بل وسعت العالم، بل وسعت ما هو أعظم من العالم وأوسع، قلب المؤمن. كم تنزل في هذه الحجرة وحي الشعر! وكم ازدحمت فيها أفكار الفلسفة! وكم خفق فيها قلب هو كما قلت قبلا في رثاء محمد فريد - رحمه الله:
قلب يريد زماعه وطماحه
زلزال هذي الأرض بالخفقان
قبره
اتفق جماعة من أصدقاء إقبال وأولي الرأي في المدينة على أن يتخذوا لشاعر الحياة قبرا في فناء المسجد الجامع «شاهي مسجد»، وهو فناء واسع يفضي إليه من جهة الجنوب باب كبير في سور حول المسجد عال، تمتد معه أبنية كثيرة.
اختيرت بقعة إلى يسار الداخل إلى الفناء، على مقربة من الدرج الكبير الصاعد إلى باب المسجد الرائع، اختيرت هذه البقعة لجثمان إقبال، اتخذت هذه الخزانة لهذا الكنز، بل اتخذ هذا الصوان لهذا الكتاب الخالد.
وقد رأيت ضريح إقبال سنة 1947م، وكانت الحجرة التي فيها الضريح لم يكمل بناؤها، ثم زرته مرات من بعد حينما قدمت باكستان سفيرا. وقد تمت الحجرة ونقش على جدارها أبيات من شعر إقبال، يتردد نظر العبرة والخشوع بينها وبين الضريح المائل الذي يحنو على رفات الشاعر الخالد.
وعلى الضريح صفائح من المرمر. وقد كتب على شاهده: إن محمد نادر شاه ملك الأفغان أمر بصنع هذا الضريح اعترافا منه ومن الأمة الأفغانية بفضل الشاعر.
إن في هذا الضريح الثاوي في حضانة المسجد الكبير، الذي بناه محي الدين أورنگ زيب، الذي بلغت دولة المسلمين في عهده أوج عزتها، والقائم على مقربة من الآثار الرائعة التي خلفها ملوك المسلمين في قلعة لاهور الهائلة؛ إن في هذا الضريح لوحيا لا يفتر، وذكرى لا تنقطع، من حاضر المسلمين وماضيهم، ومن معالي الإسلام وشعر إقبال؛ وإن شعر إقبال ليجلي لقارئه حضارة الإسلام وتاريخه في صور رائعة هائلة، ويفسر هذه الآثار المحيطة تفسيرا جميلا جليلا، وإن من يقرأ شعر إقبال ليستأنف في الإسلام وتاريخه نظرا، ويجد فيه تفكيرا ... ماذا عسى أن يقول قائل في إقبال وضريح إقبال. حسبك أيها القلم. يرحم الله محمد إقبال.
صدى نعيه في الهند
كانت وفاة إقبال حسرة على مسلمي الهند بما فقدوا المرشد الهادي وافتقدوا الدليل الحادي، وبما حرموا هذا الينبوع الثرار بل النهر الهدار.
وقد رددت هذه الحسرة مقالاتهم، ورسائلهم وأشعارهم، وشارك المسلمين غيرهم في الأسى عليه وإكبار فقده.
وقراء العربية أكثرهم لا يعرفون كبراء الهند وأدباءها، فأثبت هنا طرفا من أقوالهم. فحسبي أن أثبت مقال رجلين: أحدهما زعيم سياسي مسلم، وثانيهما شاعر فيلسوف هندوكي، ذانكم محمد علي جناح رئيس العصبة الإسلامية ومؤسس باكستان. والثاني طاغور الشاعر الذي ذاع ذكره في المشرق والمغرب.
قال محمد علي جناح:
كان شاعرا منقطع النظير، طبق صيته الآفاق. وستبقى كلماته حية أبدا، وإن مساعيه لأمته وبلده لتضعه في صف أكبر كبراء الهند. وإن وفاته اليوم لخسارة كبيرة للهند عامة والمسلمين خاصة.
وقال في خطاب ألقاه في الاحتفال بذكرى إقبال في جامعة بنجاب سنة 1940م:
إن حييت حتى رأيت للمسلمين دولة قائمة في الهند فخيرت بين الرياسة العليا في هذه الدولة المسلمة، وبين كتب إقبال، لم أتردد في اختيار الثانية.
وكتب إلى ابن إقبال بعد وفاته:
كان لي صديقا ومرشدا وفيلسوفا. وكان في أحلك الساعات التي مرت بالرابطة الإسلامية راسخا كالصخرة، لم يزلزل لحظة واحدة قط.
وقال طاغور:
وتركت وفاة إقبال في أدبنا خلاء يشبه جرحا مهلكا، ولن يملأ إلا بعد مدة مديدة. إن مكانة الهند في العالم ليست مكينة، فموت شاعر عالمي كهذا مصيبة لا تحتملها البلاد.
ومما قاله طاغور كذلك:
لا ريب عندي أن ما ناله شعر إقبال من قبول وصيت يرجع إلى ما فيه من نور الأدب الخالد وعظمته. ويؤسفني أن بعض النقاد وضع أدبي وأدب إقبال في ميزان المنافسة، وجهدوا أن يشيعوا أغلاطهم في هذا الشأن. وهذا عمل لا يليق بالأدب الفسيح الذي يخاطب النوع الإنساني كله؛ لأن في ساحة الأدب العالمي يقوم الشعراء وأولو الفن في صف واحد من الأخوة الإنسانية.
ويقيني أني ومحمد إقبال عاملان للصدق والجمال في الأدب. ونحن نلتقي حيث يقدم القلب الإنساني والعقل إلى عالم الإنسانية أجمل هداياهما وأروعها.
الباب الثاني
فلسفة إقبال
الفصل الأول
منظومة أسرار خودي
يستطيع الناقد البصير أن يجد في شعر إقبال، الذي أنشأه في صباه قبل سفره إلى أوروبا لمعا من فلسفته، وشررا من ناره التي اشتعلت فأضاءت من بعد. وتتسع هذه اللمع ويكثر هذا الشرر على مر الزمان حتى ينشر أول دواوينه الفلسفية «أسرار خودي» سنة 1915م فيتجلى مذهبه، وتتضح طريقته في الفلسفة والشعر. إن نشر منظومة «أسرار خودي» حد بين عهدين؛ فالشعر الذي نشر قبل فيه نفحات من فلسفته، ونفحات من شعره متفرقة غير جلية.
ويتضمن هذا الشعر ديوان «بانگ درا»؛ صلصلة الجرس.
وأسرار خودي تمتاز بأنها منظومة واحدة على القافية المزدوجة. فيها فصول يوضح فيها إقبال فلسفته في الذات فكرة بعد فكرة، ولكن هذه الفلسفة ممزوجة بالشعر، عليها رونقه ومعها أخيلته وصوره. فهي فلسفة فيها شعر.
ويكمل هذا الديوان ديوانه الثاني الذي نشره سنة 1918: «رموز بي خودي».
والدواوين التي أنشئت بعد شعر في موضوعات شتى، وصور لا ينالها حصر، ولكن فلسفته تشيع فيه ظاهرة خفية، وصريحة ومكنية. ويسوغ أن نصف هذه الدواوين بأنها شعر فيه فلسفة.
نشرت منظومة أسرار خودي سنة 1915، فثار الناس لها بين راض وساخط، ومستحسن ومستنكر، بل بين مصفق طربا يثني معجبا، وصائح يتعجب ويستنكر، ويدبر، وينفر. وقبل أن أبين كيف تلقى الناس فلسفة إقبال كما بينها في كتابه «أسرار خودي» أثبت خلاصة المقدمة المنثورة التي صدر بها إقبال كتابه. •••
يقول إقبال في رسالة إلى الشاعر الكبير أكبر إله آبادي الملقب لسان العصر، كتبها في 18 أكتوبر 1915، بعد نشر أسرار خودي بستة أشهر:
الدين بغير القوة فلسفة محضة.
1
هذا حق لا ريب فيه. وهذا في الحقيقة، ما دعاني إلى كتابة المثنوي «أسرار خودي». وأنا منذ عشر سنين في هم وتفكير من أجل هذا الموضوع.
فقد لبث إقبال سنين يفكر في حال المسلمين، ويمعن النظر في أسباب ضعفهم، ويجيل الفكر في ماضي الأمم وحاضرها، ويقرأ فلسفتها حتى انتهى إلى مذهبه الذي أبان عنه في منظومته هذه: «أسرار خودي».
قدم الشاعر لهذه المنظومة مقدمة منثورة مجملة بحث فيها في نفس الإنسان ومذاهب الأمم فيها، وفي العمل واختلاف الفلسفات فيه.
وحذف الشاعر هذه المقدمة بعد الطبعة الأولى، ولكنها على إجمالها تبين المذهب الفلسفي الذي ذهب إليه الشاعر حين نظم كتابه، وتجمع للقارئ ما انتثر في هذا النظم من آراء.
وسأجمل القول فيها على إجمالها؛ يبدأ إقبال المقدمة بقوله؛
هذه الوحدة الوجدانية أو نقطة الشعور المنيرة التي تستنير بها أفكار الإنسان وعواطفه ورغباته، أمر تحيطه الأسرار، ينظم ما في فطرة الإنسان من كيفيات متفرقة غير محدودة.
ما هذا الشيء الذي نسميه «أنا» أو «خودي» أو «مين»
2
الذي يبدو في أعماله ويخفى في حقيقته، والذي يخلق كل المشاهدات، ولكن لطافته لا تحتمل المشاهدة؟ أهو حقيقة دائمة أم أن الحياة تجلت في هذا الخيال الخادع، وهذا الكذب النافع، تجليا عرضيا لتحقيق مقاصدها العملية الراهنة؟
إن سيرة الأفراد والجماعات موقوفة على جواب هذا السؤال ... ولكن جواب هذا السؤال لا يتوقف على المقدرة الفكرية في الآحاد والجماعات، كما يتوقف على طباعها وفطرتها. فأمم الشرق المتفلسفة أميل إلى أن تعتبر «أنا» في الإنسان من خداع الخيال. وهي تعد الخلاص من هذا الغل نجاة. وميل أهل الغرب إلى العمل ساقهم إلى ما يلائم طباعهم في هذا البحث.
ويمضي إقبال في مقدمته قائلا:
اختلطت في عقول الهنادك وقلوبهم، النظريات والعمليات اختلاطا عجيبا. ودقق حكماؤهم في حقيقة العمل، وانتهوا إلى هذه النتيجة: إن حياة «أنا» المسلسلة، وهي أصل المصائب والآلام، منشؤها العمل، وإن حالة النفس الإنسانية نتيجة محتومة لأعمالها.
ولا ريب أن آراءهم جديرة بالإعجاب من جهة الفلسفة، ولا سيما جرأتهم على قبول كل نتائج القضية، وقولهم إنه لا سبيل إلى الخلاص من شرك «أنا» إلا ترك العمل.
ولكن في هذا خطرا عظيما في حياة الواحد والجماعة. فلم يكن بد من أن يظهر في الهند مجدد يبين حقيقة المقصود من «ترك العمل». وكان هذا المجدد شري كرشن. فقد بين أن ليس المقصود ترك العمل حقا، فالعمل مقتضى الفطرة وفيه قوة الحياة، بل المقصود ألا يربط قلب الإنسان بالعمل ونتائجه. وتبع هذا المجدد آخر هو شري رام نوج، ولكن جاء على أثرهما شري شنكر أجاريه فخالفهما، وحرم الناس من ثمرات هذا التجديد.
وكانت رسالة الإسلام في غربي آسيا دعوة إلى العمل بليغة. فالإسلام يرى أن «أنا» مخلوق ينال الخلود بالعمل، ولكن تشابها عجيبا في تاريخ الفكر الهندي والإسلامي يظهر في بحث هذه المسألة. فالفكرة التي فسر بها شنكر أجاريه، كتاب الجيتا - گيتا - هي الفكرة التي فسر بها القرآن محيي الدين ابن عربي الأندلسي. وكان له أثر بليغ في عقول المسلمين وقلوبهم. جعل ابن عربي بعلمه ومكانته مسألة وحدة الوجود عنصرا في الفكر الإسلامي. واقتفى أثره أوحد الدين الكرماني
3
وفخر الدين العراقي
4
حتى اصطبغ بهذه الصبغة كل شعراء العجم في القرن السادس الهجري. إن مزاج الإيرانيين الرقيق وطبعهم اللطيف، لم يصبر على المشقة الفكرية التي لا بد منها في السير من الجزء إلى الكل. فطووا المرحلة الوعرة التي بين الجزء والكل بالتخيل، ورأوا في «عرق السراج» «دم الشمس» وفي «شرار الحجر» جلوة الطور.
5
خاطب فلاسفة الهند العقل في إثبات وحدة الوجود. وخاطب شعراء إيران القلب، فكانوا أشد خطرا وأكثر تأثيرا، حتى أشاعوا بدقائقهم الشعرية هذه المسألة بين العامة، فسلبوا الأمة الإسلامية الرغبة في العمل.
ولعل شيخ الإسلام ابن تيمية - من علماء المسلمين ، وواحد محمود من فلاسفتهم - أول من رفعوا الصوت باستنكار هذه النزعة، ولكن مصنفات واحد محمود لا تلفى اليوم. ولا ريب أن منطق ابن تيمية القوي أثر أثره، ولكن جفاف المنطق لا يقوى على مقاومة نضرة الشعر وفتنته.
وقال الشيخ علي حزين: إن التصوف جميل في الشعر؛ فدل على أنه عرف حقيقة الأمر. ولكن أقواله تدل على أنه لم ينج من تأثير بيئته. فكيف كان الفكر الإسلامي في الهند يستطيع المحافظة على نزوعه إلى العمل؟
استولت على مرزا بيدل لذة السكون، فلم يستحسن حتى طرفة العين. يقول:
إن في بيت الزجاج لطائف محيرة فلا تطرف عينك فتخدش صبغة هذا المنظر.
6
وللشاعر تمتنا بيت يقول فيه:
انظر إلى كل ما يأتي أمامك ولا تنطق اتخذ عينا كعين مرآة وفما كفم الصورة.
وتمتاز أمم الغرب بين أمم العالم بميلها إلى العمل. فآراؤهم خير دليل لأمم المشرق إلى فهم أسرار الحياة.
بدأت الفلسفة الجديدة في الغرب من وحدة الوجود التي دعا إليها الفيلسوف الهولندي الإسرائيلي،
7
ولكن مسحة العمل غلبت على طبائع الغرب. فلم يلبث طويلا طلسم وحدة الوجود التي أثبتت بأدلة رياضية. سبق الألمان إلى إثبات حقيقة «أنا» الإنسانية المستقلة، ثم تحرر من هذا الطلسم الخيالي فلاسفة الغرب على مر الزمان ولا سيما فلاسفة الإنكليز.
والحق أن لأفكار الإنكليز العملية فضلا على أمم الأرض كلها. فإن «إحساس الواقعات» عندهم أحد منه عند الأمم الأخرى؛ ولهذا لم يرج في بلاد الإنكليز حتى اليوم كل نظام فلسفي من نسج الفكر لا يثبت في ضوء الواقعات.
ويختم إقبال بقوله:
هذه خلاصة تاريخ المسألة التي هي موضوع هذه المنظومة. وقد اجتهدت أن أحرر هذه المسألة الدقيقة من تعقيد الأدلة الفلسفية، وألونها بألوان الخيال ليتيسر إدراك حقيقتها.
ولم أقصد بهذه الديباجة إلى تفسير هذه المنظومة. ولكن أردت أن أدل على الطريق من لم يلم من قبل بدقائق هذه المسألة العسيرة.
ولا ينبغي هنا أن أتناول هذه المنظومة من حيث الشعر، فإنما خيال الشعر فيها وسيلة إلى توجيه الناس إلى هذه الحقيقة.
إن لذة الحياة مرتبطة باستقلال «أنا» وبإثباتها وأحكامها وتوسيعها. وهذه الدقيقة تمهد إلى فهم حقيقة «الحياة بعد الموت».
وينبغي أن يعلم القراء أن لفظ «خودي» لا يستعمل في هذه المنظومة بمعنى الأثرة كما تستعمل في اللغة الأردية غالبا. إنما معناها الإحساس بالنفس أو تعيين الذات. وهي بهذا المعنى في كلمة «بيخودي» كذلك.
هذه خلاصة المقدمة المنثورة التي أثبتها محمد إقبال في الطبعة الأولى لأسرار خودي، ثم حذفها في الطبعات التالية.
وقد كتب الأستاذ نكسلون المستشرق الإنكليزي، مترجم مثنوي جلال الدين الرومي ومترجم أسرار خودي إلى الإنكليزية؛ إلى إقبال يسأله أن يكتب مقالا يوضح فيه مذهبه؛ فكتب إليه مقالا أجمل فيه فلسفته، فأثبت نكلسون بعضه في مقدمة ترجمته لأسرار خودي. والمقال أحسن مقدمة لهذه المنظومة ولفلسفة إقبال كلها.
وقد رأيت أن أثبته هنا، فترجمته من النص الأردي مع تغيير قليل واختصار، وإليك المقال:
يقول الأستاذ بريدلي:
8
إن الشعور يقع في مراكز معينة، ويعبر عنه عبارات مختلفة ثم ينتهي إلى أن يكون غير قابل للتفسير، ولكن هذا الذي لا يقبل التفسير إذا تجاوز مراكز الشعور ينتهي إلى وحدة يعبر عنها بالمطلق تفقد فيها كل مراكز الشعور المحدودة فرديتها كما تفقد القطرة في البحر.
يرى بريدلي أن هذه المراكز المحدودة ليست إلى مظهرا. وفي فلسفته أن ثبوت الحقيقة بعمومها. فالحقيقة في نفسها محيطة. وكل محدود إضافي لا مطلق. فهو خداع نظر. كل شيء في الكائنات محدود، فهو إضافي فهو باطل.
فمذهب الأستاذ بريدلي أن كل مركز للشعور محدود، أي كل ذات مفردة، خداع نظر وباطل. وأنا أقول، على خلاف هذا: إن مركز الشعور المحدود الذي لا يدرك «الذات» هو حقيقة الكائنات. فالذات حق لا باطل.
الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي. حيثما تجلت الحياة تجلت في شخص أو فرد أو شيء. والخالق كذلك فرد ولكنه أوحد لا مثل له.
وظاهر أن هذا التصور للكائنات يخالف كل المخالفة ما ذهب إليه شراح فلسفة هيگل من محدثي الإنكليز، ويخالف أصحاب وحدة الوجود الذين يرون أن مقصد حياة الإنسان أن يفني نفسه في الحياة المطلقة أو «أنا» المطلق كما تفنى القطرة في البحر.
أرى أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي إثبات ذاته لا نفيها، وعلى قدر تحقيق انفراده أو وحدته يقرب من هذا الهدف.
قال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «تخلقوا بأخلاق القرآن»، فكلما شابه الإنسان هذه الذات الوحيدة كان هو كذلك فردا بغير مثيل.
إننا نسأل ما الحياة؟ وواضح أن الحياة أمر فردي. وأعلى أشكاله - التي ظهرت حتى اليوم - «أنا» وبها يصير الفرد مركز حياة مستقلا قائما بنفسه. فالإنسان من الجانبين الجثماني والروحي مركز حياة قائم بنفسه، ولكنه لما يبلغ مرتبة الفرد الكامل.
وتنقص فرديته على قدر بعده من الخالق. والإنسان الكامل هو الأقرب إلى الله، ولكن ليس القصد من هذا القرب أن يفنى وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الإشراق، بل هو - على عكس هذا - يمثل الخالق في نفسه.
وقد بين جلال الدين الرومي هذه النقطة بيانا حسنا؛ إذ قال: إن حليمة السعدية حاضنة الرسول
صلى الله عليه وسلم
افتقدته يوما وهو طفل ففزعت وتولهت، فسمعت من الغيب هذا النداء: «لا تحزني فلن تفقديه، بل العالم كله يفقد فيه!»
يعني أن الفرد الكامل والإنسان الحقيقي لا يضل في الكائنات، بل تضل هي فيه؛ أي تسخر له فيتصرف فيها.
وأنا أجاوز هذه المنزلة فأقول: يفقد رضا الحق - الله - في رضاه.
الحياة رقي مستمر، تسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها. وحقيقتها أن تخلق دائما مطالب ومثلا جديدة. وقد خلقت من أجل اتساعها وترقيها آلات كالحواس الخمس والقوة المدركة؛ لتقهر بها العقبات والمشقات.
وأشد العقبات في سبيل الحياة المادة أو الطبيعة، ولكن المادة ليست شرا كما يقول حكماء الإشراق، بل هي تعين الذات على الرقي، فإن قوى الذات الخفية تتجلى في مصادمات هذه العقبات.
وإذا قهرت الذات كل الصعاب التي في طريقها بلغت منزلة الاختيار . الذات في نفسها اختيار وجبر، ولكنها إذا قاربت الذات المطلقة نالت الحرية الكاملة. والحياة جهاد لتحصيل الاختيار، ومقصد الذات أن تبلغ الاختيار بجهادها. (1) دوام الذات أو الشخصية
مركز حياة الإنسان ذات «خودي» أو شخص، أعني أن الحياة حينما تتجلى في الإنسان تسمى ذاتا.
وشخصية الإنسان من الوجهة النفسانية حال من التوتر. ودوام الشخصية موقوف على هذه الحال. فإن زالت هذه الحال عقبتها حال من الاسترخاء مضرة بالذات. فإن يكن في حالة التوتر هذه كمال الإنسان فأول فرض عليه أن يعمل لدوام هذه الحال والحيلولة دون حال الاسترخاء. وكل ما يمكننا من إدامة حال التوتر يمكننا من الخلود.
وهذا التصور للشخصية يقوم معيارا لقيم الأشياء، أعني أن في ذاتنا معيار الحسن والقبح. وبهذه تحل مسألة الخير والشر، فما يقوي الذات خير، وما يضعفها شر. ويجب أن يقوم الدين والأخلاق والفنون بهذا المعيار.
واعتراضي على أفلاطون هو في أصله اعتراض على كل النظم الفلسفية التي تقصد إلى الفناء لا البقاء، والتي تغفل المادة، وهي أكبر العقبات في سبيل الحياة، وتدعو إلى الفرار منها لا إلى تسخيرها والتسلط عليها.
وكما تعرض مسألة المادة في مبحث حرية الذات، تعرض مسألة الزمان في مبحث خلودها.
يقول برجسون: إن الزمان ليس خطا ممتدا إلى غير نهاية يحتم علينا المرور به. فهذا التصور للزمان غير صحيح، فالزمان الخالص لا يدخل فيه تصور الطول، أي لا نستطيع قياسه بمقياس الليل والنهار.
إن خلود الذات أمل، من أراد أن يظفر به فليجد ويدأب لبلوغه. والظفر به موقوف على أن نسلك طريقا للفكر والعمل في هذه الحياة يعيننا على حفظ حالة التوتر. ولا يستطيع إبلاغنا هذا الأمل دين بوذا والتصوف العجمي، وما إلى هذين من نظم الأخلاق الأخرى. لقد أضرت بنا هذه الطرق فأضرعتنا وأنامتنا. إن هذه المذاهب هي الليالي في أيام حياتنا.
وإن قصدنا بأفكارنا وأعمالنا إلى حفظ حالة التوتر في ذواتنا، فأغلب الظن أن صدمة الموت لا تستطيع أن تؤثر فيها. تعرض بعد الموت حال من الاسترخاء يسميها القرآن الحكيم البرزخ. وتدوم هذه الحال حتى الحشر. ولا تبقى بعد هذا الاسترخاء إلا النفوس التي أحكمت ذواتها أيام الحياة.
إن الحياة في ترقيها تنفر من التكرار كل النفور، ومع هذا يقول الأستاذ ولدن كار
9
بناء على القواعد التي وضعها برجسون: إن حشر الأجساد معقول أيضا.
إننا نقسم الزمان إلى لمحات، فندخل فيه مفهوم المكان، فيصعب علينا تسخيره. وإنما نستطيع إدراك معنى الزمان إدراكا صحيحا حينما ننظر في أعماق ذواتنا. إن الزمان الحقيقي هو اسم آخر للحياة، وإن الحياة تستطيع المحافظة على حالة التوتر التي حافظت عليها حتى الساعة. ولن نخلص من عبودية الزمان ما دمنا نعده أمرا مكانيا.
إنما الوقت المكاني قيد توسلت به الحياة إلى تسخير ما حولها. (2) تربية الذات
لا ريب أن الذات تستحكم بالعشق. ومفهوم العشق هنا واسع جدا، ومعناه إرادة الجذب والتسخير، وأعلى أشكاله أن يخلق مقاصده ويجد في نيلها، وخاصة العشق إفراد العاشق والمعشوق، أعني إظهار الانفراد والاستقلال فيهما، وإذا جد الطالب في طلب الأوحد الأسمى ظهر فيه التوحد، ويتحقق ضمنا توحد المطلوب؛ لأنه إن لم يكن واحدا مستقلا بنفسه لم يسكن الطالب إليه، إنما يمكن عشق شخص أو وجود معين، ولا يمكن لشخص عشق كائن غير مشخص.
وكما تستحكم الذات بالعشق تضعف بالسؤال. وكل ما ينال بغير جهد يعد سؤالا، فالذي يرث مال غيره سائل، والذي يتبع أفكار غيره أو يدعيها لنفسه سائل.
والخلاصة أنه ينبغي لأجل إحكام الذات أن نخلق في أنفسنا العشق ونجتنب كل ضروب الاستجداء؛ أي البطالة.
إن حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم
أسوة حسنة للمسلم، فقد كانت حياته خير مثل للسعي الدائم. لقد كانت حياته كلها صورة للعمل.
أشرت في فصول من هذا المثنوي إلى أصول فلسفة الأخلاق الإسلامية. وبينت أن لكمال الذات ثلاث مراحل: (1)
إطاعة القانون الإلهي. (2)
وضبط النفس. (3)
والنيابة الإلهية.
والنيابة الإلهية في هذه الدنيا هي أعلى درجات الرقي الإنساني. ونائب الحق - الله - خليفة الله في الأرض. وهو أكمل ذات تطمح إليها الإنسانية، وهو معراج الحياة الروحي.
تلتئم في حياة نائب الحق عناصر النفس المتضادة، توحدها أعلى القوى وأعلى الأعمال. فيتوحد فيها الذكر والفكر ، والخيال والعمل، والعقل والخصائص الجبلية. فهو آخر ثمر في شجرة الإنسانية. تحبب إليه الصعاب والشدائد في سبيل رقي الحياة. وهو الحاكم الحق لبني الإنسان؛ لأن حكومته هي في الحقيقة حكومة الله ... ونحن نقترب منه على قدر ارتقائنا. وبهذا القرب تعلو قيمتنا في الحياة.
وأول شرط لظهور نائب الحق أن ترقى الإنسانية في جانبيها الروحي والجسمي. فإن ارتقاء الإنسانية يقتضي ظهور أمة مثالية تتجلى في أفرادها في الجملة هذا التوحد الذاتي، وتصلح لأن يظهر فيها نائب الحق.
فمعنى سلطان الله في الأرض أن تقوم فيها جماعة شورية يتوحد أفرادها، ويقوم على هذه الجماعة واحد يمكن أن يسمى نائب الحق أو الإنسان الكامل، وهذا الإنسان الكامل يبلغ ذروة الكمال التي لا تتصور فوقها ذروة.
وقد رأى نطشه - الفيلسوف الألماني المعروف - ضرورة ظهور هذه الأمة المثالية ولكن دهريته وإعجابه بالسلطان مسخا فلسفته كلها. (3) كيف تلقى الناس منظومة أسرار خودي؟
قال بعض الناس لإقبال: أحسنت وأبدعت، عرفت الداء ووصفت الدواء. وقال آخرون: حدت عن الطريق، ولم يصحبك التوفيق، وأنكرت التصوف، وازدريت أئمة الصوفية.
وكثرت المقالات في القبول والرد، والمدح والثناء. وأقصد هنا إلى تبيين ما كان لأسرار خودي من أثر في نفوس الناس، لماذا قبلها واستحسنها وأعجب بها وأشاد بناظمها من قبل واستحسن وأعجب وأشاد. ولماذا نفر منها من نفر واستنكرها من استنكر، ولعل في بيان هذا وذاك بيانا للجديد في هذه المنظومة، والبدع فيما حوته من آراء؛ تلقى بعض الصوفية دعوة إقبال في أسرار خودي بالاستنكار والرد، إذ وجدوها دعوة إلى «خودي»، وهي كلمة تدل في لغتها الفارسية على الأثرة والعجب والأنوية وما يتصل بها. وتستعمل كذلك في الأردية، فهي دعوة في الأخلاق منكرة، وفي التصوف أشد نكرا. وقد نقل إقبال «خودي» إلى معنى آخر جعله أصل فلسفة له. فأراد بها الذاتية، وقال في فلسفته: إن العالم قائم بهذه الذاتية، وإن الإنسان بهذه الذاتية يقوم على قدر قوتها وضعفها، بل يخلد أو يفنى باستحكامها أو اضمحلالها، وإن مقصد الإنسان في هذه الحياة معرفة ذاته وتقويتها وتنمية مواهبها واستنباط ما في فطرتها. وليس من الخير في شيء إنكار الذات أو إضعافها، بل هو الشر كل الشر. ولا ينبغي العمل لفنائها ولا الرضا به كما يفعل الهنادك وصوفية العجم - كما يقول إقبال - بل لا تفنى الذاتية في الله تعالى وليس من الخير السعي إلى إفنائها فيه:
أحكم نفسك في حضرته ولا تفن في بحر نوره.
ورأى الصوفية في هذا أمرا نكرا؛ إذ كان التصوف في زعمهم يقصد إلى إذلال النفس وتذليلها وإماتتها حتى تؤهل للفناء في الله. بل ادعى بعض المجادلين أن إقبالا ينكر التصوف، ويدعو إلى محوه.
وزاد الصوفية ثورة على إقبال أنه عمد إلى إمام من أئمتهم، وشاعر من أعاظم شعرائهم، «لسان الغيب حافظ الشيرازي»، فحط من شأنه، وغض من طريقته، ونهى الناس عنه وحذرهم منه. كتب في مقدمة المنظومة أبياتا في حافظ خلاصتها:
احذر حافظا أسير الصهباء، فإن في كأسه سم الفناء، ليس في سوقه إلا المدامة، وقد شعث كأسان على رأسه العمامة. ذلكم فقيه ملة المدمنين، وإمام أمة المساكين. شاة علمت الغناء، والدلال والفتنة العمياء. هو أزكى من شاة اليونان، ونغمة عوده حجاب الأذهان. فر من كأسه فإن فيها لأهل الفطن خدرا كحشيش أصحاب الحسن.
10
وحذف إقبال هذه الأبيات بعد الطبعة الأولى ووضع مكانها فصلا عنوانه: «إصلاح الآداب الإسلامية»، بين فيه المعنى الذي قصد إليه حين حذر من طريقة حافظ وشعره ولم يذكر حافظا. فبلغ ما أراد، وكفى نفسه عداء المعجبين بحافظ المتعصبين له.
نبذ من رسائل إقبال إلى المعترضين
وأنقل نبذا من رسائل إقبال إلى المعترضين، ورده على مآخذهم وشبهاتهم. لعل القارئ يجد في هذه النبذ إيضاحا لآراء إقبال في التصوف، وتمييزه بين نوعين منه: التصوف الإسلامي والتصوف العجمي، والتفريق كذلك بين التوحيد ووحدة الوجود، ولعله يجد فيه تفسيرا لما غمض على الناظرين من فلسفته، وأجعل هذا تمهيدا للكلام في فلسفة إقبال عامة، وآرائه في «أسرار خودي» خاصة.
قال في رسالة السيد حسن نظامي مكتوبة في الثلاثين من كانون الأول سنة 1915:
إني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى التصوف. وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعا إليه، فإن فلسفة أوروبا في جملتها تتوجه إلى وحدة الوجود، ولكن تدبر القرآن المجيد، ومطالعة تاريخ الإسلام بإمعان أشعراني بغلطي، ومن أجل القرآن عدلت عن أفكاري الأولى، وجاهدت ميلي الفطري، وحدت عن طريق آبائي.
إن الرهبانية ظهرت في كل أمة، وعملت لإبطال الشريعة والقانون. والإسلام في حقيقته هو دعوة إلى استنكار هذه الرهبانية. والتصوف الذي ظهر بين المسلمين - أعني التصوف الإيراني - أخذ من رهبانية كل أمة وجهد أن يجذب إليه كل نحلة، حتى القرمطية التي قصدت إلى التحلل من الأحكام الشرعية لم تعدم نصيرا من الصوفية.
إن اعتراضك، حتى اليوم، لم يعد مقدمة أسرار خودي. فلم يتناول المنظومة نفسها، وكيف أعمل قلمي، ولست أدري ما اعتراضك عليها؟ كيف أعمل قلمي في هذا الصدر؟ إنما اعترضت على ما حسبته غضا من قدر حافظ الشيرازي. ولن يستبين الحق في هذا الأمر حتى يوفى البحث حقه ...
إن حالة السكر - في اصطلاح الصوفية - تنافر الإسلام وقوانين الحياة، وحالة الصحو، وهي الإسلام، موافقة قوانين الحياة. وإنما قصد الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلى إنشاء أمة صاحية - في حالة الصحو؛ ولهذا تجد صحابة رسول الله الصديق الأكبر والفاروق الأعظم ولا تجد حافظا الشيرازي.
هذا بحث طويل تضيق عنه هذه الرسالة القصيرة. وسأفصل هذا إن شاء الله حين تتاح الفرصة. ولكن ذكر ابن عربي يذكرني بمسألة أبينها هنا حتى لا يبقى في فكرك لبس.
لا أنكر عظمة الشيخ وفضله، بل أعده من كبار فلاسفة المسلمين. ولا أرتاب في إسلامه، فإنه يحتج على عقائده، كقدم الأرواح ووحدة الوجود، بالقرآن على حسن نية. فآراؤه على صوابها أو غلطها قائمة على تأويل القرآن. وأما أن تأويله غلط أو صواب عقلا ونقلا فمسألة أخرى. وعندي أن تأويله غير صحيح. فأنا أعده مسلما مخلصا ولا أتبعه في مذهبه.
وأصل المسألة أن الصوفية أخطئوا خطأ كبيرا في فهم التوحيد ووحدة الوجود. ليس هذان الاصطلاحان مترادفين كما توهموا؛ فالأول مفهوم ديني، والثاني فلسفي محض. ليس التوحيد ضد الكثرة كما يظن بعض الصوفية، بل هو ضد الشرك. وأما وحدة الوجود فهي ضد الكثرة. وكانت نتيجة هذا الغلط أن عد من الموحدين طائفة ذهبوا إلى وحدة الوجود - أو التوحيد في اصطلاح فلسفة أوروبا الحاضرة - على حين أن المسألة التي ذهبوا إليها لا تتعلق بالدين بل بحقيقة نظام العالم.
إن تعليم الإسلام واضح بين؛ هو أن ذاتا واحدة تستحق العبادة، وأن كل الكثرة التي ترى في العالم مخلوقة ...
ليست عقيدة وحدة الوجود من تعليم القرآن. فإن القرآن يبين المغايرة التامة بين الخالق والمخلوق أو العابد والمعبود.
ويقول في رسالة أخرى إلى سراج الدين بال مؤرخة في 10 تموز سنة 1916:
الحق أن التماس معان باطنية في قانون أمة هو مسخ لهذا القانون كما يعلم من سيرة القرامطة. ولا يختار هذه الطريقة إلا أمة في فطرتها الخنوع والمذلة. وفي شعراء العجم جماعة في طباعهم الميل إلى الإباحة. وهذا الميل في إيران من قبل الإسلام. وقد صد الإسلام حينا هذا الميل الطبعي، ثم عاد فظهر حينما وجد فرصة. فوضع للمسلمين أساس أدب يقوم على وحدة الوجود. وقد افتن هؤلاء الشعراء في إبطال شعائر الإسلام بأساليب عجيبة خداعة. وأبانوا عن وجه مذموم في كل أمر ممدوح في الإسلام. وأضرب الجهاد مثلا. فقد التمس شعراء العجم معنى آخر في هذه الشعيرة التي يراها الإسلام من ضروريات الحياة. انظر في هذه الرباعية:
يسلك الغازي كل سبيل من أجل الشهادة، ولا يدري أن شهيد العشق أفضل منه. كيف يستوي هذا وذاك يوم القيامة. هذا قتيل العدو وذاك قتيل الحبيب!
وهذا جميل في الشعر ولكنه خدعة لإبطال الجهاد.
وإذا نظرت إلى حافظ وكل شعراء إيران من هذه الوجهة، بانت لك عجائب وغرائب.
وفي رسالة أخرى إلى سراج الدين نفسه يقول إقبال:
كل شعر التصوف ظهر في زمان ضعف المسلمين السياسي. وكل أمة يصيبها ضعف كالذي أصاب المسلمين بعد غارات التتار، تتبدل أنظارها
11
ويجمل الضعف في أعينها، وتركن إلى ترك الدنيا. وفي هذا الترك تخفي الأمم ضعفها وهزيمتها في تنازع البقاء. انظر إلى مسلمي الهند، فقد انتهى الأدب عندهم إلى فن الرثاء في لكهنئو.
هذا طرف مما أجاب به إقبال اعتراض المعترضين. ومن هؤلاء من قنعوا بقراءة مقدمة المنظومة أو الأبيات التي تضمنتها في نقد حافظ. ولم يقرءوا المنظومة كلها فيتدبروا دعوة إقبال، أو قرءوها ولم يرتقوا إلى الجدال فيها. •••
وآخرون من زعماء المسلمين في الهند تلقوا دعوة إقبال بالإكبار والإعجاب وقدروا حاجة المسلمين إليها، وأثرها في أنفسهم. فأشادوا بفلسفة إقبال، وأثنوا عليه بما يستحق.
ومن هؤلاء الزعيم مولانا محمد علي. قال بعد أن نشر إقبال أسرار خودي ورموز بي خودي: إن شعر إقبال يحدو المسلمين في هذا العصر إلى النشأة الثانية.
شرعت أنا وأخي شوكت علي في قراءة أسرار خودي، فرأينا ضربا من الشعر يفوق ما قال من قبل. وحق أنه بدا لنا أول الأمر فاترا بجانب شعره الأردي الذي يرمي شعر يبعث الحياة في الجماد ...
لقد رأيت أنه في هذا الإبداع جلا حقائق إسلامية لم أدركها إلا بعد مشقة وعناء ...
إن الحياة في نظر إقبال صحراء جرداء. وإدراك المرء «ذاته» هو إدراك مقاصد الحياة ... لقد بين إقبال رسالة الإسلام وسنته الأخلاقية، وأنحى على نظرية القومية والوطنية عند الغربيين التي تحد تعاون الناس، وترمي الأمم في الفرقة والاختلاف.
وكتب مولانا أسلم جيراجبوري سنة 1919:
ما زال بعض الناس يعترضون على إقبال منذ نشر كتابه أسرار خودي؛ إذ جعل أفلاطون اليوناني وحافظا الشيرازي في فصيلة الغنم. وليس حافظ الشيرازي عندهم شاعرا عظيما فحسب، بل هو ولي مقدس. ولو لم يكتب إقبال عن حافظ ما كتب لكان خيرا له؛ لأنه عرض نفسه لطعن الطاعنين، ولأن المسألة الأصلية التي تنفع الأمة حجبت في غبار هذا الجدال. كما فعل بيرزاده مظفر أحمد إذ نظم «راز بيخودي» ليرد على إقبال ما قال عن أفلاطون وحافظ، وأغفل الموضوع الأصلي.
الفصل الثاني
خلاصة أسرار خودي
أجمل ما في هذا الفصل خلاصة آراء إقبال كما بينها في هذه المنظومة وأكتفي بزهرات من هذه الرياض، وقطرات من هذه الحياض.
أعرض على القارئ ما يعرف بفلسفة إقبال وشعره معا، شعره الذي يصور به الفلسفة، ويعرض مباحثها في معرض لم تألفه، ولم يعهده الناس. ولا يروض الفلسفة للشعر، ويطوع الشعر للفلسفة إلا إقبال وأمثاله، «وقليل ما هم.» (1) المقدمة
كان إقبال يشعر بأنه أتى العالم بمذهب جديد، ورأي بدع، إن لم يكن اخترعه اختراعا، فقد اخترع طرائقه وصوره وجمع أجزاءه وألف أشتاته، وأدرك صلة هذا المذهب بالإنسان، حياته ومماته، وآحاده وجماعاته، وبين صلته بالإسلام خاصة، فأتى بالعجب، واستولى على الأمد.
ومن أجل هذا يعرب عن ثقته بنفسه، وتأثير كلامه، ويذكر طلوعه على العالم شمسا جديدة، لا تعرف رسومه، ولا تألفها سماؤه وأرضه، ويتحدث عن نفاذ بصره إلى مكنون الحياة، وامتداد عينه إلى أسرار المستقبل، يقول في مطلع المنظومة:
قطع الصبح على الليل السفر
فهمى دمعي على خد الزهر
غسل الدمع سبات النرجس
وصحا العشب بمسرى نفسي
جرب الغارس قولي موقدا
مصرعا ألقى وسيفا حصدا
إنه حب دموعي زرعا
نسج الروض وأناتي معا
ذرة، قد حازت الشمس يدي
كم صباح في فؤادي مرصد
طينتي من جام جم أنور
1
من جنين الكون عندي خبر
صيد أفكاري ظباء لم ترم
لم تسيب بعد من قيد العدم
زان بستاني عشب ما ظهر
وجنيت الورد في جوف الشجر
محفل الشادين مني يرجف
في وتار الكون كفي تعزف
صامت في رباب الفطرة
ما وعى عني جليسي نغمتي
إنني شمس قريب المولد
حبكا في فلك لم أعهد
لم يرع ضوئي سرب الزهر
لم يرجرج زئبقي في البصر
ما رأت رقص ضيائي الأبحر
ما كسا الأطواد ثوبي الأحمر
ما لهذا الكون عيني تعهد
أنا من خوف طلوعي أرعد
مزق الظلمة فجري فظهر
فبدا طل جديد في الزهر
إنني أرقب صبحا معلما
حبذا من حول ناري زمزما •••
أنا لحن دون ضرب صعدا
أنا صوت شاعري يأتي غدا
كل سر دون عصري يختفي
ما بهذا السوق يشرى يوسفي
2
أنا في يأس من الصحب القديم
مشعل طوري ليغشاه كليم
بحر صحبي قطرة لا تزخر
قطرتي كاليم فيها صرصر
من وجود غير هذا لي غناء
ولركب غير هذا لي حداء
كم تجلى شاعر بعد الحمام
يوقظ الأعين حينا وينام
وجهه من ظلمة الموت سفر
ونما من قبره مثل الزهر
كم بهذا السهب مرت قافلة
كخفاف النوق رهوا سابلة
غير أني عاشق، ديني النواح
ثورة المحشر مني في الصياح
أنا لحن كل عني الوتر
لا أبالي أن عودي يكسر
أبعد القطرة عن سيل طمى
وليجن البحر منه خضرما
لا تعي موجي هذي الأنهر
لا يعي موجي إلا أبحر
ليصدقني القارئ لقد أردت أن أثبت هنا أبياتا قليلة تنطق باعتداد إقبال بنفسه وشعوره برسالته، فلم أدر ماذا آخذ وماذا أدع، فكتبت هذه الأبيات كلها.
ولست في حاجة إلى أن أفسر للقارئ هذه الأبيات لأدله على شعور إقبال بأنه أدرك أسرار الحياة، وبصر بما في ضمير الغيب، وأنه رسالة الغد الآمل إلى اليوم اليائس، والمستقبل العزيز إلى الحاضر الذليل.
جلال الدين الرومي
يقول إقبال في مقدمة هذه المنظومة: إن جلال الدين الرومي هو الذي أيقظه ونبهه، ودعاه إلى أن يسلك هذه السبيل ويقصد هذا القصد، ويشيع في الناس بيانه ويبلغهم رسالته. وهو يعترف لجلال الدين بالإمامة في مواضع كثيرة من كتبه. ولما نظم منظومته الخالدة جاويد نامه وقص فيها سفره في الأفلاك السبعة، جعل جلال الدين دليله في هذا السفر.
يقول في مقدمة أسرار خودي:
صير الرومي طيني جوهرا
من غباري شاد كونا آخرا
ذرة تصعد من صحرائها
لتنال الشمس في عليائها
إنني في لجه موج سرى
لأصيب الدر فيه نيرا
ويقول بعد إنه بات شاكيا نائحا، فأخذه النصب والنوم، فلاح له جلال الدين:
قال يا مجنون بين العاشقين
من حميا العشق فاجرع كل حين
شق في العين حجاب البصر
وأثر في القلب هول المحشر
واجعلن الضحك ينبوع البكاء
واملأ القلب دموعا من دماء
أنت كالكم صموت أبكم
انشرن كالورد، ريحا يفغم
صعدن من كل عضو كالجرس
نوحك الصامت في كل نفس
أنت نار فأضئ للعالمين
بلهيب منك أذك الآخرين
إلى أن يقول:
جرس الركب! تنبه لا تنم
واعرف اللذة في نظم النغم
وبهذا البيت ينتهي كلام جلال الدين كما حكاه إقبال. ويقول الشاعر بعده مبينا أثر هذا الكلام في نفسه:
صرت نارا في ثيابي تسعر
صرت كالناي هياجا أضمر
ثرت من أوتار نفسي نغما
صغت من حسن بياني أرما
فرفعت الستر عن سر خودي
مظهر الإعجاز من أمر خودي
رأى القارئ من مقدمة أسرار خودي المنثورة ومن جدال إقبال ومخالفيه، أنه خالف الصوفية في وحدة الوجود وإنكار الذات، وسمى التصوف المتضمن هاتين العقيدتين تصوفا غير إسلامي. ويراه هنا يعترف بإمامة الرومي، ويقر له بالفضل بما أوحي إليه هذه الطريقة. وقد كرر هذا في مواضع من دواوينه الأخرى.
ولا يتسع المجال هنا لبيان ما بين جلال الدين وإقبال من التشابه، وأسباب إعجاب إقبال بجلال الدين وإكباره إياه. ولعلي أبين هذا بعد الفراغ من بيان فلسفة إقبال.
إقبال والإسلام
ويقول في المقدمة بعد حديث جلال الدين الرومي:
كان كوني هيكلا لم يكمل
كان عطلا سقطا لم يقبل
مبرد العشق براني رجلا
كيف هذا الكون والكم جلا
فرأيت النبض في جسم ذكاء
وبعرق البدر تسيار الدماء
3
فاض للإنسان دمعي في الظلم
فشققت السر عن عيش الأمم
فبدا لي سر تقويم الحياة
وشببت النفس في نار الحياة
في هذه الأبيات يذكر أنه بكى على الإنسان وأطال التفكير في أمره حتى اهتدى إلى سر الحياة. وفلسفة إقبال في عمومها إنسانية، ومذهب الذاتية لا يخص واحدا ولا جماعة ولا أمة.
ويقول إقبال بعد هذه الأبيات:
أنا من في ظلمة الليل أنار
في طريق الملة البيضا غبار
أمة دوت بآفاق الورى
لحنها في القلب نارا قد سرى
ذرة ألقت وشمسا حصدت
ألف رومي وعطار جنت
4
وهنا يذكر الأمة الإسلامية ويقول إنه غبار أقدامها. وحب إقبال الإسلام، وإعجابه بتاريخ المسلمين، ورؤيته في العرب الأولين المثل الأعلى في نضج «الذاتية»؛ تلقى قارئ شعره حيثما قلب صفحات دواوينه، وهذه الأمة خصها إقبال بتطبيق فلسفته، فهي فلسفة إنسانية تجد موضوعها ومثلها وغايتها في أمة الإسلام.
وسأعود إلى هذا بعد إن شاء الله. (2) فصول أسرار خودي
هذه أمهات الفصول في ديوان أسرار خودي، وتكاد هذه العناوين كلها تكتب بلفظها العربي في تركيب فارسي: (1)
أصل نظام العالم من الذاتية، واستمرار أعيان الوجود موقوف على استحكام الذاتية. (2)
حياة الذاتية بتخليق المقاصد وتوليدها. (3)
تستحكم الذاتية بالمحبة والعشق. (4)
ضعف الذاتية بالسؤال. (5)
إذا استحكمت الذاتية بالمحبة والعشق سخرت قوى العالم الظاهرة والباطنة. (6)
حكاية في معنى أن مسألة نفي الذاتية من مخترعات الأقوام المغلوبة لتضعف أخلاق الأمم الغالبة من طريق خفية. (7)
في معنى أن أفلاطون اليوناني - الذي أثر كثيرا في أفكار الأمم الإسلامية وآدابها - ذهب مذهب «الغنم»، والاحتراز من خيالاته واجب. (8)
حقيقة إصلاح الشعر والآداب الإسلامية. (9)
تربية الذات لها ثلاث مراحل: المرحلة الأولى الإطاعة، والثانية ضبط النفس، والثالثة النيابة الإلهية.
ويتفنن إقبال في البيان في هذا الفصل التاسع، فيقص قصصا حقيقية أو خيالية لتصوير مذهبه منها: (أ)
حكاية شاب ذهب إلى الشيخ علي الهجويري شاكيا جور أعدائه - وقد بين له الشيخ أن العدو له عليه فضل بما ينبه قواه ويقوي ذاته. (ب)
حكاية الطائر الذي أنهكه العطش - وجد ماسة فلم يستطع التقاطها، ثم وجد قطرة ماء فالتقطها؛ الماسة مثل الذات القوية، وقطرة الماء مثل الذات الضعيفة. (ج)
حكاية الشيخ والبرهمن، ومحاورة نهر الجنجا وجبل همالا في معنى أن تسلسل حياة الأمة من الاستمساك بسننها. (10)
في بيان أن مقصد حياة المسلم إعلاء كلمة الله، وأن الجهاد إن كان سببه «جوع الأرض» فهو حرام في الإسلام. (11)
نصيحة ميرنجات النقشبندي المسمى الأب الصحراوي التي كتبها لمسلمي الهند. (12)
الوقت سيف. (13)
دعاء «يختم به المنظومة».
نظرة عاجلة في هذه الفصول:
الذاتية
يبدأ المنظومة بالكلام عن الذاتية، أنها أصل الكون. يقول: هيكل الكون من آثارها، وكل ما ترى من أسرارها، إنها حينما أيقظت نفسها أظهرت عالم الفكر . مائة عالم خفية في ذاتها. وغيرها مثبت بأثباتها. بذرت في العالم بذر الخصومة، إذ حسبت نفسها غيرها - يعني أنها حقيقة واحدة اتخذت ذوات مختلفة فتباينت وتنافست، إلى أن يقول: تدمي مائة روضة لأجل وردة، وتثير ألف نوحة لأجل نغمة، وتمنح فلكا واحدا مائة هلال، وتكتب من أجل كلمة واحدة مائة مقال. وعلة هذا الإسراف وهذه القسوة، خلق الجمال المعنوي وتكميله - يعني أن التكمل يقتضي فناء أشكال، وعدم صور، وامحاء أطوار. فمائة روضة تنشأ لتكمل فيها وردة وهلم جرا.
وتصوير صعوبة التطوير وعسر التكمل، سبق إليه بعض شعراء الصوفية مثل: سنائي الغزنوي.
ثم يقول إقبال: وتراها من أجل عملها، عاملا ومعمولا، ووسيلة وغاية. تنبعث وتثور وتطير وتضيء وتختفي وتحترق وتقتل وتموت وتنبت.
5
وظاهر أن الشاعر يريد قوة الحياة التي تتجلى في مظاهر مختلفة، وتتداولها أحوال شتى، ولكنها الحياة المتعينة المتشخصة في الذوات الكثيرة.
ثم يقول: حياة العالم من قوة الذات، فالحياة على قدر ما فيها من هذه القوة، فالقطرة حين تقوي ذاتها تصير درة، والجبل إذا غفل عن ذاته انقلب سهلا وطغى عليه البحر. ويضرب الشاعر في هذا المعنى أمثالا شعرية عدة.
إنما أقصد هنا إلى تبيين فلسفة إقبال، وقد جعلت الكلام في منظومة أسرار خودي وسيلة إلى هذا التبيين. فلا حرج أن أترك هذه المنظومة حينا إلى غيرها من دواوين إقبال. قد بث الشاعر فكرة الذاتية في شعره كله. ذكرها أحيانا مجملة ظاهرة وخفية وصريحة ومكنية، وأفاض أحيانا في الإبانة عنها وموالاة وصفها والتمثيل لها. ومن مواضع الإفاضة منظومته «ساقي نامه» من ديوانه الذي سماه بال جبريل - جناح جبريل، وإليكم نبذة من كلامه عن الذاتية في ساقي نامه: تكلم عن الحياة الثائرة، والزمان السائر، وعن الأمم والآحاد، في هذا الجهاد، ثم قال:
ما هذا النفس الحي؟ سيف. ما مسن هذا السيف؟ الذاتية. ما الذاتية؟ سر الحياة الباطن. ما الذاتية؟ يقظة الكائنات. إنها ثملة بالجلوة، ومغرمة بالخلوة، إنها بحر في قطرة ... إنها ظاهرة فيك وفي، وهي بريئة مني ومنك - يعني ليست مقيدة بكون محدود. ماضيها الأزل، وآتيها الأبد. ليس لها ماض ولا آت يحد ...
تغير وسائل التحري، وتبدل منظرها بين حين وحين، والصخرة الثقيلة خفيفة في يدها، والجبال رمال من ضربها، والسفر مبدؤها ومنتهاها، وهو السر من تقويمها. هي ضياء في القمر، وهي شرار في الحجر ... وهي في هذا الكفاح منذ الأزل. وقد صورت كذلك في صورة الإنسان.
إن مستقر الذاتية قلبك، كما يحوي الفلك إنسان العين. وسم هذه الذاتية العيش الذليل، والعزة ماؤها السلسبيل.
أردت أن أعرض على القارئ صورا للذاتية في شعر إقبال ليتأمل فيها. وما أردت أن أحجبه عن الشاعر بكلامي وبياني.
المقاصد والآمال
ويقول في الفصل الثاني:
إن هذه الذاتية تحيا بخلق المقاصد والجد في المسير إليها، وعلى قدر عظم مقاصدها تعظم، وعلى قدر المشقة التي تحتملها تقوى.
والأمل في شعر إقبال كله هو الحياة، والجهاد الدائب هو حافظ هذه الحياة. وإن قارئ إقبال ليروعه إعظام إقبال الأمل، وتصويره إياه وإشادته بالعمل الدائب والجهد المستمر، بل يرى إقبال أن الجهاد في سبيل المقصد أعظم لذة في بلوغه:
طوبى لمن لا يزال في أثر المحمل. أي لذة في الاضطراب دون وصول.
6
ويقول في هذا الفصل من «أسرار خودي»:
إنما يبقي الحياة المقصد
جرس في ركبها ما نقصد
7
أصلها في أمل مستتر
سرها في السعي منها يضمر
أحي في قلبك هذا الأملا
أو يحل طينك تربا مهملا
فحياة القلب من نار الرجاء
ما سوى الحق لدى القلب هباء
فإذا عي بتخليق المنى
هيض سقطا وعن الطيرونى
ويميت الحي فقدان الرجاء
يطفئ الشعلة فقدان الغذاء
بل يرى أن العقل نشأ من الأمل:
رأس مال في الحياة الأمل
وكذاك العقل منه ينسل
كل فكر وخيال واعتبار
كل حس وشعور وادكار
هي آلات الحياة الجاهدة
حين تمضي في وغاها صامدة
المحبة والعشق
العشق، عشق الأمل وعشق المثل الأعلى، يشعل الذاتية ويظهر ما فيها من قوى. ومثل المسلم للعاشق هو الرسول صلوات الله عليه.
وإذا استحكم العشق لم يحل بين الإنسان وأمله عقبة ولا مشقة، ولم تأخذه فيه رغبة ولا رهبة وسخر الإنسان قوى العالم.
زائد بالحب في الذات رواء
وحياة واشتعال وبقاء
مشعل بالحب منها الجوهر
يتجلى من قواها المضمر
لا يهاب العشق في السيف المضاء
ليس من ماء وترب وهواء
هو في العالم حرب وسلام
وهو ماء لحياة وحسام
ولا يتسع المجال هنا لتفصيل القول في العشق، عند الصوفية وعند إقبال. وفي الموازنة بين العشق والعقل وبين الفكر والذكر.
وقد صور إقبال هذا صورا كثيرة، ولم يمل من ذكره وتكراره. ويجده القارئ في هذه المنظومة «أسرار خودي» وغيرها، فليرجع إلى ترجمة هذه المنظومة، وليرجع إلى ديوانيه رسالة المشرق وضرب الكليم ومقدمتيهما.
ولا تخلو فصول الكتاب الآتية من حديث في هذا الشأن.
الذات تضعف بالسؤال
الثقة بالنفس، والاعتداد بها، والاعتماد عليها، والاستغناء بها، يقوي الذات. والشك فيها، والالتجاء بها إلى الناس، وحملها عليهم، يضعفها.
يبدأ إقبال هذا الفصل بقوله يخاطب المسلم:
أيها الجابي من الليث الخراج
صرت كالثعلب خبا باحتياج
ذلك الإعواز أصل العلل
كل أدوائك من ذا المعضل
من كنوز الدهر أخرج ما تريد
وخذ الصهباء من دن الوجود
8
ويضرب مثلا عمر - رضي الله عنه - إذ سقطت درته من يده وهو راكب فنزل ليأخذها، وأنف أن يسأل أحد الرجال أن يناوله درته.
ثم يقول: «لا تبغ رزقك من نعمة غيرك، ولا تستجد ماء ولو من عين الشمس. واستعن بالله وجاهد الأيام، ولا ترق ماء وجه الملة البيضاء.
طوبى لمن يحتمل الضر من الحرور والظمأ، ولا يسأل الخضر كأسا من ماء الحياة.»
نفي الذات من اختراع الأمم المغلوبة
يتحدث إقبال في هذا الفصل عن الأقوام المغلوبة كيف خدعت الأقوام الغالبة عن نفسها وزينت لها نفي الذات.
ويضرب مثلا قطيعا من الغنم تسلطت عليه الأسود، تصول عليها وتنال منها ما شاءت كلما شاءت.
ففكر كبش في أمر جماعة، فبدا له أن يضعف في الأسود نزعة التغلب، والصولة، ويصرفها عن الاعتداد بالقوة؛ فادعى أنه نبي مرسل إلى الأسود. ودعاها إلى الزهد والاستكانة وإنكار الذات . ونهاها عن أكل اللحم، وعلمها أن الجنة للضعفاء، وأن القوة خسران مبين، وقال: «يا ذابح الشاة، اذبح نفسك ، واغفل عنها إن تكن عاقلا.
أطبق عينيك وأذنيك وشفتيك ليصعد فكرك فوق الفلك.
9
إن هذه الدنيا مرعى العدم، فإياك أن تركن إلى هذا الوهم.»
ويصور الشاعر أثر هذه الدعوة في الأسود بهذه الأبيات:
كانت الأسد جهادا ملت
وتمنت منه عيش الدعة
عن هوى أصغت إلى النصح المنيم
ودهاها الكبش بالسحر العظيم
جوهر الآساد أضحى خزفا
حين أضحى قوتهن العلفا
ذهب العشب بناب عسر
أطفأ الأعين ذات الشرر
هجر الصدر فؤاد مقدم
فإذا المرآة فيها تظلم
وذوى في القلب شوق العمل
وجنون السعي ملء الأمل
ذهب الإقدام والعزم الأمر
والسنا والعز والمجد الأغر
برثن الفولاذ فيها قد وهن
واستكان القلب في قبر البدن
ونما الخوف بنقص المنة
قطع الخوف جذور النخوة
كل داء في سقوط الهمة
إنه العجز وضعف الفطرة
نامت الأسد بسحر الغنم
سمت العجز ارتقاء الفهم
مذهب أفلاطون وأثره في الآداب الإسلامية
ينكر إقبال - في كثير من أقواله - على أفلاطون مذهبه في عالم المادة وعالم المثال، ويبين سوء أثره في الحياة، ويقول إنه يدعو الناس أن يهجروا عالم الحس إلى عالم الخيال، وأن يفروا من هذه الحياة.
ويرى إقبال أن عالم المادة كائن لا ريب فيه، وأن على الإنسان أن يقهره ويسخره، ويجوزه إلى مقاصده، وأن في العمل لتسخير هذا العالم قوة النفس الإنسانية وارتقاءها.
يبدأ إقبال هذا الفصل من أسرار خودي بقوله:
راهب الماضين أفلاط الحكيم «مذهب الشاء» تولى في القديم
10
طرفه في ظلمة المعقول ضل
في حزون الكون قد أعيا وكل
فكره في «غير محسوس» فتن
صد عن كف وعين وأذن
11
قال: في الموت بدا سر الحياة
وخمود الشمع يعلي سناه
ويقول في هذا الفصل أيضا:
عالم الإمكان للحي وطن
عالم «الأعيان» للميت سكن
مشفق راهبنا لا يقدم
في وغى العالم نكس محجم
قلبه يعشو لنار خامده
صورت يمناه دنيا هاجده
ولا يتسع المجال هنا للقول في مذهب أفلاطون وتطوره إلى مذهب أفلوطين من بعد، وأثر هذا في المسيحية وفي بعض مذاهب الصوفية.
وحسبنا أن نقول: إن إقبالا يدعو إلى إدراك الذات وتقويتها، وإلى العمل الدائب، والجهاد الذي لا يفتر. ويرى أن الحياة في العمل والجهاد، والموت في الاستكانة والسكون. ويرى أن عالم المادة كائن لا خيال، وأن عمل الإنسان تسخير هذا العالم، وفي الجهاد لتسخيره قوته وكماله.
وهذا مذهب يخالف مذهب أفلاطون والمذاهب التي تفرعت منه في جملتها وتفصيلها، ومذاهب فلاسفة الهند، ويخالف التصوف غير الإسلامي أو التصوف العجمي كما يقول إقبال.
حقيقة الشعر وإصلاح الآداب الإسلامية
بينت آنفا أن إقبالا كتب أبياتا عن حافظ الشيرازي يذم مذهبه ويحذر الناس منه، وأنه حذف هذه الأبيات بعد الطبعة الأولى، وأثبت مكانها أبياتا في إصلاح الآداب الإسلامية.
استهل الشاعر هذا الفصل ببيان الأمل وأثره في الحياة، صور هذا تصويرا بليغا جميلا، كدأبه حين يتحدث عن الأمل في شعره.
ثم قال إننا نأمل ما هو حسن وجميل بل الحسن يخلق الأمل:
كل خير وحسين جميل
هو في صحرائنا خير دليل
يطبع القلب على أشكاله
خالقا في القلب من آماله
يخلق الحسن ربيع الأمل
وجهه يبدي بديع الأمل
ثم يقول إن الشاعر يدرك الجمال ويجلوه للناس، ويزيد الجميل جمالا، ويزيد الفطرة بهجة، ويدعو الأمة إلى الجميل ويحدوها إليه.
فإن لم يكن في الشاعر هذا الإدراك، ولم تشع في شعره الدعوة إلى الخير والجمال والتغني به وحفز الهمم إليه، ساء أثره في أمته، وحداها إلى الهلاك.
يلبس النفع ثياب الضرير
ويرى الموت جميل المنظر
شدوه فينا يزيد الكللا
كأسه فينا تزيد المللا
سيل برق ما حوى نيسانه
آل لون وشذى بستانه
12
حسنه بالصدق لا يعترف
بحره ما فيه إلا الصدف
نومت ألحانه يقظتنا
أطفأت أنفاسه وقدتنا
بلبل للقلب سم نغمه
ضغث ورد فيه يثوي أرقمه
ويمضي في بيان أثر هذا الشاعر في أمته، إلى أن يقول:
خسة في ذلة في شقوة
يائس مستسلم للخيبة
نوحه روحك منه في سقام
قد حمى أصحابه طيب المنام
ويل عشق قد ذكا في الحرم
ناره باخت ببيت الصنم
ولا شك أنه يعني بهذا شعراء اللهو والمجون، وشعراء اليأس والتشاؤم، وشعراء العزلة والخلوة، وشعراء الفناء والسكر من الصوفية، وهي الأبيات التي كتبها مكان أبيات ذكر فيها حافظا الشيرازي كما قدمت.
وينتهي في هذا الفصل إلى دعوته دعوة الحياة والقوة والأمل والعمل والهمة والإقدام، يقول:
صيرفي القول! إن تبغ النجاة
فاجعلن معياره شرع الحياة
نير الفكر يقود العملا
مثل رعد بعد برق جلجلا
بث فكرا صالحا في الأدب
ارجعن يا صاح نحو العرب
وسليمى العرب يا صاح اعشق
اطلعن صبح الحجاز المشرق
في ربيع الهند سرحت البصر
وبروض العجم جمعت الزهر
يمم البيد، اشربن من حرها
وعتيق الراح خذ من تمرها
أسلمن رأسك يوما صدرها
وائلفن في حرها صرصرها
كم وطئت الورد في طول المدى
غاسلا كالورد خدا بالندى
فعلى رمل الصحاري المضرم
أقدم النفس، وغص في زمزم
فإلام العش بين الظلل
وإلام النوح مثل البلبل؟
ابن عشا حيث لا تبني الأنوق
تختفي فيه رعود وبروق
لترى أهلا لإعصار الحياة
وتذيب النفس في نار الحياة
مراحل تربية الذات
لتربية الذات مراحل ثلاث: الطاعة، وضبط النفس، والنيابة الإلهية.
فأما الطاعة: فيضرب الشاعر فيها الجمل مثلا، يسير بأثقاله صابرا في غير ضوضاء. ويقول إن الطاعة تجعل في الجبر اختيارا. وإن الإنسان الحر يسخر هذا العالم ولكن يقيد نفسه بالشريعة.
بامتثال الأمر يعلو من سفل
وهوى الطاغي وإن كان الجبل
سخر الأفلاك في همته
وثوى في القيد من شرعته
قد سرى النجم يؤم المنزلا
طوع قانون له قد ذللا
وأما ضبط النفس: فيقول فيه إقبال مشبها النفس بالجمل أيضا:
جمل نفسك تربو بالعلف
في إباء وعناد وصلف
فكن الحر وقدها بزمام
من حضيض تبلغن أعلى مقام
ويقول: إن الذي لا يحكم في نفسه حري أن يحكم عليه غيره.
ويرى أن ضبط النفس لا يكون إلى بنفي الخوف والشهوات.
وأن التوحيد المطلق ينفي عن النفس الاستكانة للمخاوف والمطامع.
من يمسك بعصا من «لا إله»
طلسم الخوف تحطمه يداه
كل من بالحق أحيا نفسه
ليس للباطل يحني رأسه
وأما المرحلة الثالثة من مراحل تربية الذات، وهي النيابة الإلهية، فهي مرحلة يكون الإنسان فيها مسيطرا على العالم، مسخرا قوى الكون، نافخا الحياة في كل شيء، مجددا شباب كل هرم، يهب الحياة بإعجاز العمل، ويجدد مقاييس الأعمال، ويرد العالم إلى الإخاء والسلام.
هذا الإنسان الذي يذكر القارئ بالإنسان الأعلى في تعليم نطشه الفيلسوف الألماني، وبالإنسان الكامل الذي تحدث عنه بعض الصوفية كعبد الكريم الجيلي، ذكره إقبال في مواضع كثيرة من شعره بوصف الرجل المؤمن «مرد مؤمن» وهو في العالم أمل وعمل، وإصلاح وعمران وسلام ووئام، لا تعجزه عقبة ولا تبعد عليه شقة.
وإن الفطرة لتكد فكرها، حتى تنظم مثل هذا الإنسان في الحين بعد الحين.
يقول إقبال في هذا الفصل:
فطرة علياء تبغي مظهرا
تبتغي في الكون خلقا آخرا
تنجلي من فكرة مثل الزهر
غير هذا الكون أكوان أخر
تنضج الفكرة فينا بالضرم
يخرج الأصنام من بيت الحرم
رن عود القلب من مضرابه
يقظ بالحق نومان به
باعث في الشيب ألحان الشباب
ناشر في الكون ألوان الشباب
هو في الناس بشير ونذير
هو جندي وراع وأمير
محضر من تحته طرف الزمان
حينما يمسك منه بالعنان
فسر الدنيا بتفسير جديد
عبر الرؤيا بتعبير جديد
إلى أن يقول مخاطبا هذا الإنسان المرجو:
إيه يا فارس طرف الزمن
إيه يا نورا بعين الممكن
قم فسكن من ضجيج الأمم
واملأ الآذان حلو النغم
جددن في الناس قانون الإخاء
وأدرها كأس حب وصفاء
أرجعن في الأرض أيام الوئام
أبلغ الناس رسالات السلام
لبني الإنسان أنت الأمل
أنت من ركب الحياة المنزل
أذبلت كف الخريف الشجرا
فاغد في الروض ربيعا نضرا
ويمضي الشاعر فيقص قصة الرجل الذي شكا إلى الشيخ علي الهجويري
13
إحاطة الأعداء به، وخوفه بأسهم. فأجابه الشيخ مبينا فضل العدو عليه بما يثير قواه الكامنة، ونصحه بنفي الخوف من نفسه وإحكام همته وعزمه:
يوقظ الخصم قواك الهامدة
مثل ما تحيي الموات الراعدة
قوة العزم تذيب الحجرا
ما يبالي السيل صخرا إن جرى
تشحذ العزم عقاب السبل
14
امتحان العزم قطع المنزل
ما غناء العيش مثل النعم؟
ما حياة دون عزم محكم
وكذلك يقص إقبال قصة الطائر الظمآن الذي حاول التقاط ماسة فلم يستطع، ووجد قطرة ماء فالتقطها، يضرب الماسة مثلا للذات الناضجة المحكمة، والقطرة مثلا للذات النيئة الضعيفة.
ثم يقص قصة الماس والفحم مثلا للذات القوية والذات الضعيفة كذلك.
وينتقل إلى قصة أخرى فيها شكوى ناسك هندي إلى شيخ مسلم، أنه فكر في أقطار الأرض والسماء ولم يهتد إلى ما يطمئن إليه، ونصح الشيخ إياه بأن ينزل إلى الأرض مفكرا في نفسه وعيشه ويدع آفاق السماء. ويبين له الشيخ أن في التمسك بالسنن، ولو كانت سنن الكفار، قوة للأمة واجتماعا.
ثم يضرب مثلا محاورة بين جبل همالة ونهر جنجا، ويقول على لسان النهر للجبل: ما جدوى الوقار والرفعة وأنت محروم من السير. إنما الحياة سير متصل ووجود الموج في تحركه:
صاغك الله نجيا للسماء
وحمى رجلك سيرا في الفضاء
قيدت رجلك عن سير فما
هيئة فيك ورأس قد سما؟
إنما العيش مسير وصلا
وحياة الموج في أن ينتقلا
فأجابه الجبل:
إن هذا السير فيه الحين لك
من يزل عن نفسه يوما هلك
إنما العيش نمو في المكان
وبروض «الذات» قطف الأقحوان
أنت تفنى في خضم خضرم
وقلالي مسجد للأنجم
وبعيني ضاء سر الفلك
وبسمعي طيران الملك
صخر قلبي، وناري في الصخر
ليس للماء إلى ناري ممر
مقصد حياة المسلم إعلاء كلمة الله والجهاد للاستيلاء على الأرض حرام
لا تظهر الصلة بين هذا الفصل والفصول السابقة لطول الاستطراد وكثرة الأمثال. فليذكر القارئ أن هذا الاستطراد وذاك التمثيل عقب الكلام في النيابة الإلهية، وقد وصف الشاعر نائب الحق بأنه خليفة الله في الأرض، إلى أوصاف أخرى كثيرة. فلما بلغ الغاية من البيان والتصوير، رجع يبين أن هذا السلطان الذي يناله المسلم الحق ينبغي أن يكون لإعلاء الحق لا لفتح البلاد وقهر العباد.
يقول إقبال أول هذا الفصل:
إنما المسلم بالحب قهر
مسلم لا حب فيه قد كفر
غض للحق، وللحق نظر
وله في الحق نوم وسهر
في ربى التوحيد أرسى العمدا
وعلى الناس جميعا شهدا
وعليه يشهد الداعي الأمين
شاهد أصدق كل الشاهدين
إلى أن يقول: إن الحرب إن أردت بها صلاح الناس فهي خير، وإن رمت بها مالا أو جاها فهي شر.
خير الحرب إذا رمت الإله
شر الحرب إذا رمت سواه
فإذا لم يعل حقا سيفنا
اكتسى بالحرب عارا جندنا
ثم يقص قصة الشيخ ميانمير أحد كبار الصوفية، إذ زاره أحد سلاطين الهند. وكان السلطان مولعا بالحرب والفتح، وبينما السلطان يلتمس من الشيخ أن يدعو له بالنصر، تقدم أحد المريدين إلى الشيخ بدرهم قائلا: كسبت هذا بكدي، وألتمس من الشيخ أن يقبله مني. فقال الشيخ للمريد: أعط هذا الدرهم سلطاننا، فهو أفقر الفقراء، وأحرص الناس على الاستجداء. كم أخرب بلادا وقتل عبادا ليشبع. قد بطش جوعه بالخلق، وأهلك الحرث والنسل.
نصيحة ميرنجات النقشبندي لمسلمي الهند
لا يميز القارئ في هذا الفصل كلام ميرنجات من كلام إقبال. ولعلها كلمة موجزة أثرت عن الشيخ فبنى عليها إقبال هذا الفصل الرائع فكرا وشعرا.
يقول إقبال في هذا الفصل:
إن سر الحياة أن يغوص الإنسان في نفسه ثم يبرز منها كما تغوص القطرة في البحر فتصير لؤلؤة، وأن يجمع الشرار تحت الرماد فيصير شعلة تبهر الأبصار، وإن الحياة أن تجعل نفسك حرما لنفسك، وتبرأ من الطواف حول غيرك.
هذه المعاني كررها إقبال كثيرا في شعره. هو يرى أن تقوى الذات، ويرى أن قوتها بأن تعرف نفسها، وتجمع قواها. وقد ضرب مثلا باختفاء القطرة في البحر، والشرار تحت الرماد، قبل أن تصير القطرة لؤلوة، والشرارة شعلة.
ثم يقول:
طر وحرر نفسك من جذب التراب، واحفظها من الهوي إلى الأرض.
ثم ينقل عن جلال الدين الرومي قوله:
إن العلم إذا اتصل بالجسم فهو عدو، وإذا اتصل بالروح فهو صديق.
ويستطرد إلى القصة المعروفة في سيرة جلال الدين ، قصته هو وشمس الدين التبريزي؛ إذ جادله شمس الدين في جدوى الفلسفة والعلوم التي كان يعلمها جلال الدين . واشتد الجدال بينهما كل يفند صاحبه. فهاج شمس الدين وألقى نظرات على كتب جلال فإذا هي تحترق.
وتبع جلال الدين شمس الدين فانقلب صوفيا إماما، وكتب كتابه الخالد «المثنوي»، وديوانه الرائع الذي نسبه إلى صاحبه فسماه ديوان شمس تبريز.
ثم يمضي إقبال بعد القصة قائلا:
إنما يكمل علم المسلم بحرقة القلب، وإن معنى الإسلام ترك ما يأفل. إن إبراهيم حينما ترك الآفلين، لم تحرقه النار.
15
اطلب ماء الحياة من بريق الخنجر، ومن فم التنين ماء الكوثر، ولا تبغ حرقة العشق في علم العصر، لا تطلب لذة الحق من كأس هذا الكافر.
إن هذا العلم هو الحجاب الأكبر، يصنع الأصنام ويبيعها ويعبدها. وهو في قيد الظواهر، لم يستطع الخلاص من حدود الحس. وقد عثر في طريق الحياة، ووضع خنجره على حلقه. إن فيه نارا ولكنها باردة كالشقائق.
16
إلى أن يقول في إهمال المسلم نفسه، وتقليده غيره:
إن محفل المسلم احترق بسراج غيره، ومسجده اشتعل من شرار الدير.
قد أجفل من سواد الكعبة كالظبي، فمزقت جنبه أسهم الصياد. إن كعبتنا عامرة بأصنامنا، وإن الكفر ليضحك من إسلامنا، وإن شيخنا قامر بالإسلام في عشق الأصنام، واتخذ خيط مسبحته من الزنار، هو في سفر دائم مع مريديه، وفي غفلة عن حاجات أمته. الوعاظ والصوفية عبدوا المناصب، وأضاعوا حرمة الملة البيضاء. واعظنا إلى بيت الصنم ناظر، ومفتينا بالفتوى يتاجر.
الوقت سيف
ويستمر الشاعر في بيانه وقصصه وتمثيله، حتى يعقد هذا العنوان: «الوقت سيف». فيثني على الإمام الشافعي الذي أثرت عنه هذه الكلمة. ويبين الشاعر مذهبه في الوقت وقد أجمله في كتابه إلى الأستاذ نكلسون الذي قدمنا ترجمته.
17
ويقول في هذا الفصل: إن الإنسان توهم الوقت خطا ممدودا، وقاسه بالليل والنهار، فوقع في شباك الوقت. والحق أن الوقت هو الحياة، هو الأمل والعمل والسير والدأب.
كان هذا السيف في كف الكليم
فشأى التدبير بالفعل القويم
شق صدر البحر لمع القبس
صير القلزم مثل اليبس
وبهذا السيف يوم الخطر
زلزلت خيبر كف الحيدر
18
ممكن إبصار دور الفلك
وتوالى صبحه والحلك
يا أسير اليوم والأمس انظرا
انظرن في القلب كونا آخرا
أنت في النفس بذرت الباطلا
وحسبت الوقت خطا طائلا
وذرعت الوقت طولا، للشقاء
بذراع من صباح ومساء
واتخذت الخط زنارا فما
كنت في الباطل إلا صنما
اقطع الزنار حرا لا تهن
شمعة في محفل الأحرار كن
إيه يا غافل عن سر الزمان
كيف تدري ما خلود الحيوان
19
كم ترى في أسر صبح ومساء «لي مع الله» بها الوقت أضاء
20
من مسير الوقت كل يظهر
والحياة السر منه يبهر
ما من الشمس زماني يوجد
تلك تفنى وزماني يخلد
وبه الشمس أضاءت والقمر
وبه في العيش ما ساء وسر
قد بسطت الوقت بسطا كالمكان
وفرقت اليوم من أمس الزمان
وقتنا من قلبنا يزدهر
ليس فيه أول أو آخر
هو من صبح منير أنور
هو في الحي حياة يزهر
الحياة الدهر يا من عرفا
لا تسبوا الدهر قول المصطفى
21
ثم يمضي الشاعر في بيانه فيقول: إن الفرق بين الحر والعبد أن الحر يحتوي على الزمن، والعبد يحتوي عليه الزمن. فالحر يتصرف لا يحد عمله يوم ولا غد، ولا نهار وليل، ولا يعتل بحكم الزمان. وللعبد تعلات من حدود الزمان وأحكام الوقت. وحسبي من أبيات كثيرة هذه الأبيات:
نسج العبد عليه كفنا
من صباح ومساء، مذعنا
وترى الحر من الترب علا
ناسجا همته فوق الملا
22
فطرة العبد حصول الحاصل
ليس في أفكاره من طائل
في مقام من همود راكد
نوحه ليلا وصبحا واحد
ومن الحر جديد الخلقة
كل حين وجديد النغمة
قيد العبد صباح ومساء
وثوى في فمه لفظ القضاء
وأرى الحر مشيرا للقدر
صورت كفاه أحداث الدهر
سر غيب وحضور، في الفؤاد
رمز وقت ومرور، في الفؤاد
دعاء
ويختم إقبال هذه المنظومة بدعاء يسأل الله فيه أن يهب المسلمين العشق وحرقة السعي. ويشكو من نار تشتعل بين جنبيه، ويضرع إلى الله أن يهبه نجيا يتلقى عنه دعوته، ويدرك أسراره، أو يسلبه هذه النار التي تضطرم في صدره.
الفصل الثالث
المنظومة الثانية
رموز نفي الذات «رموز بي خودي»
بنى إقبال فلسفته على الذات. ودعا إلى إثباتها وتربيتها وتقويتها، كما يرى القارئ في الخلاصة التي قدمتها من منظومة «أسرار الذات». عنى الشاعر في هذه المنظومة «أسرار خودي» بالاعتراف بالفرد، والإيمان بقواه الكامنة، وبما تفعل هذه القوى في هذا العالم إذا أثيرت.
ثم أكمل إقبال فلسفته بالتأليف بين الفرد القوي أو الذات الكاملة، وبين الجماعة التي يعيش فيها.
يرى إقبال أن الذاتية أو الفردية أساس العالم، وأن الخير كل الخير في تقوية ذات الإنسان، واستخراج ما في فطرتها من قدرة. وكذلك يرى إقبال أن هذه الذات لا تربى وتكمل إلا في الجماعة، وأن عمل الجماعة إن تمكن الفرد من بلوغ كماله بإظهار كوامن فطرته ومنتهى قدرته.
فالمنظومة الأولى تتناول الذات وتربيتها، ولا تخلو من كلام عن صلة الفرد بجماعته. فإن عسيرا أن يفصل الباحث أو الشاعر بين الموضوعين فصلا تاما.
والمنظومة الثانية تعالج الموضوع الثاني: الجماعة، نظامها وكمالها، وتنشئة الفرد فيها. ولا يخلو كلامه في هذا من كلام في الذات كذلك.
وإلى القارئ خلاصة هذه المنظومة «رموز بي خودي»:
يبدأ المنظومة بتمهيد في ارتباط الفرد والأمة، ثم يعقد الفصول الآتية: (1)
الأمة تنشأ من اختلاط الأفراد، وكمال تربيتها بالنبوة. (2)
أركان الأمة الإسلامية: (أ)
الركن الأول التوحيد:
ويستطرد في بيان التوحيد إلى فصول أخرى: أن اليأس والخوف والحزن أمهات الخبائث وقاطعات الحياة، وأن التوحيد يزيل هذه الأمراض الخبيثة. ويعقد الشاعر فصولا أخرى للتمثيل. (ب)
الركن الثاني للرسالة، وفي هذا العنوان فصول منها:
أن مقصد الرسالة المحمدية الحرية والمساواة والأخوة بين بني آدم. ويقص في هذا الفصل قصصا شتى.
وأن الأمة المحمدية مؤسسة على التوحيد والرسالة، فلا يحدها مكان.
وأن الوطن ليس أساس الأمة.
وأن الأمة المحمدية لا يحدها زمان، ودوامها موعود.
وأن نظام الأمة لا يكون بغير القانون، وقانون أمة محمد القرآن.
وأن نضج الأمة باتباع الشريعة الإلهية.
وأن حسن سيرة الأمة بالتأدب بالآداب المحمدية. (3)
حياة الأمة تقتضي مركزا محسوسا. ومركز الأمة الإسلامية الحرم. (4)
الاجتماع الحقيقي لا يكون إلا بمقصد يقصد إليها. ومقصد الأمة المحمدية حفظ التوحيد ونشره. (5)
توسع حياة الأمة بتسخير قوى العالم. وكمال حياة الأمة أن تحس ذاتها كما يحس الفرد، وينشأ هذا الإحساس ويكمل بحفظ سنن الأمة. (6)
بقاء النوع بالأمومة. وحفظ الأمومة وتبجيلها من قواعد الإسلام. (7)
السيدة فاطمة الزهراء أسوة كاملة لنساء الإسلام. (8)
خطاب إلى المسلمات. (9)
خلاصة مطالب المنظومة في تفسير سورة الإخلاص. (10)
مناجاة المصنف الرسول الذي بعث رحمة للعالمين.
وأعبر مع القارئ هذه الفصول عبرا موجزا كل الإيجاز: (1) التمهيد في ارتباط الفرد والجماعة
يبين الشاعر العروة الوثقى التي تربط الفرد بجماعته، يبين أن الفرد مرآة الجماعة، والجماعة مرآة الفرد. وهما كالجواهر والسلك، وكالنجوم والمجرة. الجماعة تنتظم بالأفراد، والفرد يقوم في الجماعة.
ثم يقول: إن الفرد يغفل عن المقاصد، وتنتشر قوته، فتعلمه الأمة ضبط النفس، وتقيده بالقانون لتحرره.
فإذا الواحد في الجمع انتمى
فهو كالقطرة صارت خضرما
جمع الماضي له في حسبه
والتقى الغابر والآتي به
وصلة الغابر والمستقبل
وقته من أبد أو أزل
هو بالأمة قلب طامح
وهو بالأمة سعي رابح
روحه من قومه، والبدن
سره من قومه والعلن
ويمضي إلى أن يقول: إن الفرد غلط فلم يميز إثبات الذات من نفي الذات. ويبين له قيمة الذات وقوتها، وكيف تتجلى من خلوتها، فإذا هي مقسمة في الجماعة عاملة فيها. (2) الأمة تنشأ من اختلاف الأفراد وكمال تربيتها بالنبوة
يبين كيف تنتظم الجماعة من الأفراد كما يجذب النجم النجم، ويستحكم الكوكب بالكوكب.
ويقول: إن الجماعة تسير سادرة غافلة، بالمقاصد جاهلة، لا تتجلى قدرتها، ولا تشحذ عزيمتها، حتى يبعث الله فيها هاديا:
عازف لحن حياة ينفث
فإذا الطين حياة تبعث
ينشر الأنفس منه نفس
وبكأس منه يزهو مجلس
شفة تحيي وعين تجذب
وحد الإثنين هذا الطلب
فترى الأمة منه سائره
في لهيب منه حرى ثائره
شرر في قلبها يشتعل
فإذا الطينة منها شعل
ويأتي هذا الهادي إلى العقل فيحبوه ويكسوه ويمده، وينفخ النار في موقده الهامد ورماده الخامد. ويحرر الناس من عبادة الأوثان والبشر ويعبدهم للقانون والسنن:
ويفك العبد من أغلاله
ويجير القن من أقياله
صائحا أن لست عبدا لأحد
حررن نفسك لله الصمد
يجعل الشرع قيادا في اليد
يجذب الإنسان شطر المقصد
نكتة التوحيد يوحيها إليه
أدب الطاعة يمليه عليه (3) أركان الأمة الإسلامية (3-1) الركن الأول التوحيد
هو الإكسير الذي يحيل التراب ذهبا، والسر الذي يتجلى منه الدين والشرع والحكمة والقوة والسلطان. وهو الدواء الذي يميت الخوف والشك، ويحيي العمل والأمل، ويقهر كل صعب، ويذلل كل عقبة.
كلمة التوحيد هي الروح في أمتنا، هي اللحن في عودنا. وبها الحياة وبها القوة:
هو قلب إن حواها حجر
كل قلب لم تنره مدر
قد أضاء القلب من وقدتها
واستشاط الكون من آهتها
ويمضي الشاعر مبينا كيف جمع الناس التوحيد، وسوى بين الأبيض والأسود، إلى أن يقول: إن أمتنا قائمة بالتوحيد لا بالنسب ولا بالوطن.
أمم قد عبدت أوطانها
وبنت من نسب بنيانها
أترى الأوطان أصل الأمم
تعبد الأرض بها كالصنم؟
هذه الأنساب فخر السفهاء
حكمها في الجسم، والجسم هباء
ولنا في الحق أس آخر
هو في الألباب منا مضمر
قد خلصنا من حدود وقيود
قلبنا في الغيب إذ نحن شهود
ثم يتكلم إقبال عن الخوف واليأس وأثرهما في الحياة، ويضرب في هذا المثل بعد المثل. (3-2) والركن الثاني الرسالة
يبين في هذا الفصل أن الرسالة تجمع أشتات الأفراد وتنظم منها الأمة، فتوحد كثرتها، وتحكم ألفتها. ويقول: إن المسلمين من الرسالة في دائرة مركزها الحرم، ومحيطها غير محدود. ويبين كيف يربط الكتاب الحكيم بعض المسلمين ببعض، إلى أن يقول:
قد هدانا الحق هذا المرسل
في سبيل الحق نحن الشعل
بحره أخرج هذا الجوهرا
نحن روح واحد بين الورى
ختم الله علينا شرعته
وعلى المرسل فينا بعثته
محفل الأيام منا ينظم
ختم الرسل بنا والأمم
ثم يمضي إقبال في بيانه عن الرسالة حتى يضع هذا العنوان:
مقصود الرسالة المحمدية: المساواة والحرية والأخوة بين بني آدم
فيبين كيف كان الإنسان عبدا للملوك والقسيسين من النصارى والمجوس والبراهمة، حتى بعث الرسول صلوات الله عليه، فأعطى كل ذي حق حقه، وحرر الناس ورفع عنهم الآصار، ووضع عنهم الأغلال.
قوة هدت قديمات الصور
شيدت حصنا جديدا للبشر
أشرق الكون بها في الظلم
كعبة شادت ببيت الصنم
ويضرب مثلا في الأخوة الإسلامية؛ قصة القائد الفارسي الذي أسر فاستأمن آسره فأمنه، وهو يحسبه جنديا من الجند. فلما تبين أنه قائد أراد الجند قتله.
فقال قائد المسلمين أبو عبيد الثقفي: «لقد أمنه واحد منا، ونحن سواء.» وهي السنة التي سار عليها المسلمون وجاء فيها الحديث: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم.»
ثم يقص الشاعر قصة أخرى: غضب السلطان مراد العثماني على مهندس بنى له مسجدا فلم يعجبه، فضربه فقطع يده. فسار المهندس إلى القاضي فدعا السلطان، وحكم عليه بالقصاص؛ فتقدم السلطان خاشعا خائفا مادا يده للقطع. فعفا عنه المهندس.
وينتهي الشاعر إلى عنوان آخر:
الأمة المحمدية مؤسسة على التوحيد والرسالة فلا يحد مكانها
لا ترى المسلم يحويه عطن
تائه في قلبه كل وطن
حصل القلب ففي وسعته
ضل هذا الكون في فسحته
عقدة الأقوام حل المسلم
هجر الدار النبي الأعظم
أمة ملء البرايا أسسا
وضع التوحيد فيها أسسا
أسبغ الفضل علينا وهدى
صير الأرض جميعا مسجدا
ويعقب هذا العنوان عنوانا آخر:
الوطن ليس أساس الأمة
يقول فيه: إن العصبيات الوطنية قطعت أرحام الأمم. ويبين كيف هجر النصارى دين عيسى
فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون .
ويذكر مكيافلي الإيطالي وأثره في سياسة أوروبا إلى أن يقول:
جعل الملك إلاها دينه
كل قبح ناله تحسينه
وزن الحق بربح وجدى
ولدى الملك خنوعا سجدا
صير الحيلة فنا محكما
فزها الباطل مما علما
ثم يثبت الشاعر هذا العنوان:
الأمة المحمدية ليس لها نهاية زمانية
فيبين، كما يبين من قبل، أنها أمة لا تفنى، لأنها قائمة على أصول خالدة لا ينال منها تقلب الزمان، وكرور الأيام.
ثم يبين ما أصاب المسلمين من مصائب، ويذكر فتنة التتار ويصف أهوالها، ثم يقول: ولكن المسلمين سلموا من هذه النار كما سلم الخليل. بادت الأقوام، وفنيت الأجيال، وثبتت الأمة الإسلامية على الخطوب الجسام، والحوادث العظام.
أمة الإسلام تبقى أبدا
وأذان الحق فيها خلدا
أحيت العشق قلوب تسعر
شبها من «لا إله» الشرر
ويمضي الشاعر إلى هذا العنوان:
لا تنتظم أمة بغير شريعة وشريعة الأمة الإسلامية القرآن
فيبين أثر النظام في الأمم، وفي النبات والجماد وغيرهما بيانا موجزا قائلا:
من نظام الصوت تبدو النغمة
وهو من دون نظام ضجة
إنما في الحلق موج من هواء
يعلق النظم به فهو غناء
صاح هل تعرف ما دستورنا؟
كيف في الدهر مضى تدبيرنا؟
الكتاب الحي والذكر الحكيم
حكمة في الدهر تبقى لا تريم
نسخة الأسرار من هذي الحياة
يستمد الضعف أيدا من قواه
قوة فيه تشد الخورا
وبها يرمي الزجاج الحجرا
إلى أن يقول:
الذي يصدع منه الجبل
وعلى الأفلاك منه وجل
ذلك الينبوع من آمالنا
قد حواه الصدر من أطفالنا
ويذكر إقبال المسلم العربي الذي رباه القرآن حتى:
شمل الدنيا جميعا عدله
عرش جم وطئته رجله
1
مدنا قد شيدت هبوته
ورياضا أنبتت وردته
ويصل هذا الفصل بآخر يشبهه عنوانه:
نضج سيرة الأمة من اتباع الشرع الإلهي
فيبين دعوة الإسلام إلى القوة، وتقوية المسلم بالشريعة.
ويقول: إن الشرع يريدك حين الحرب شعلة تذيب الصخر.
ويمتحن قوتك بالصعاب، ويضع في طريقك العقاب. ويقول لك انسف الطود بعزمتك، واسحقه بضربتك. ويهبك بالعمل عصبا من حديد.
ويمضي قائلا: إن المسلم القوي الذي نشأته الصحراء، وأحكمته رياحها الهوجاء؛ أضعفته رياح العجم، فصار فيها كالناي نحولا ونواحا. وإن الذي كان يذبح الليث كالشاة، تهاب وطء النملة رجلاه، والذي كان تكبيره يذيب الأحجار، انقلب وجلا من صفير الأطيار. والذي هزئ عزمه بشم الجبال، غل يديه ورجليه بأوهام الاتكال. والذي كان ضربه في رقاب الأعداء، صار يضرب صدره في اللأواء. والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة، كسرت رجلاه عكوفا في الخلوة. والذي كان يمضي على الدهر حكمه، ويقف الملوك على بابه، رضي من السعي بالقنوع، ولذ له الاستجداء والخنوع.
ويلي هذا فصل عنوانه :
حسن سيرة الأمة من التأديب بالآداب المحمدية
ويقص في هذا الفصل القصة التي أجملتها حين الكلام على والد إقبال،
2
قصة السائل الذي آذاه إقبال، فحزن والده لما رأى، ووعظ ابنه واشتد في تأنيبه.
ويزيد على ما أسلفت في ذلك الفصل قوله على لسان والده:
إن فطرة المسلم الرحمة، وللرحمة يده ولسانه في هذه الدنيا. وإن الرسول بعث رحمة للعالمين، فإن بعدت عن سنته فلست منا.
أنت طائر في بستاننا، تغرد بتغريدنا، فإن تكن ذا نغمة ففي بستاننا فغن بها. كل حي تهلكه العناصر المضادة، فإن تكن بلبلا ففي الروض طيرانك وتغريدك، وإن تكن عقابا ففي الصحاري مسرحك ومصيدك. وإن تكن كوكبا فأضئ في حباكك ولا تحد عن أفلاكك.
إلى أن يختم الفصل بقوله:
إن طينة المسلم الطاهرة لؤلؤة، من بحر النبي ماؤها ولألاؤها. فيا قطرة نيسان غوصي في بحره، ثم اصعدي درة من دره،
3
وكوني في الدنيا أضوأ من الشمس، وليدم ضوؤك على الدهر أبدا.
ثم انظر خلاصة الفصل الذي عنوانه: (3-3) حياة الأمة تقتضي مركزا محسوسا ومركز الأمة الإسلامية الحرم
يبدأ الفصل قائلا: أحل لك عقدة من أمر الحياة وأنبئك بسر الحياة.
ويصف الحياة في فرارها وقرارها، إلى أن يقول:
إن الحياة طائر لا عش له. إنها ليست إلا الطيران. إنها طائر طليق وفي القفص حبيس، يخلط تغريده بنواحه. الحياة تعقد العقد في أمورها، ثم تحل ما انعقد بتدبيرها.
إن الحياة السريعة تقيد قدمها في الطين، لتزيد لذة نمائها وسيرها كل حين. وإن في حرقتها ألحانا لا تنفد، وإن وليد يومها الأمس والغد.
هي كالرائحة حركة لا تقر، ولكن تسكن الصدر فتصير نفسا حيا.
عقد الحياة فيها ورق وثمر كالحبة، تفتح عينها على نفسها فإذا هي شجرة. وتلبس الحياة خلعة من الماء والطين، فإذا هي حواس مدركة.
يعني أن الحياة وهي دائبة السير والتقلب لا تتجلى إلا في صورة ثابتة محدودة. ويقول بعد:
كذلك سنة ميلاد الأمم، أن تجتمع الحياة في مركز. المركز من الدائرة كالروح من الجسد، إن خطها مضمر في نقطتها.
بالمركز انتظام الأقوام، وبالمركز يقدر لها الدوام. وإن سرنا في الحرم، وفيه بكاؤنا وغناؤنا لا جرم.
بستاننا من نداه زاهر، وزرعنا من زمزمه ناضر. وبه علا في الدنيا صوتنا، ووصل قديمنا حديثنا. إن التئام الملة البيضاء من الطواف بالحرم. به توحدت كثرتنا، واستحكمت بقيد الوحدة عزيمتنا.
إن الاجتماع روح الأمم، والاجتماع هو السر في هذا الحرم.
ويختم الفصل قائلا:
يا شاكيا جور الزمان! ويا أسير الوهم والحسبان! اجعل قميصك ثوب الإحرام، وأطلع الصبح في هذا الظلام، واستغرق كآبائك في السجود، حتى تكون سجدة للواحد المعبود. إن المسلم الأول خضع للخلاق، فسيطر على الآفاق. ومشى على الشوك في سبيل الحق، فأنبت الورد في الغرب والشرق. (3-4) الاجتماع الحقيقي بالسعي إلى المقصد ومقصد الأمة المحمدية حفظ التوحيد ونشره
يبدأ الفصل قائلا:
أعلمك لغة الكائنات، إن أعمال الحياة حروف واضحة وكلمات.
ويبين الشاعر أثر المقصد في الأمة كما بين أثر المقصد في الواحد في كتاب أسرار خودي. فيقول: إن مقصد الحياة سر بقائها، وبه يأتلف ما تفرق من قواها. وإذا تنبهت الحياة لمقصدها، وجهت أسباب العالم إليه. وتوجهت نحوه تجني وتنتقي وترد. إنما هام قيس في الصحراء، من أجل محمل ليلى. وقد هجرنا الصحاري حين سكنت ليلانا المدائن.
وإقبال معجب بالصحراء؛ رياحها وشمسها، وسعتها، والضرب في أرجائها يرى فيها قوة النفس، ومضاء العزم.
ثم يقول:
إن المقصود هو روح العمل يستمد كل عمل منه كيفه وكمه.
فلتكن كالمجنون هياما بمقصدك ولتطف بهذا الشمع كالفراش
4
إن من يغفل نفسا واحدا يبعد عن المنزل ألف فرسخ.
ثم يقول ما قال قبلا: إن الكون يعمل جاهدا حتى يبلغ مقصدا من مقاصده. فهو يغرس ألف مقصبة؛ ليظفر بأنة من ناي.
5
وكم صور ورمى وكسر حتى أثبت صورتك في لوح الحياة، وكم بث نواحا في النفس حتى صعد صوت أذان. وكم حارب الأحرار ونصر الأشرار، وبذر الإيمان في طين الإنسان، حتى قرأ على لسانك كلمة التوحيد.
وهنا يبلغ ما قال في العنوان: إن مقصد الأمة المحمدية حفظ التوحيد ونشره. فيبين خطر التوحيد وقيمته، ويقول إنه مركز دوران العالم، ومنتهى أمره. إلى أن يقول:
إن نغماته كامنة في موسيقى الكون، وإن هذه الموسيقى لتنتظرك أيها العازف ... إن في دمك مئات الألحان، فهيا فاضرب على أوتارها ... فإن في التكبير سر كيانك، وحفظ «لا إله» ونشرها مقصود حياتك.
ويفيض إقبال في بيان تبعة المسلم في إعلاء الحق، وأن دين الإسلام قرين الحياة ولا تكون الحياة إلا به. إلى أن يقول:
إن فكر الإنسان ناحت صنم، وعابد صنم، يخلق في كل زمان صنما. وقد جدد اليوم لنفسه أوثانا من اللون والنسب والوطن.
وإن الإنسانية ذبحت على أقدام هذه الأوثان، فهيا يا ربيب التوحيد!
وامح بسيف التوحيد هذا الباطل اللابس ثوب الحق.
ويختم الفصل بقوله:
إني لأرعد من خزيك يوم يسألك الرسول: قد أخذت منا كلمة الحق، فلماذا لم تسلمها إلى الخلق؟
ويمضي الشاعر إلى فصل عنوانه: (3-5) توسيع حياة الأمة بتسخير قوى العالم وكمالها أن تحس نفسها كالفرد وتحفظ سننها
يقول: إن هذا العالم مسخر للإنسان، وإن للإنسان فيه جهادا، وإن لذة الإنسان وكماله في هذا الجهاد. ومن سخر المحسوسات فقد أنشأ عالما من ذرة. إن الجبال والصحاري والبحار لوح لأرباب النظر! أيها النائم بالأفيون، والمحتقر عالم الأسباب. افتح عينك واعرف قدر هذا العالم. إن غايته توسيع «ذات» المسلم وامتحان ممكناته. إن الزمان يضربك بسيفه، ليشعرك أن في بدنك دما.
وإن الله جعل هذه الدنيا نصيب الأخيار، وجلا محاسنها لعين المؤمن.
هذه الدنيا طريق للقافلة، هذه الدنيا امتحان لقوة الإيمان. فسخرها لئلا تسخرك.
إن فكر الإنسان يسبح في العالم ليسخر قواه، ويتصرف فيه فنون التصرف. فاركب الهواء، واصدع الجبال، واستخرج اللؤلؤ من البحار.
إن في هذا الفضاء مائة عالم، وإن شموسا كامنة في كل ذرة. فاظهر الأسرار، واكشف الخفايا للأنظار. إن هذه النجوم ثابتها وسيارها، هذه التي اتخذها القدماء آلهة، ليست إلا عبيدا خاضعة لك، مسخرة لأمرك.
إلى أن يقول:
إن القطرة التي تدرك نفسها، تنقلب في عروق الكرم خمرا. وعلى أوراق الورد ندى، وفي قاع البحر درا.
ويختم الفصل قائلا:
يا من عي حماره في طريق الحياة، ومن غفل عن معركة الحياة! قد بلغ المنزل رفاقك، وأنزلوا ليلى من محملها، وأنت كقيس في الصحاري هائم.
إن في علم الأسماء «قيمة الإنسان، وإن في حكمة الأشياء قوة الإنسان.»
ويمضي إقبال فيبين أن كمال حياة الأمة أن تحس نفسها كالفرد، وأن نشأة هذا الإحساس وكماله بحفظ سنن الأمة.
فيبدأ بالحديث عن الطفل، لا يدرك ذاته ولا يعرف إلا أمه.
مولع بالرضاع والبكاء والنوم، ومغرم بالطلب والسؤال.
فكره في كل أمر، وقابل لكل نقش، وهو عالة على غيره.
حتى يقطع نظره على نفسه فيقول «أنا»، وتعرفه بنفسه الذكرى وتربط أمسه بغده. فتنظم أيامه في هذا السلك الذهبي، كما ينتظم اللؤلؤ. ويتغير بدنه كل ساعة ولكن يقول في نفسه: «هأنذا كما كنت.» «أنا» هذه فاتحة الحياة، ونغمة اليقظة في موسيقاها.
وكذلكم الأمة الوليدة تنشأ كالطفل، ترى غيرها ولا تبصر نفسها. وتتقلب بها الواقعات حتى تعرف نفسها وتصل بالذكر ماضيها وحاضرها. ويضيء لها الطريق تاريخها ... فإن نسيت واقعاتها ارتكست في العدم.
أيها العاقل! إن اتصال أيامك، هو الخيط الذي يمسك كتاب وجودك. اتصال الأيام ثوب لنا، خياطه
6
حفظ السنن القديمة. ما التاريخ يا غافلا عن نفسه؟! أتراه قصصا وأحاديث وخرافات؟ إنه الذي يعرفك نفسك ويبصرك طريقك. إنه حرارة الروح وأعصاب الملة. إنه المسن الذي يشحذك كالخنجر، ثم يضرب بك في هذه الدنيا.
ويمضي الشاعر في بيانه وإحسانه حتى يقول:
أحكم تاريخك تحكم نفسك، وصل بيومك أمسك. إن حالك يطلع من ماضيك، ويشرق من حالك آتيك؛ فإن ترد الحياة الخالدة فلا تقطع سلسلة هذه الثلاثة. إنما الحياة موج هذا التسلسل. (3-6) بقاء النوع بالأمومة، وحفظ الأمومة وتعظيمها من قواعد الإسلام
يتكلم في هذا الفصل عن الأم، يعلي قدرها، ويبين في الأمة خطرها. ومهما يفض شاعر في الإشادة بالأمومة فقدرها أكبر، وفضلها أكثر.
يقول فيما يقول:
إن المسلم الذي لا يقدر المرأة قدرها لم ينل نصيبا من حكمة القرآن. إن الأمومة رحمة، ولها إلى النبوة نسبة، وإنها لكاتبة سيرة الأمة. ومن يفكر في لفظ الأمة والأم تبن له دقائق الحكم. وقد قال سيد الكائنات: «الجنة تحت أقدام الأمهات.» إن الأمة من صلة الأرحام، والحياة بدونها لا تبلغ المرام.
وبالأمومة تسير الحياة سيرها، وتجلو أسرارها.
ثم يقول:
ربما تنجب بنت الزارع الجاهلة، التي لا تحسن الكلام ولا تبين في الخصام؛ مسلما نجيبا غيورا، للحق نصيرا. إن حياتنا من آلام الأم وصبحنا من ظلامها.
وهذه العقيم الرخيم، ذات النظرات الثائرات، الخالية من الأحمال، التي أضاء بنور الغرب فكرها، واختلف باطنها وظاهرها
7
قد قطعت أوصال الملة البيضاء، حين نثرت نظراتها الرعناء. حريتها وقاحة وفتنة، وصفاقة وجرأة. لم يطق حمل الأمومة علمها، ولم يضئ في ليلها نجمها.
8
إلى أن يختم الفصل قائلا:
إن ثروة الأمة قادتها الهادون، لا الأمتعة والفضة والذهب. وإن رأس مالها نسل شديد، ذو فكر خصب وعزم حديد. الأمهات للإخوة حافظات، وعلى القرآن والأمة قائمات. (3-7) سيدة النساء فاطمة الزهراء أسوة كاملة للمسلمات
يصف في هذا الفصل فاطمة البتول - رضي الله عنها - بما هي أهله. ويذكر ولديها الكريمين الحسن والحسين.
ويقول: قد أدبها الصبر والرضا، فهي تتلو الكتاب وتدير الرحى. كم ذرفت في الصلاة الدموع، من القنوت والخشوع.
لولا نهي الدين، وأمر النبي الأمين، لطفت حول تربتها وسجدت على ترابها. (3-8) خطاب إلى المرأة المسلمة
خلقتك الطاهرة لنا رحمة، وأنت قوة الدين وحصن الملة. يا من تفطمين فينا الوليد، على كلمة التوحيد، إن حبك لينحت أطوارنا، ويصور أعمالنا وأفكارنا. وبرقنا الذي رباه سحابك الوضاء، غشي الجبال وطوى الصحراء.
يا أمينة على الشرع المبين، إن في أنفاسك حياة الدين.
إن هذا العصر ذو فتون، قافلته تقطع طريق الدين، وقد عمي إدراكه فأنكر الخالق، وقيدت سلاسله كل مارق.
صيده يخال نفسه حرا، وقتيله يسمي نفسه حيا. لا تسلكي إلا سبيل الآباء، ولا تبالي بما تلقين من عناء.
احذري الزمان في سيرك، وضمي أولادك في صدرك.
هذه العصافير بعدت من أعشاشها، قبل أن تطير بها أجنحتها.
يا فطرة نزاعة إلى العلاء، لا تغمضي عينك عن سيرة الزهراء.
لعل حسينا في حجرك يزهر، فيترعرع بستاننا وينضر.
ويختم الشاعر منظومته بفصل عنوانه: (3-9) خلاصة مطالب الكتاب بتفسير سورة الإخلاص
ولا أجد حاجة إلى تلخيصه، على ما فيه من معان قيمة وصور رائعة. وحسبي ما أجملت آنفا من فصول المنظومتين. •••
عبرت مع القارئ منظومتي الأسرار والرموز، واستخلصت له مقاصدهما، وأجملت له مطالبهما، ودللته بالقليل على الكثير، وبالزهرات على الروض النضير.
آثرت أن أصل التلخيص بالأدب أكثر مما أصله بالفلسفة. وكذلك أراد الشاعر أن يلبس فلسفته ثوبا من الشعر يجملها ويقربها إلى القراء.
الفصل الرابع
أوجه أخرى لفلسفة إقبال
أساس فلسفة إقبال الذاتية، تدور آراؤه على محورها، وتتفرع أفكاره من أصلها، ولكن لفلسفته أوجها كثيرة، منها ما عرفه القارئ فيما عرضت عليه من فصول المنظومتين أسرار خودي ورموز بي خودي. ومنها ما يتجلى في دواوين أخرى، ومنها ما أبانه في لغة الفلسفة لا الشعر، في محاضرات ومقالات كثيرة.
ولا يتسع المجال لتفصيل القول في أوجه فلسفة إقبال التي لم يرها القارئ فيما أسلفت من فصول هذا الكتاب. وقد تعمدت أن يكون هذا الكتاب أقرب إلى الأدب من الفلسفة، كما اختار محمد إقبال الشعر لفلسفته في معظم أصولها وفروعها.
وحسبي في هذا الفصل أن أعرض على القارئ هذا الإجمال.
ذكرت في سيرة إقبال أنه ألقى محاضرات في مدارس وحيدر آباد وعليكرة سنة 1928م. ألقاها باللغة الإنكليزية.
وهذا ثبت هذه المحاضرات: (1)
العلم والدين. (2)
والوحي الديني في معيار الفلسفة. (3)
وإدراك الله ومعنى الصلاة. (4)
والنفس الإنسانية حريتها وخلودها. (5)
وروح الثقافة الإسلامية. (6)
والحركة في العقائد الإسلامية. (7)
وهل التدين ممكن؟
هذه محاضرات لا بد لدارس فلسفة إقبال من قراءتها، ففيها آراؤه في موضوعات عدة مجتمعة مرتبة في لغة فلسفية.
طبعت المحاضرات في أكسفورد وفي الهند وشاعت، وكتب لها المحاضر مقدمة مختصرة بدأها بقوله:
الإسلام دين يعنى بالعمل أكثر مما يعنى بالفكرة.
ويقول بعد أسطر قليلة:
لا ريب أن طوائف الصوفية الحقة قد عملت كثيرا في توجيه تطور الإدراك الديني وتحديده، ولكن المتأخرين من الصوفية جهلوا العقل الحديث، فعجزوا عن تقبل الأفكار الجديدة. إنهم يسيرون على طرائق نشأت في أجيال لها وجهة في الثقافة تخالف وجهتنا في كثير من الأمور.
مثلا نجد في القرآن الكريم:
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . فإدراك الوحدة الحيوية التي تعنيها هذه الآية يحتاج إلى نظرات طبيعية ونفسانية غير التي ألفوها.
دعت إلى هذه المحاضرة الجمعية الإسلامية في مدراس وألقيتها في مدراس وحيدر آباد وعليكرة. وقد حاولت فيها أن أسد حاجة المسلمين بعض السداد، حاولت أن أجدد بناء الفلسفة الإسلامية مراعيا سنن الإسلام الفلسفية، وأحدث ما بلغته المعرفة الإنسانية. ولا شك أن هذا الوقت ملائم لهذه المحاولة.
إن علم الطبيعة تعلم أن ينقد قواعده. فأدى هذا النقد إلى أن اختفت هذه المادية التي جعلها العلم الطبيعي ضرورية أول الأمر.
وأحسب أن ليس بعيدا اليوم الذي يلتقي فيه الدين والعلم على وفاق لم يحزره أحد من قبل.
وينبغي أن نتذكر ألا نهاية للتفكير الفلسفي. ولعل تقدم المعرفة واتضاح سبل للتفكير جديدة يؤديان إلى آراء جديدة. وعسى أن تكون أصح من الآراء التي أعرضها في هذه المحاضرات.
إن علينا أن نعنى بمراقبة تقدم الفكر الإنساني، ونقوم منه مقام الناقد المستقل.
نظرة في هذه المحاضرات
كان الفيلسوف الشاعر في هم دائم، وحزن مستمر مما آل إليه أمر المسلمين في الفكر والعمل.
وقد فكر كثيرا فبين فلسفته التي عرفنا بها آنفا، ثم خص العقائد الإسلامية بهذه المحاضرات القيمة.
وكان يريد أن يسميها «الإسلام كما أفهمه»، ثم سماها الاسم الذي شاعت به.
وكان إقبال، حين أدركته المنية، يعد العدة لكتاب واف في التشريع الإسلامي. فأي خسارة خسرها المسلمون بوفاة محمد إقبال قبل أن يخرج لهم هذا الكتاب. •••
يبين إقبال ما قصد إليه في محاضراته بقوله في إحداها، مبينا صلة المسلمين بفلسفة أوروبا وحاجتهم إلى النظر في آرائهم الدينية بعد ما كشف عنه العلم من حقائق في الكون وطرائق للنظر:
إن أظهر ظاهرات التاريخ الحديث سرعة اتجاه المسلمين اتجاها روحيا شطر الغرب. وليس في هذا خطأ. فثقافة أوروبا، في جانبها العقلي، ليست إلا استمرار التطور في جوانب مهمة من الثقافة الإسلامية. والذي نخشاه أن يقف المسلمون عند المظاهر البراقة في هذه الثقافة الأوروبية، فلا يدركوا حقيقتها، ويفقهوا بواطنها.
لقد لبثت أوروبا في عصور غفوتنا الفكرية، جادة تفكر في المسائل الكبيرة التي عني بها فلاسفة المسلمين وعلماؤهم كل عناية.
وقد تقدم الفكر البشري إلى غير نهاية، منذ العصور الوسطى التي انتهت فيها فرق المتكلمين المسلمين. ثم تسلط الإنسان على الطبيعة أوحى إليه ثقة بنفسه، وإيمانا بتفوقه على ما يحيط به في العالم، وعرضت للناس أنظار محدثة، وأعيد النظر في مسائل قديمة في نور التجارب الحديثة، ونشأت مسائل أخرى لم تعرف من قبل. وكأن عقل الإنسان تفوق على كلياته الأساسية، من الزمان والمكان والحدوث. بل أخذ تصورنا الأشياء يتغير بتقدم العلوم. فنظرية أنشتاين غيرت نظرنا إلى العالم، وبينت طرائق جديدة في النظر إلى مسائل يشترك فيها الدين والفلسفة.
فلا عجب إذا، أن ينتظر ناشئة المسلمين في آسيا وأفريقيا توجيها جديدا لعقائدهم. إن يقظة المسلمين تقتضي أن ننظر، ولكن بعقل مستقل، ماذا فكرت فيه أوروبا؟ وكيف نستعين بالنتائج التي بلغتها، في إعادة النظر في المذاهب الدينية الإسلامية، بل إعادة بنائها إن لم يكن من هذا بد؟
ويتصل بهذا قوله في محاضرة أخرى:
إن على المسلم اليوم عملا شاقا، عليه أن يعيد النظر في الإسلام كله دون انقطاع عن الماضي.
لعل شاه ولي الله الدهلوي أول من شعر بالحاجة إلى نظر جديد، ولكن الذي أدرك كل الإدراك خطر العمل وسعته، هو جمال الدين الأفغاني، وكان حريا أن يكون حلقة حية بين الماضي والمستقبل بنظره الثاقب، ونفاذه إلى حقيقة تاريخ المسلمين وتاريخ ثقافتهم، إلى ما أوتي من إدراك واسع يسرته له تجاربه في الناس والأخلاق.
فلو قصر جهاده الدائب على الإسلام من حيث هو نظام للعقائد والأعمال الإنسانية، لكانت قواعد الفكر الإسلامي اليوم أقوى وأقوم.
ليس لنا اليوم إلا أن نقوم من العلم الحديث مقام المكبر له القادر على نقده، وأن نقوم الفكر الإسلامي في نور هذا العلم، وإن أدى هذا إلى أن نخالف سلفنا.
هذا الشعور بحاجة المسلمين إلى الأخذ من العلم الحديث أخذ الناقد المعتد بنفسه، وإعادة النظر في المذاهب الإسلامية، هو الذي أوحى إقبال أن يفكر التفكير الواسع العميق، ويتناول الموضوعات العسيرة الخطيرة التي تناولها في هذه المحاضرات.
أعرض على القارئ جملة مختصرة من هذه المحاضرات، ومسائل قليلة مما فيها، لعله يتشوف إلى قراءتها كاملة والتأمل فيها، وإدراك معانيها ومراميها.
1 (أ)
في المحاضرة الأولى «العلم والإدراك الديني»: يبين إقبال فرق ما بين المعارف المستقاة من ينابيع مختلفة. ويقول إن القرآن يسوي بين نواحي الإدراك الإنساني كلها في الاستمداد منها لمعرفة الحقيقة النهائية.
ويقول: ولا بد من أجل إدراك هذه الحقيقة، أن يصحب الإدراك الحسي هذا الإدراك الذي يسميه القرآن القلب.
وتكلم إقبال في هذه المحاضرة عن قيمة الإدراك الديني في المعرفة الإنسانية، وبين قدر الإلهام. وللإلهام في فلسفة إقبال مكانة عالية. وهو يرى أن الفكر والإلهام ليسا متنافرين. (ب)
وفي المحاضرة الثانية التي عنوانها «التمحيص الفلسفي للإدراك الديني»: يتحدث إقبال عن الامتحان العقلي الذي يمكن تطبيقه على المدركات الدينية. ويبين أن الإدراك الديني يقبل تمحيصا مشابها للتمحيص الذي تعالج به أنواع المعرفة الأخرى. (ج)
وفي المحاضرة الثالثة التي عنوانها: «تصور الله تعالى ومعنى الصلاة»: يبين إقبال تصور الله تعالى في القرآن، ويقول إن أكبر عناصر هذا التصور، من وجهة فكرية خالصة، الخلق والعلم والقدرة والبقاء.
ومن أمثلة نظرات إقبال في هذه المحاضرة قوله إن تسمية الله تعالى نورا في التوراة والإنجيل والقرآن، ينبغي أن تفسر تفسيرا آخر. قد بين علم الطبيعة الحديث أن سرعة النور لا تمكن الزيادة عليها، وأنها لا تختلف باختلاف طرائق الراصدين. فالنور في العالم المتغير أقرب شيء إلى الوجود المطلق. فتسمية الله بالنور مجازا ينبغي أن يفسر، في هدي العلم الحديث، بالإطلاق، لا بالحضور في كل مكان، هذا الوصف الذي يؤدي إلى عقيدة وحدة الوجود .
ويقول إقبال في هذه المحاضرة كذلك:
إن الحقيقة العليا ذات. ومن هذه الذات العليا تنجلى الذوات الأخرى بالخلق فحسب. والعالم في كل أجزائه، من الحركة الآلية فيما نسميه الذرة المادية إلى حركة التفكير الإرادية في الإنسان، ليس إلا تجليا من الذات العليا. وكل ذرة ذات حركة إلهية هي ذات، مهما انحطت مكانتها في الوجود.
وينتقل إقبال بعد هذا إلى الكلام في الصلاة، فيقول ما خلاصته:
الدين لا يقنع بالتصور فحسب، بل يطلب اتصالا بمقصوده. ووسيلة هذا الاتصال العبادة أو الصلاة. الصلاة وسيلة إلى استنارة روحية تعرف بها الذات الإنسانية - هذه الجزيرة الصغيرة - أنها موصولة بحياة أوسع، وكون أفسح.
وكل طلب للمعرفة هو في حقيقة صلاة. فالباحث في العلم الطبيعي هو كالصوفي في صلاته.
وتزيد الصلاة قربا من مقصودها بالاجتماع. وكل عبادة هي في جوهرها جماعية. والعبادة فردية كانت أم اجتماعية، هي إعراب عن تلهف الوجدان الإنساني إلى استجابة له في صمت العالم الهائل.
ومن وحدة الذات الكبرى التي تخلق كل الذوات وتمدها تنشأ وحدة النوع الإنساني. والقرآن الكريم يقول:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
صلاة الجماعة في الإسلام إعراب عن التطلع إلى تحقيق الوحدة الإنسانية برفع كل الحجب بين الإنسان والإنسان. (د)
وفي المحاضرة الرابعة: يتكلم عن الذات الإنسانية حريتها وخلودها، ويبين كيف عمت المسلمين جبرية مشئومة على خلاف ما علمه الإسلام ووكده من حرية الذات. ويقول إن هذه الجبرية التي عرفها الأوروبيون في كلمة «قسمة» ترجع إلى غلبة الفكر الفلسفي وإلى المطامع السياسية وضعف نبض الحياة التي بثها الإسلام في نفوس المسلمين.
ثم يقول إقبال:
نشأت، على خلاف دعوة أئمة المسلمين، جبرية مهلكة، وشاعت نظرية الأمر الواقع لتحصيل منافع لبعض الناس، وتيسير مطامعهم.
وليس هذا أمرا بدعا، فقد احتج فلاسفة محدثون بحجج عقلية على أن نظام رأس المال في الجماعة نظام أبدي.
حدث مثل هذا في تاريخ المسلمين، ولكن درج المسلمون على التماس أدلة مذاهبهم في القرآن، ولو على خلاف معانيه الواضحة فكان للتأويل الذي يحتج به على الجبرية آثار بالغة في الإضرار بالجماعة الإسلامية. (ه)
والمحاضرة الخامسة «روح الثقافة الإسلامية»:
يقول فيها إقبال: إن القرآن يبين أن الإدراك الباطني ينبوع واحد من ينابيع المعرفة الإنسانية. وللمعرفة ينبوعان آخران هما: الطبيعة والتاريخ. وبالاستقاء من هذه الينابيع الثلاثة تبلغ الثقافة الإنسانية أنضر صورها.
ويقول إقبال: إن الفكر الإغريقي لم يحدد خصائص الثقافة الإسلامية.
ويقول: إن فكرة في الإسلام عظيمة لم تقدر قدرها، ولم تعرف قيمتها في الثقافة الإسلامية، وتلكم فكرة ختم النبوة. إن النبوة في الإسلام بلغت أوج كمالها إذ عرفت الحاجة إلى ختمها. لا بد لكمال الوجدان الإنساني من أن يوكل إلى نفسه.
قد أبطل الإسلام سلطان الأحبار والرهبان، وألغى وراثة الملك. ودعا القرآن إلى الرجوع إلى العقل، والاعتبار بالتجاريب. ووجه النظر إلى الطبيعة والتاريخ على أنهما ينبوعان للمعارف البشرية.
وكل هؤلاء أوجه مختلفة للفكرة نفسها، فكرة النهاية والكمال.
ثم يقول المحاضر:
وأعظم خصائص الثقافة الإسلامية توكيدها في الأنفس «تصور عالم متحرك» وسنن مستمرة.
ومن قواعد الهدي الإسلامي أن الأمم والجماعات مأخوذة بأعمالها في هذه الحياة. ولهذا يكثر القرآن من قصص الماضين، ويأمر بالنظر في تجاريب الأمم غابرها وحاضرها.
ويقوم تعليم القرآن في هذا الشأن على أصلين:
الأول:
وحدة الأصل الإنساني. ويبين القرآن كثيرا أن الناس خلقوا من نفس واحدة.
والثاني:
قوة الشعور بأن الزمان حقيقي. وتصور الحياة سيرا مستمرا في الزمان.
وإن يدرك قادة العقول والأرواح في الأمم حقيقة هذه الأصول الإسلامية، يظفر الإنسان بعالم للمعيشة أفضل من هذا. (و)
والمحاضرة السادسة: «الحركة أصل في التعليم الإسلامي»، تكلم فيها الفيلسوف المسلم عن تصور الإسلام العالم على أنه عالم حركة. وقال إن الإسلام ينكر أواصر الأنساب، ويعترف بالأواصر الروحية، ويقرر أن حياة الإنسان روحية في كنهها، ولا يمكن التطلع إلى أساس نفساني تقوم عليه الوحدة الإنسانية إلا إذا عرفنا أن الحياة الإنسانية روحية .
ويقرر الإسلام أن أصل الوحدة الإنسانية في التوحيد. إن أصل الحياة كلها دائم يتجلى في مظاهر متغيرة. والجماعة القائمة على هذا الأصل ينبغي أن تجمع في نفسها هاتين الصفتين: الدوام والتغير. ومن يتصور الأصول الدائمة الأبدية غير قابلة التغير فقد وقف ما هو متحرك بطبيعته.
ومعنى هذه الفقرات التي نقلتها عن إقبال أن حياة الإنسان لا تحدها أنساب، ولكنها قائمة على أصول روحية بها وحدة الإنسان، وأن هذه الحياة الروحية دائمة في أصلها متغيرة في مظاهرها. فالجماعة الإنسانية ينبغي أن تقوم عل أصول دائمة من عقائدها وسننها، متغيرة في مظاهرها وأحوالها.
ثم يقول:
والحركة في الجماعة الإسلامية بالاجتهاد. ويؤسفنا أن هذا الأصل الذي يهب الأمة الحياة لم يعمل عمله في المسلمين. إن من أقوى أسباب ضعف المسلمين إهمال هذا الأصل، أعني إبطال الاجتهاد.
ثم يتكلم إقبال عن الإجماع أصلا من أصول الشرع الإسلامي، فيقول:
والأصل الثالث من أصول الشرع الإجماع. وهو عندي أعظم السنن الشرعية، وعجيب أن هذه السنة الرشيدة نالت كثيرا من بحث المسلمين وجدالهم، ولكنها لم تعد التفكير إلى العمل. وقلما صارت سنة عملية في بلد إسلامي. ولعل اتخاذها سنة دائمة ونظاما محكما لم يلائم مطامع الملك المطلق الذي نشأ في الإسلام بعد الخلفاء الراشدين. ولعل ترك الاجتهاد لأفراد من المجتهدين كان أقرب إلى منافع الخلفاء من بني أمية وبني العباس، من تأليف جماعة دائمة عسى أن تفوقهم قوة.
ومما يبعث على الرضا والأمل أن سيرة الحوادث في هذا العصر، وتجاريب أمم أوروبا؛ أشعرت الفكر المسلم الحديث بقيمة الإجماع وعرفته أنه ممكن. وشيوع النزعة الجمهورية، ونشوء مجالس التشريع يمهدان السبيل إلى العمل بسنة الإجماع. (ز)
وفي المحاضرة السابعة: «هل التدين ممكن؟»
يقول إقبال: ذلكم سؤال يشغل الإنسان في كل عصر ولا سيما في عصرنا، والعالم كله يلتمس أساسا يبني عليه وئام الناس وسلامتهم.
ويقول:
إن الدين في أعلى صوره، ليس أحكاما جامدة، ولا كهنوتية ولا أذكارا. ولا يتيسر إلا بالدين تهيئة الإنسان المعاصر لحمل العبء الثقيل الذي يحمله إياه تقدم العلوم في عصرنا. والدين وحده يرد إليه الإيمان والثقة اللذين ييسران له اكتساب شخصية في هذه الدنيا والاحتفاظ بها في الآخرة.
ولا بد للإنسان من الارتقاء إلى تصور جديد لماضيه ومستقبله ليستطيع التغلب على المجتمع المتنافر المتصادم، ويقهر هذه المدنية التي فقدت وحدتها الروحية بالتصادم الباطني بين الدين والمطامع السياسية.
والحق أن سير الدين والعلم، على اختلاف وسائلهما، ينتهي إلى غاية واحدة، بل الدين أكثر من العلم اهتماما ببلوغ الحقيقة الكبرى.
هذه نظرة عاجلة في بعض ما حوته هذه المحاضرات. وهي جديرة بعناية من تعنيهم أحوال المسلمين في هذا العصر.
2
أثر إقبال في أفكار المسلمين
في الخمس عشرة سنة التي مضت من وفاة إقبال إلى يومنا هذا، ألفت كتب باللغة الأردية والإنكليزية في سيرته وفلسفته، وفي صلة هذه الفلسفة بالإسلام، وبيان التشابه بين إقبال وبين فلاسفة آخرين أو بين شعره وشعر غيره من كبار الشعراء. كتب في هذه الموضوعات زهاء أربعين كتابا.
وكتبت مقالات كثيرة. وتنشر في لاهور مجلة اسمها إقبال تنشر مقالات بالأردية والإنكليزية في فلسفة إقبال وشعره.
تجد في هذه المجلة مثل هذه المقالات:
التطور في فلسفة إقبال.
الفن في مذهب إقبال.
إبليس في تصور إقبال.
فلسفة الذاتية عند إقبال.
إقبال ومسألة الاجتهاد.
معنى العشق في شعر إقبال.
معنى الفقر في شعر إقبال.
ولا تكاد تخلو مجلة أدبية في باكستان من مقال عن إقبال.
وفي يدي الآن مجلة باكستان،
3
عدد نيسان، وفيه هذه المقالات: إقبال شاعر الإسلام - إقبال رسالة أمل مشرق - إقبال والوطنية - إقبال الشاعر الفيلسوف - بيت من شعر إقبال - إقبال ومسجد قرطبة. •••
ونجد الكتاب يبينون عن آراء إقبال إجمالا وتفصيلا، ويستشهدون بما كتب في الفلسفة، وبما جاء في شعره. وشعره فصول فلسفية في صورة شعرية، كالأسرار والرموز اللذين أجملتهما آنفا، أو شعر يتضمن فكرا متفرقة من فلسفته، ولمعا مختلفة من آرائه، ينظمها الكتاب بعضها إلى بعض ليبينوا المذهب الذي نشأت عنه هذه الأقوال.
عرض هذا الشاعر الفيلسوف على العقول ما أيقظها وشغلها، وعلى القلوب ما أنبضها وأثارها.
ولا يزال الباحثون يجدون في فلسفته وشعره ما يشغل أقلامهم، ويملأ صحفهم على كثرة ما كتبوا. فماذا عسى أن أفضل من فلسفة إقبال؟ وكيف أحاول الإحاطة بها في كتاب هو أول ما كتب في لغتنا العربية عن هذا الشاعر؛ سيرته وفلسفته وشعره.
وإنما قصدت إلى أن يكون هذا الكتاب مقدمة لقراءة دواوين إقبال التي ترجمتها إلى العربية ما طبع منها وما يطبع إن شاء الله.
وقد كتبت لهذه الدواوين مقدمات فيها طرف من فلسفة إقبال، ولا سيما الآراء التي هي موضوع الديوان. فلعل القارئ المتقصي يضم هذه المقدمات إلى هذا الكتاب ليتبين سيرة إقبال وفلسفته.
الفصل الخامس
إجابة إقبال المعترضين على فلسفته في أوروبا
ترجم الأستاذ نكلسون منظومة أسرار خودي إلى الإنكليزية، وكتب لها مقدمة أثبت فيها ما كتبه إقبال إليه إيضاحا لفلسفته،
1
فاهتم بها بعض المتفلسفين هناك.
وكتب بعضهم نقدا لآراء إقبال، واعترض بعضهم على فلسفته بأنها فلسفة قائمة على تعظيم القوة والدعوة إليها، كفلسفة نطشه الفيلسوف الألماني، وبأنها فلسفة ليست إنسانية عامة، بل تخاطب أمة من الناس هي أمة المسلمين.
وأجاب إقبال موضحا مذهبه، رادا على من قرنوه بنطشه ومن عابوا على فلسفته أنها تخص المسلمين.
وأجمع جواب في هذا الموضوع ما كتبه إقبال إلى الأستاذ نكلسون، فسأكتفي به، ثم أكتفي منه بخلاصته: يبدأ إقبال الكتاب بالإعراب عن سروره باهتمام المفكرين بكتابه حين ترجم إلى الإنكليزية.
ثم يقول: إن بعض النقاد الإنكليز رأوا مشابهة ظاهرية بين أفكاره وأفكار نطشه، فوقعوا في غلط كبير. ويرد على من زعم أنه أخذ نظرية الإنسان الكامل من نظرية نطشه في الإنسان الذي سماه فوق البشر
Superman .
ويقول إنه كتب قبل ثلاثين سنة، مقالا عن الإنسان الكامل عند الصوفية، ولم يكن حينئذ اطلع على كتب نطشه ولا سمع باسمه.
ويمضي إقبال إلى أن يقول في خطابه إلى الأستاذ نكلسون: أعجبني نقد دكسن أكثر من كل نقد، فأنا أعالج المسائل الآتية في نقده:
المسألة الأولى
يتبين مما كتبه مستر دكسن إلي أنه يرى أني أحث على السعي إلى القوة المادية بل أبلغ في تعظيمها درجة العبادة. والحق أن هذا غلط محض. فدعوتي إلى القوة الروحية لا القوة المادية.
أرى أن محاربة أمة أمة لحماية الحق والخير فرض أخلاقي عليها، ولكن محاربتها لأجل «جوع الأرض» حرام في رأيي.
2
وحق قول دكسن إن الحرب مدمرة سواء أكانت لنصرة الحق أم لبسط السلطان، فيجب تجنب الحرب. ولكن التجارب ترينا أن المؤتمرات والمعاهدات ووسائل أخرى لا تمنع الحرب، وإن منعت الحرب ظاهرا بإحدى الوسائل اتخذت الأمم ذوات المطامع ذرائع أخرى لاستعباد أمم أضعف منها. فلا بد لنا من شخص يحل مشاكلنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويفصل في خصوماتنا بالعدل ويقيم الأخلاق الدولية على قواعد أثبت وأمتن.
3
المسألة الثانية
ثم يذكر دكسن فلسفة الكدح التي تدعو إلى الرجولة والصلابة، وهذه الدعوة قائمة على معنى الحقيقة الذي بينته في المنظومة. أرى أن الحقيقة هي مجموعة الشخصيات أو «الذاتيات»، وأن تأليفها الاجتماعي ينشأ من الجلاد. ومن هذا الجلاد ينشأ الانتظام والائتلاف آخرا.
هذا الجلاد ضروري للبقاء الشخصي، وهو أعلى درجات الحياة. نطشه ينكر البقاء الشخصي. وغلطه في هذا نتيجة غلطه في تصور الزمان أو الدهر. هو لم يبحث في مسألة الزمان من الجانب الإنساني ... وأنا، على خلافه، أعتقد أن البقاء الشخصي أعظم الآمال، ولا بد له من الجد والجهد الكاملين؛ لهذا دعوت إلى الحركة والجد والكدح وكل ضروب العمل، بل الحرب، حتى تستحكم الذات. ولهذا نهيت كل النهي عن جمود الصوفية وسكون الرهبان.
وهذا الجلاد الذي أدعو إليه هو في حقيقته أخلاقي لا سياسي. ولم يقصد نطشه إلا إلى معناه السياسي.
المسألة الثالثة
واعترض مستر دكسن على فلسفتي بأن دائرتها محدودة وإن كانت أصولها عامة «يعني أن إقبالا خاطب المسلمين، وطبق فلسفته عليهم وحدهم.»
حق إن الفلسفة والشعر ينبغي أن تكون لهما مقاصد إنسانية عامة، ولكن هذه المقاصد إذا أريد تحقيقها في أعمال الحياة لم يكن بد من تحقيقها أول الأمر في جماعة بعينها لها مسلك معين ومذهب مستقل، ولكن طرائقها في العمل تتسع بالدعوة والتبليغ إلى غير نهاية. وعندي أن هذه الجماعة هي الأمة الإسلامية. فالإسلام عدو لعصبيات الألوان والأجناس. وهي أصعب العقبات في سبيل اتحاد أمم العالم - قد غلط رينان حين قال إن الإسلام والعلم ضدان والحق أن الإسلام وعصبية الأقوام لا يجتمعان، إن أكبر أعداء الإسلام، بل الإنسانية، هذه العصبية. فعلى محبي الإنسانية أن يجاهدوا جهد طاقتهم هذه العصبية التي اخترعها إبليس.
قد رأيت أن عالم الإسلام كذلك سرت فيه القومية والوطنية القائمتان على عصبية الأمة والوطن، ورأيت المسلمين يغفلون عن مقاصدهم العامة ويقعون في شباك القومية والوطنية، فرأيت فرضا علي، بأني مسلم أو محب للإنسانية، أن أوجههم إلى مقاصدهم الحق.
لا أنكر أن عصبيات القبائل والأمم نافعة، إلى حين، في نشوء الحياة الاجتماعية وارتقائها، فلست أعترض على الاهتمام بهذه العصبيات من هذه الجهة، ولكن إذا عدت القومية أعلى درجات الرقي الإنساني فهي عندي أكبر لعنة على الإنسانية.
لا ريب أني أحب الإسلام وأهيم بحبه، ولكن خطأ قول دكسن أني خصصت المسلمين بكلامي عصبية لوطن أو أمة. لم يكن لي وسيلة أخرى لتطبيق هذه الفلسفة. إذ رأيت الجماعة الإسلامية أكثر الجماعات ملاءمة لمقصدي.
ثم الإسلام ليس من الضيق كما يتوهم دكسن؛ فالتعليم الإسلامي لا يخص قبيلا دون قبيل، ولكن يقصد إلى أخوة البشر كافة. فهو يدعو الناس أجمعين إلى التعاون والتآخي، وأن يغفل في هذه السبيل ما بينهم من اختلاف جزئي:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله .
وأكبر الظن أن مستر دكسن لا يزال في أسر الوهم القديم، وهم أهل أوروبا أن الإسلام يدعو إلى القتل وسفك الدماء. والحق أن سلطان الله على الأرض، لا يخص المسلمين بل يمكن أن يعم الناس أجمعين، على أن يتركوا عبادة الأصنام، أصنام النسب واللون والقوم والوطن. لا تستطيع إسعاد الناس معاهدات الصلح ومجالس الأمم، وأوامر الملوك. لن يستطاع هذا إلا بالاعتراف بحرية الناس وتساويهم دون نظر إلى نسب أو وطن ...
لا أنكر أن المسلمين كغيرهم خاصموا أو حاربوا أو سخروا الأقطار، وأن بعض سلاطينهم ألبسوا مطامعهم لباس الدين، ولكني على يقين أن الفتح والتسخير ليسا من مقاصد الإسلام، بل أعتقد أن الفتوح عاقت نماء النظام المبارك، نظام الشورى الذي نجد أصوله في القرآن والحديث. ولم يكن للمسلمين بد من إقامة الممالك العظيمة في أرجاء الأرض، ولكنهم اضطروا في سبيلها إلى العدول عن بعض سننهم القويمة. وغلب على أغراضهم السياسية مسحة غير إسلامية. فأغمضوا عيونهم عن سعة المقاصد الإسلامية وعمومها.
لا ريب أن الإسلام قصد إلى دخول الناس فيه ولكن دون إكراه ... إن العقائد الإسلامية يسيرة معقولة. فهي توافق العقل السليم، وتسلم من تعقيد الفلسفة.
إن في فطرة الإسلام مزايا تيسر له أن يبلغ أوج الظفر. انظر إلى الصين مثلا، فيها من المسلمين عشرات الملايين دخلوا في الإسلام بالدعوة، وما كان للمسلمين في الصين سلطان سياسي، وفي هذا برهان على أن الإسلام يفتح القلوب بغير سلطان سياسي ودون إكراه.
قد طالعت فلسفة العالم أكثر من عشرين سنة، ففي وسعي أن أدلي برأيي بريئا من التعصب، وأن أنقد حوادث العالم غير متحيز.
إني أقصد في دواويني إلى أن أضع أمام أعين الناس مثلا عالية عمرانية شاملة، ولكني لم أستطع حين صورت هذه المقاصد، أن أغض البصر عن نظام اجتماعي مقصده أن يمحو بين الناس فروق الأشخاص والدرجات والأنساب والألوان، ودعوته أن يعمل الإنسان لدنياه ويعلو على مطامع هذه الدنيا ما استطاع ولا يرجو إلا رضاء الله. إن الإسلام يدعو إلى أن يأخذ الإنسان نصيبه من الدنيا، ثم يدعو أن تهجر كل لذات الدنيا في سبيل مقاصد الحياة العليا.
وإن أوروبا محرومة من هذا التعليم، هذا الكنز الثمين. وتستطيع أن تأخذ عنا هذا المتاع النفيس الذي لا يقوم. •••
ثم مسألة أخرى أختم بها: إن الأقوال التي بعثتها إليك فأدرجتها في مقدمة أسرار خودي، قد بينت مذهبي في ضوء آراء مفكري الغرب ومذاهبهم. وإنما اخترت هذه الطريقة لأيسر لقراء الإنكليزية فقه آرائي. ولو شئت لاستشهدت بالقرآن الحكيم، وأقوال الصوفية الكرام، وحكماء المسلمين، كما فعلت في المقدمة التي أثبتها في الطبعة الأولى لأسرار خودي.
إني أدعي أن فلسفة أسرار خودي مأخوذة من آراء صوفية المسلمين وحكمائهم، وأن أبحاث برجسون
4
في الزمان والوقت ليست جديدة عند صوفيتنا. قد بينت هذه المسائل في كتب التصوف بطرائق مختلفة.
القرآن المجيد ليس كتاب فلسفة أو إلهيات، ولكن فيه هدي إلى مقاصد الحياة ورقيها، وفيه أصول فلسفية يقينية. ولو أن مسلما متفلسفا بين المسائل القرآنية في ضوء الأفكار والتجارب الحديثة ما صح اتهامه بأنه يقدم شرابا جديدا في زجاجة قديمة، كما يقول مستر دكسن. أنا لا أعرض أفكارا جديدة في ثياب قديمة، ولكني أبين حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة.
ما أشد أسفي لجهل أهل الغرب الإسلام والفلسفة الإسلامية!
ليت الفرصة تتاح لي فأكتب في هذا الموضوع كتابا ضخما فأعلم حكماء الغرب الحقيقة، فيروا مقدار التشابه بين فلسفتنا وفلسفتهم.
الباب الثالث
شعر إقبال
أنظر في هذا الباب نظرات في دواوين إقبال وما فيها من فنون شعر. وغني عن البيان أني لا أفصل القول في اللغة والتركيب والأسلوب؛ إذ كان هذا كتابا لقراء العربية الذين لا يقرءون دواوين الشاعر في لغتيها الأردية والفارسية.
فسأقصر كلامي على تعداد دواوين إقبال وذكر موضوعاتها إجمالا، وعلى مذهب إقبال في الفنون الجميلة عامة والشعر خاصة، وعلى نظرات عاجلة في شعره.
وأقسم هذا الباب على هذه الفصول:
الأول:
دواوين إقبال.
الثاني:
مذاهب النقاد ومذهب إقبال في الفنون الجميلة.
والثالث:
مذهب إقبال في الشعر، وبيان هذا المذهب في شعره.
والرابع:
شعر إقبال، موضوعه وأشكاله وأساليبه، ولغته.
والخامس:
أمثلة من شعر إقبال.
الفصل الأول
دواوين إقبال
أقصد في هذا الفصل إلى تعريف القارئ بدواوين إقبال؛ موضوعاتها ومقاصدها ولغاتها وأزمنتها، دون تفصيل فيما تحويه من فلسفة وشعر. وأجعل هذا التعريف تمهيدا للكلام في شعره.
والتعريف بهذه الدواوين على ترتيب زمانها. وليس من مقصدي ولا في مكنتي أن أنظر في تطور أفكار إقبال على الزمن. فهو موضوع يقتضي بحثا مطولا في كتاب كبير. (1) بانگ در
في اللغة الأردية
ديوان بانگ درا «صلصلة الجرس» نشر أول مرة سنة 1924م. ونشر الشاعر قبل هذه السنة منظومتي الأسرار والرموز وپيام مشرق، ولكني بدأت بهذا الديوان بما يحوي شعر الصبا الذي نظمه قبل هاتين المنظومتين وغيرهما.
وقد عرفنا الشاعر بتاريخ القصائد في هذا الديوان إجمالا؛ إذ قسمه هذه الأقسام:
القسم الأول:
إلى سنة 1905 وفيه زهاء ستين قصيدة وقطعة، نظمها منذ شرع ينظم الشعر إلى أن سافر إلى أوروبا سنة 1905م كما قدمت في سيرته.
وفي هذا القسم قصائد قومية ووطنية، إلى قصائد إسلامية وإنسانية.
والقسم الثاني:
من 1905-1908م.
وهو ما أنشأه في أوروبا حينما ذهب إليها للدرس كما بينت في سيرته.
وهو زهاء ثلاثين قصيدة وقطعة. وهذا القسم جدير بالعناية بما يبين عن شعور الشاعر أول عهده بالإقامة في أوروبا، ورؤيته حضارتها في مواطنها على اختلاف وجوهها، وتعدد مظاهرها.
والقسم الثالث:
من 1908م إلى أن نشر الكتاب سنة 1924م وفيه زهاء ثمانين قصيدة وقطعة.
وآخر القصائد الطوال في هذا القسم قصيدتان عنوانهما: «خضر راه» و«طلوع الإسلام»، أنشد الأولى في احتفال «أنجمن حمايت إسلام» سنة 1922م، والثانية في احتفال الجمعية نفسها سنة 1923م. وقد وصف في الأولى مصائب المسلمين، وفي الثانية آمالهم. نظر في الأولى إلى ما أصاب الدولة العثمانية في هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وفي الثانية إلى انتصار الترك في حرب الاستقلال. لم يذكر الحوادث صراحة، ولكن أشار إليها إشارات يدركها القارئ.
في هذا الديوان شعر لإقبال أنشأ بعضه في صباه وبعضه في سن الخمسين. فأي مراد لقارئ وأي مجال لباحث، هذا الشعر الذي أنشأه شاعر نابغ بين حداثته وكهولته. (2) أسرار خودي ورموز بي خودي «أسرار الذاتية ورموز نفي الذاتية» في اللغة الفارسية
منظومتان على القافية المزدوجة وهي تسمى المثنوي في عرف شعراء الفارسية ومن تبعهم من شعراء التركية والأردية.
وهما منظومتان طويلتان يبين فيهما الشاعر فلسفته. وقد عبرتهما مع القارئ في باب الفلسفة.
نشرت المنظومة الأولى سنة 1915، والثانية بعد ثلاث سنين. (3) پيام مشرق «رسالة المشرق» في اللغة الفارسية
طبع هذا الديوان أول مرة سنة 1923.
وكتب الشاعر فوق عنوان الديوان: «ولله المشرق والمغرب» وكتب تحته:
جواب ديوان الشاعر الألماني گوته.
وهو روضة من الشعر تختلف أزهارها ونوارها وضروب النبات فيها وألوانه، وصنوف الريحان فيها وروائحه. جمعت أشتات الزهر من المشرق والمغرب.
وفيها الأقسام الآتية: (1)
شقائق الطور، وهي رباعيات. (2)
الأفكار، وهي إحدى وخمسون قطعة وقصيدة. (3)
الخمر الباقية، وهي قصائد صوفية رمزية من الضرب الذي يسمى في اصطلاح الأدب الفارسي غزلا. وهو غير الاصطلاح العربي. والغزل في اصطلاح شعراء الفرس أبيات قليلة لا يلتزم فيها الشاعر موضوعا واحدا. وعدد الغزليات في هذا القسم خمس وأربعون. (4)
نقش الفرنج، وهي أربع وعشرون قطعة وقصيدة، يذكر فيها إقبال بعض شعراء أوروبا وفلاسفتها، وينقد مذاهبهم وآراءهم فيقبل منها ويرد. (5)
الدقائق، وهي قطع صغيرة وأبيات مفردة ألحقها بالديوان.
وقد ترجمت هذا الديوان إلى العربية. وطبع في كراجي قبل ثلاث سنين. (4) زبور عجم
باللغة الفارسية
نشره سنة 1929م. وهو من أجود شعره، وأدقه معنى، وأبعده مرمى.
صدره بكلمة إلى القراء، يقول فيها:
تحجب عيني شعرة حينا، وترى عيني العالمين حينا. إن وادي العشق سحيق وطويل، ولكن طريق مائة سنة تطوى بآهة حينا. جد ولا يهن أملك وعزمك. فرب سعادة تواتي على قارعة الطريق حينا.
وهذا الديوان أربعة أقسام:
الأول:
فيه دعاء وست وستون قطعة أكثرها بدون عنوان.
والثاني:
فيه خمس وسبعون قطعة تقل فيها العناوين أيضا.
والثالث:
حديقة السر الجديدة «گلشن راز جديد»، وهو على طريقة «گلشن راز» الذي ألفه الشيخ محمود الشبستري إجابة لأسئلة في التصوف أرسلها إليه بعض الصوفية. ولهذا سمى إقبال منظومته «گلشن راز جديد».
وفيه يجيب إقبال تسعة أسئلة فيها دقائق فلسفية وصوفية.
السؤال الأول مثلا:
أنا في حيرة من فكري. ما الشيء الذي يسمى فكرا؟
أي فكر يدلنا على الطريق؟ لماذا تكون الطاعة حينا والمعصية حينا؟
والسؤال التاسع:
من الذي انتهى إلى سر الوحدة؟ وما الذي انتهت إليه معرفة العارف؟
والقسم الرابع من هذا الديوان: «كتاب العبودية»
بين فيه آثار العبودية في الحياة، والفنون الجميلة، على مذهبه المعروف. هذه الأقسام كلها تعرف باسم زبور عجم. وقد جمعت في مجلد واحد، عليه هذا العنوان، ولكن يتبين من العناوين الداخلة أن القسمين الأولين هما زبور العجم، وألحق بهما القسمان الأخيران بعنوانين منفصلين. (5) جاويد نامه
بالفارسية
وديوان جاويد نامه طبع سنة 1932، ومعناه الكتاب الخالد، وفيه تورية إلى جاويد ابن الشاعر.
وهو منظومة مزدوجة القافية «مثنوية» في بحر واحد هو الرمل مثل منظومتي الأسرار والرموز. وهي من أعمق شعره، يحتاج قارئها إلى زاد كثير من المعرفة بالتصوف والفلسفة والتاريخ.
وجاويد نامه قصة سفر في الأفلاك كقصة دانتي الشاعر الإيطالي، فيها زهاء ألفي بيت.
للقصة مقدمة فيها مناجاة وفصول أخرى، إلى أن تظهر روح جلال الدين الرومي صاحب المثنوي المشهور. فيشرح أسرار المعراج. وهو دليل الشاعر في هذه الرحلة، ثم يأتي زروان، وهو روح الزمان والمكان، فيحمل الشاعر ودليله جلال الدين إلى العالم العلوي، فيسيحان في الأفلاك الستة: القمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل، ثم فيما وراء الأفلاك. وتختم المنظومات بأبيات كثيرة يخاطب فيها جاويد «ابنه» والجيل الجديد.
1
وفي هذه الأسفار يلقى الشاعر كثيرا من الفلاسفة والصوفية والشعراء والملوك والساسة القدماء والمحدثين.
مثلا يقابل في فلك القمر جمال الدين الأفغاني وسعيد حليم باشا.
ويلقى في فلك الزهرة فرعون وكتشنر و...
وفي فلك المشتري يلاقي الحلاج والشاعر غالب وقرة العين الطاهرة.
وفيما وراء الأفلاك يرى نطشه الفيلسوف الألماني والسيد الهمذاني ونادر شاه، وأحمد شاه الأبدالي والشاعر الهندي برتري هري.
وكانت هذه المنظومة أول ما فكرت في ترجمته من دواوين إقبال، ولكن بدا لي من بعد أن أقدم عليها رسالة المشرق، ثم ضرب الكليم ثم الأسرار والرموز.
ولا أدري متى يتيسر لي ترجمتها، والله ولي التيسير. (6) مسافر
باللغة الفارسية
وفي سنة 1934 نشر مسافر «باللغة الفارسية» وهي منظومة مزدوجة «مثنوية»، سجل فيها ما جال بفكره وجاش في قلبه حينما سافر إلى أفغانستان بدعوة من الملك نادر شاه كما قدمت في الكلام على سيرته.
وخاطب في هذه المنظومة الملك نادر شاه، وقبائل الأفغان، وهو كثير الإعجاب بشجاعتهم وحريتهم.
وكذلك وقف على ضريح الملك بابر رأس الدولة التيمورية في الهند، وهو من أعظم ملوك العالم، وعلى قبر الشاعر الصوفي الحكيم سنائي، وهو طليعة شعراء التصوف العظام في اللغة الفارسية. وأدى حق التاريخ بوقفة على قبر السلطان محمود الغزنوي «يمين الدولة وأمين الملة ... محمود بن سبكتكين»، وزار أيضا قبر أحمد شاه بابا، الملقب دراني.
وختم المنظومة بأبيات خاطب بها الملك ظاهر شاه بن نادر شاه. وقد قتل نادر شاه - رحمه الله - بعد عودة الشاعر من أفغانستان، فخلفه ابنه ظاهر شاه.
بال جبريل «جناح جبريل» باللغة الأردية
نشره سنة 1935. وفيه هذه الأقسام: (1)
إحدى وستون قطعة تتناول أفكاره الشائعة في شعره في صور شتى ورباعيات قليلة. (2)
وقصائد نظمها في الأندلس حينما زارها كما بينت في سيرته.
وهي دعاء في مسجد قرطبة، وقصيدة طويلة رائعة في وصف هذا المسجد، وقصيدة عن المعتمد بن عباد في سجنه، وأول نخلة غرسها عبد الرحمن الداخل في الأندلس، وقصيدة عن إسبانيا، ثم دعاء طارق في المعركة. (3)
ومن عيون القصائد في القسم الثالث منظومة عنوانها «لينين أمام الله». وهي في صورة قصة تمثيلية، وأشعار نظمت في فلسطين، ومنظومة عنوانها «الملائكة يودعون آدم خارجا من الجنة»، ومحاورة طويلة بين جلال الدين الرومي ومريد هندي.
وأبيات عنوانها على قبر نابليون، وأخرى عنوانها مسوليني. (4)
وقطع أخرى كثيرة. (7) بس جه بايد كرد اي أقوام شرق «ما ينبغي أن نعمل يا أمم الشرق» باللغة الفارسية
منظومات مثنوية نشرها سنة 1936م بعد أن استولت إيطاليا على الحبشة. ووضع عليها كلها عنوان المنظومة التي ذكر فيها حرب الحبشة وعصبة الأمم. وهو العنوان الذي صدرت به هذه الأسطر، ولكن فيها عناوين متعددة في موضوعات مختلفة مثل: خطاب الشمس، الحكمة الكليمية، الحكمة الفرعونية، لا إله إلا الله، الفقر، الرجل الحر، في أسرار الشريعة، كلمات إلى الأمة العربية ... إلخ.
وهذه المنظومات في جملتها حكمة بالغة ، وشعر بليغ نفثهما الشاعر حين حزنته أحوال المسلمين، وحزبه ما رأى من فتون الحضارة الأوروبية، وضلالها وجور ساستها، وقسوة قادتها، وعدوانهم على الأمم الضعيفة. (8) ضرب كليم
باللغة الأردية
نشره سنة 1937. ولم ينشر في حياته ديوان بعده.
وهو ديوان مفصل على أبواب فيها نظرات في الإسلام، والتربية، والمرأة، والفنون الجميلة، والسياسة، وغيرها.
فالفلسفة فيها واضحة ظاهرة في أفكار معينة وموضوعات محددة، ودعوة إقبال فيها واضحة.
وهو ثاني دواوين إقبال التي ترجمتها إلى العربية. وقد كتبت له مقدمة وافية، فليرجع إليه من يشاء. (9) أرمغان حجاز «هدية الحجاز» باللغتين الفارسية والأردية
هذا الديوان نشر بعد وفاة الشاعر. فيه آخر أفكاره، وختام نظراته، ولكن فيه منظومة مهمة عنوانها مجلس شورى إبليس كتب فوقها «سنة 1936». ولا أدري لماذا لم تنشر من قبل في ضرب كليم الذي نشر في 1937. لعل الشاعر لم يجدها ملائمة لهذا الديوان، وهو آخر ما نشر في حياته، فجمعت إلى ما نظم بعد ضرب كليم في هذا الديوان الآخر، ديوان أرمغان حجاز.
والقسم الفارسي من هذا الديوان، وهو أكثره، رباعيات مقسمة على هذه العناوين: إلى الحق «الله تعالى» - إلى الرسول - إلى الأمة - إلى العالم الإنساني - إلى رفقاء الطريق.
وبين الرباعيات التي جعل عنوانها إلى الأمة، إحدى عشرة رباعية يخاطب بها شعراء العرب.
وفي كل قسم من هذه الأقسام عناوين أخرى تتقسم الرباعيات والقسم الأردي أعظم شأنا: فيه مجلس شورى إبليس، وهو محاورة بين إبليس ومشيريه، وشكوى من بعض المشيرين من الديمقراطية يخافون أن تصلح العالم، وشكوى أخرى من الشيوعية، ومحاورة بين المشيرين، وجواب إبليس بأنه لا يخشى كل ما ذكروه من المذاهب، ولكن يخشى الإسلام إن تنبه المسلمون. ففيه دون غيره القضاء على سلطان إبليس.
ومن عيوب قصائد هذا القسم رثاء رأس مسعود صديق الشاعر. وهو رثاء بلغ فيه إقبال من الفلسفة والعاطفة الدرجات العلى.
وفي هذا القسم محاورات أخرى، وآخره رباعيات.
الفصل الثاني
مذهب إقبال في الفنون الجميلة
(1) مقدمة
للفلاسفة والنقاد مذاهب وآراء في الفنون الجميلة عامة وفي الشعر خاصة.
تختلف مذاهبهم وآراؤهم في قدر الفنون وخطرها، وتختلف في مقاصد الفنون وغاياتها، وتختلف في مقاييس الحسن والقبح، والكمال والنقص فيها.
وذلكم موضوع واسع مفصل لا يتسع المجال لبحثه كله أو بعضه. فحسبي التمثيل ببعض المذاهب وأصحابها تمهيدا للإبانة عن مذهب إقبال:
الفن له مقاصد
يرى كثير من النقاد أن الفنون محاكاة الطبيعة. وأقدم من أثرت آراؤهم في هذا أفلاطون وأرسطو؛ قالا: إن الفن محاكاة للطبيعة ولكنهما يختلفان فيما بعد هذا.
فأفلاطون يحقر الفنون بأنها محاكاة الطبيعة، والطبيعة نفسها مظاهر خادعة أو ظلال لا حقائق لها. ومذهبه في عالم الحقائق أو المثل وعالم المادة معروف. ويذم أفلاطون التمثيل لأنه يثير العواطف فيصعب كبحها، ويحقر الشعراء بأن خيالاتهم الكاذبة في الله والناس سيئة الأثر في عقول الشبان.
ويستحسن أرسطو الفنون بأنها محاكاة الإنسان لأعمال الإله. إنها تحاكي الطبيعة والإله هو المحرك الأول لها. ويحمد أرسطو الفن كذلك بما يثير العاطفة ويهديها فتسهل السيطرة عليها.
ويؤخذ من هذه الكلمات أن الفيلسوفين يقومان الفنون بما تؤدي إليه من خير وشر. فهما ممن يتبعون الفن المقاصد الأخلاقية. وأكثر النقاد على هذا المذهب يقومون الفن بأثره في الإنسان وصلته بالأخلاق.
ولأفلاطون خاصة عناية بأثر الفن في الأخلاق؛ يرى أن الفن في مادته وصورته، ينبغي أن يقصد إلى الأخلاق والمعرفة، وأن سحر الفن ينبغي أن يستعان به على خلق المواطن الصالح.
ويرى أن تحظر الموسيقى إلا الألحان التي تدعو إلى الشجاعة والإقدام والألحان التي تنبه الإنسان، وتبث في نفسه حب الاعتدال والنظام وتقديس الآلهة.
وأما السرور الذي يبعثه الفن فهو يعين العقل على هداية الإنسان إلى الصراط السوي.
ويذم أفلاطون أصحاب الفنون المفسدين، ويوصي بأن ينفوا من البلاد.
كثير من النقاد، بل أكثرهم يوجبون أن يكون للفن مقاصد، ويقومونه بآثاره في حياة الإنسان، وفي طليعة هؤلاء أفلاطون وفي مؤخرتهم برناردشو.
منهم من يجعل غاية الفن السرور. ويؤثر عن أرسطو قوله إن الفن محاكاة لها مقصد نفساني واجتماعي. وهذا المقصد هو اللذة التي تنشأ من انطلاق الانفعال المكظوم.
ويؤثر عن سنت أغسطين في العصور الوسطى، أن مقصد الفن خلق الجمال، والجمال هو ما تسر الإنسان رؤيته. وذهب هذا المذهب نقاد في كل عصر حتى عصرنا هذا. ومنهم العالم النفساني فرويد، يرى أن الفن يريح فكر الفنان والرائي من التوتر، بإرضاء الرغبات المكظومة.
والفريق الثاني من القائلين بأن للفن مقاصد، منهم من يقول إن مقصد الفن الحياة نفسها، ومنهم قائل إن الفنان معلم، وأعلى مقاصده أن ينبض قلب الإنسان. والقلب مركز الحياة. فالفن موصول بحياة الإنسان لا محالة، موصول بكونه المادي والأخلاقي. ويقول آخر إن الفن نقد الحياة. ويقول تلستوي: إن مقصد الفن أن ينقل إلى النفوس أنبل العواطف وأعلاها.
ويذم الفن الفرنسي في عصر الانحطاط لأنه يعبر عن عواطف الحكام الأراذل.
الفن للفن
في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، انتشرت دعوة إلى تقويم الفن بنفسه، وإنكار أن يكون للفنون مقاصد إلا نفسها. وقال دعاتها إنما يعالج الفن للفن.
1
وكان من دعاتها في فرنسا فلوبير وبدلير،
2
وفي روسيا بسكن، وفي إنجلترا أسكار وايلد وولتر بيتر
3
وكانت هذه الدعوة في الحقيقة تطورا لمذهب الطبيعيين.
4
ومعنى هذه الدعوة أن الفن يقصد لجماله. وأما الحق والخير وما يتصل بهما فليس لها صلة بالفن، أو هي تابعة وليست المقصد الأصلي ... ليس للفن غاية إلا نفسه، لا يقصد إلا إياه.
ليس للفن رسالة إلا أن يثير في النفس الإعجاب بالجمال، وإن قصد أمرا آخر كالأخلاق والتعليم والمال والصيت، وضع هذا القصد من قيمة الفن. الفن مقصد لا وسيلة. ومن قصد في الفن إلى غير الجمال فليس بفنان. والشيء إذا صار نافعا لم يبق جميلا.
يقول أسكار وايلد:
أول شرط للابتكار أن يدرك النقاد أن عالم الفن وعالم الأخلاق متباينان كل التباين.
وكانت هذه الدعوة، من الجهة الاجتماعية، دعوة إلى الفردية المطلقة أنشأت فنونا مدمرة كل الفضائل التي عرفتها العصور الماضية.
أصحاب العبارة
وذاعت قبل هذه الدعوة، واستمرت بعدها. دعوة أخرى تشبهها. هي الدعوة إلى تقويم الفن بصورته لا بمعناه، إلى تقويم الشعر مثلا بالألفاظ والوزن والأسلوب لا بالموضوع والمعنى. فهي تميز بين القصة - مثلا - ومعانيها وأشخاصها، ومسارحها، وعواطفها، وبين اللغة والعبارة والسياق والوزن.
وقد ثار من قبل الجدال بين أدبائنا أدباء العرب على البلاغة أهي في الألفاظ أم في المعاني. وكتب في هذا عبد القاهر الجرجاني صاحب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وغيره.
وتذكرنا كلمات ابن خلدون في مقدمته بدعوى هؤلاء اللفظيين، يقول:
فالمعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى. فلا تحتاج إلى صناعة، وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه، وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها: آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء، كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها.
وقال المتأخرون من أصحاب هذا المذهب:
ليس الاعتبار بما تعبر عنه بل بما تعبر به، ولا قيمة للمعنى بل للأداء، فربما تعرب عن قبيح أو جميل، وعن حق أو باطل، وعن صواب أو غلط، ولا يدخل شيء من هذه في تقويم الفن، ولكن يقوم الفن بالصورة التي تبين بها عن هذه الأشياء.
قابل هؤلاء شعار «الفن للفن» بشعار «العبارة للعبارة». وكانت هاتان النظريتان شائعتين حينما شرع إقبال ينظم الشعر.
ولكن الشاعر الفيلسوف القوي لم يبال بهذه ولا تلك كما نرى من بعد. (2) مذهب إقبال في الفنون عامة
أبدأ هذا الفصل بكلمة عالية كتبها إقبال في مقدمته لديوان غالب المصور:
إذا نظرنا في تاريخ الثقافة الإسلامية فرأيي أن الفن الإسلامي فيما عدا العمارة «الموسيقى والتصوير بل الشعر» لما يولد، أعني الفن الذي يقصد إلى أن يتخلق الإنسان بأخلاق الله. والذي يمد الإنسان بإلهام لا ينقطع «أجر غير ممنون»، ثم يحقق له خلافة الله في الأرض.
ذلكم طموح إقبال في الفنون وأمله فيها، وذلكم ما اجتهد طول عمره أن يحققه في شعره، وفلسفته.
وفي ديوان زبور العجم منظومة طويلة بين فيها إقبال أثر الحرية والعبودية في الفنون، ووصل الفن بقلب الإنسان وروحه، بل وصله بالله تعالى، إذ جعل الفنان الحق هو الذي يسمو بنفسه محاولا أن يتصف بصفات الله.
ويرى القارئ في هذا الفصل شواهد من هذه المنظومة حين الكلام في التصوير والموسيقى والعمارة.
يذهب إقبال في الفنون مذهبا يلائم فلسفته التي أجملتها للقارئ في هذا الكتاب: قوام الحياة الذاتية، ومقصود الحياة تقوية الذاتية، وتكميلها وشحذها وإشعالها. وتقوى الذات من تخليق المقاصد والآمال. والذات بعشق آمالها، والسير إليها، واقتحام العقبات من أجلها، واحتقار الأهوال في سبيلها؛ تذلل كل صعب، وتيسر كل عسير، وتدني كل قصي، وتسخر كل شيء.
وقد طبق إقبال مذهبه هذا في كل شئون الحياة: (أ) الخير ما يقوي الذات وينميها ويكملها، والشر ما يضعفها وينقصها.
وفي القرآن الكريم:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها .
وهذا قياس كل شئون الحياة وعقائد الإنسان وأعماله:
الدين والفن والتدبير والخطب
والشعر والنثر والتحرير والكتب
كل يحيط بمكنون يضن به
في صدره يتوارى جوهر عجب
5
إن تحفظ «الذات» هذي فالحياة بها
أو قصرت فهي عندي السحر والكذب
كم أمة تحت هذي الشمس قد خزيت
إذ جانب الذات فيها الدين والأدب (ب) والفنون تقوم بقوة النفس التي أنشأتها، وقوة إيحائها وقوة تأثيرها في الطبيعة والإنسان. كل فن أنشأته نفس ضعيفة، فكان له في الناس أثر ضعيف، أو أنشأته نفس مفسدة شريرة، فكان له في الناس إفساد، فهو فن لا قيمة له، بل هو فن خاسر، يضر ولا ينفع.
ولا يقوم الفن بنفسه، فإن مقصود الفن الحياة.
يقول الشاعر في المقدمة القصيرة التي كتبها سنة 1928م لديوان الشاعر غالب المصور، الذي صوره عبد الرحمن جغتاي والمسمى مرقع جغتائي:
أرى الفن خادما للحياة والشخصية. أبنت عن هذا الرأي سنة 1914م في ديواني «أسرار خودي» وأوضحته مرة أخرى بعد اثنتي عشرة سنة في القصيدة الأخيرة من ديوان «زبور العجم»، حيث حاولت تصوير روح الفنان الأمثل الذي يتجلى العشق فيه توحيدا بين الجمال والقوة.
ويقول في ضرب الكليم:
إذا أضنت الروح آلام رق
ففنك عبد رهين سجود
وإن عرفت قدرها كنت حقا
على الإنس والجن رب الجنود
الخلود للإنسان وللفن بالقوة والحرية والتأثير في الحياة، التأثير القوي الحسن، الذي يقوي الحياة الضعيفة ويزيد الحياة القوية قوة:
أتت تحت الشمس تمضي كشرار
لست تدري ما مقامات الوجود
ليس في فنك للذات بناء
ويح تصوير وشعر ونشيد
والفن الذي لا يطبع على الحياة نفسه، ولا يخلد على الدهر آثاره ليس جديرا باسمه.
مقصد الفن في الحياة لهيب
أبدي، فما وميض الشرار؟
قطر نيسان! ما اللآلئ إن لم
تتلاطم بها قلوب البحار؟
6
ما نسيم الصباح في الشعر واللحن
إذا ما أذوى سنا الأزهار؟
ليس إلا الإعجاز يحيى، ففن
ليس ضرب الكليم فيه، عواري
لا فن بغير قوة ولا جمال بغير جلال:
وأرى الجمال جميعه في أن ترى
في سجدة للقوة الأفلاك
ولنغمة من دون نار نفخة
ما الحسن إلا بالجلال يحاك (ج) ويقول إقبال في مقدمة ديوان غالب:
لعل إيحاء واحدا من نفس مسفة، تستطيع إغواء الناس بغنائها أو تصويرها، شر على الأمة من جيش لآتيله أو جنكيز.
كما قال نبي الإسلام في امرئ القيس أعظم شعراء الجاهلية: «أشعر الشعراء وقائدهم إلى النار.»
وهو ينعي نفسه على الهنادك بعد فنهم عن الحياة، واقترانه بالخنوع وتصويره الموت، وقتله الروح. يقول في ضرب الكليم:
تخيلهم جنازة كل عشق
وظلمة فكرهم للحي قبر
وموثنهم به نقش المنايا
7
وليس لفنهم بالعيش خبر
ينيم الروح في إيقاظ جسم
ودون المجد يسدل منه ستر
يسخر للأنوثة كل شيء
لهم قصص وتصوير وشعر (د) والفن الصادق صورة من نفس الفنان، بل هو مصور بدمه وعصبه:
من حرقة في دم الباني مشيدة
حانات حافظ أو زونات بهزادا
8
ما جوهر يتجلى دون مجهدة
من ومضة الفاس نارت دار فرهادا
9
وليس للمقلد فن، إنه يبني أصنامه من حطام أصنام قديمة.
تعس الكافر من أصنامه
من حطام لمناة واللات
هالك صلى عليه فنه
في ظلام اللحد يرنو للحياة (ه) محاكاة الطبيعة: ويرى إقبال أن الفنان ينبغي ألا يحاكي الطبيعة، بل ينبغي أن يطبع نفسه عليها، ويصور شعوره فيها. ويقول إن الإنسان خلاق لا مقلد، وصائد لا صيد، وإن أهرام مصر أعظم من الصحراء المحيطة به!
شادت الفطرة كثبانا لها
في سكون من يباب يتقد
روع الأفلاك فيه هرم
أي كف صورت هذا الأبد؟!
من أسار الكون حرر صنعة
صائد ذو الفن أم صيدا يعد
وفي رسالة المشرق يقف إقبال الإنسان أمام خالقه معددا ما فعل في الأرض:
خلقت الظلام فصغت السراج
وطينا خلقت فصغت الكئوسا
خلقت جبالا وبيدا وروضا
خلقت حدائقها والغروسا
أنا من حجار صنعت مرايا
أنا من سموم صنعت دوايا
ويقول في ديوان آخر:
ذلك الفنان الذي يزيد على الطبيعة، ويفشي لأعيننا أسراره. حوره من حور الجنة أجمل، ومن ينكر أصنامه فهو كافر.
10
وأختم هذه الكلمة بقوله في مقدمة ديوان غالب:
إن في سيطرة المرئي على غير المرئي، وابتغاء ما يسمى في العلم ملاءمة الطبيعة اعترافا بسيادة الطبيعة على روح الإنسان. وإنما القوة في مقاومة تأثيرها لا في خضوعنا لعملها. إن مقاومة ما هو كائن طلبا لما ينبغي أن يكون، لهو صحة وحياة. وكل ما عدا هذا علة وموت. إن حياة الله تعالى والإنسان خلق مستمر. إن الفنان الذي هو نعمة على الإنسانية يتحدى الطبيعة. وهو يتخلق بأخلاق الله، ويشعر في روحه باتصال الزمان والخلود. هو كما يقول نطشه: «يرى كل الطبيعة كاملة فسيحة فياضة، لا كمن يرى الأشياء كلها أصغر، وأهزل، وأفرغ مما هي في حقيقتها. الطبيعة كائنة وعملها تعويق سعينا إلى ما ينبغي أن يكون. وهو ما يجب على الفنان أن يجده في قرارة نفسه.» (و) هذا مذهب إقبال في الفنون عامة، وأزيد على هذا الإجمال أمثلة من تطبيق فلسفته على بعض آحاد الفنون: (1) المصور ينبغي أن ينشئ، ويبين عن نفسه ولا يقلد. وقد قلد مصورو الفرس والهند أوروبا فأبطلوا فنهم، ومات خيالهم.
قلد العرب فن عجم وهند
عم هذي البلاد موت الخيال
11
شفني الغم، أن بهزاد عصري
يسلب الشرق بهجة الآزال
12
يا خبيرا بفنه فيه تمت
صنعة العصر والعصور الخوالي!
كم ترى من خليقة وتريها
أرنا الذات فوق كل مجال
ويقول في منظومته «كتاب العبودية» في آخر ديوان زبور العجم عن التصوير والمصور:
رأيت تصويرا فاترا، لا ترى فيه إبراهيم ولا آزر «يعني لا نحت الأصنام ولا تحطيمها.»
ويذكر ضروبا من هذا التصوير إلى أن يقول: ريشة يقطر منها الموت، ليس فيها إلا خرافة الموت وسحره.
ويذكر ثقافة العصر قائلا: العلم الحاضر ساجد للآفلين، يزيد الشك ويمحو اليقين. ولا تعرف بغير يقين لذة التحقيق، ولا بغير يقين تأتي قوة التخليق. من لا يقين له مضطرب رعديد، يتعذر عليه النقش الجديد. عليل، من «الذاتية» بعيد، وهو من ذوق العامة في قيود. يستجدي الطبيعة الجمال، وله في الخيبة مجال.
لا تلتمس الحسن من غير نفسك يا مغبون، واطلب ما يجب أن يكون. إذا أسلم المصور نفسه للطبيعة، فقد أثبتها ونفى نفسه. وإن ظن الإنسان نفسه خلاء، انطفأ نور الله في ضميره انطفاء.
والكليم إذا زال عن نفسه تاه، وأظلمت يده وعثر بعصاه. لا حياة إلا بقوة الإعجاز.
وليس كل إنسان يدرك هذا السر.
ويقول:
إنما الفنان الذي يزيد على الفطرة ويفشي سره لأعيننا. حوره من حور الجنة أجمل، ومنكر لاته ومناته كافر. إنه يخلق كائنات أخرى وقلبه بحياة أخرى يزخر. يموج بحره فيلقي إلينا بدرره. وروحه جياشة فياضة بغرره، شأنها أن تملأ كل فراغ. فطرته الصافية عيار الحسن والقبح، وصنعته مرآة الحسن والقبيح. هو إبراهيم وهو آزر، تصنع يده الأصنام وتحطمها. يهدم كل بناء قديم، ويسلط مبرده على الموجودات كلها ... إلخ.
13 (2) والغناء حلال إن بعث في النفوس قوة وأملا وبهجة، وحرام إن بث فيها ضعفا ويأسا وحزنا:
في صدور الأفلاك لحن خفي
صاهر حره نجوم الوجود
قد أحلت «شريعة الذات» لحنا
لم يزل في انتظار شاد مجيد
14 •••
إن سرت في اللحون دعوة موت
حرم الناي عندنا والرباب •••
ولنغمة من دون نار نفخة
ما الحسن إلا بالجلال يحاك (3) والموسيقى كذلك. ينبغي أن تبعث في النفس قوة ووجدا، وتسمو بها إلى المعالي. فإن لم يكن لها هذا التأثير في النفس فالمغني بارد الدم، وإن لم يكن الزامر طاهر الضمير فأنفاسه في اللحن سموم.
ولا يزال إقبال يفتقد النغمات المحيية، ويلتمسها فلا يجدها في الشرق ولا الغرب:
دل على برد دم المغني
لحن له الوجوه لا تنير
15
أنفاس زامر سموم لحن
إن كان لم يطهر به ضمير
بالشرق والغرب في رياض
من الشقيق شاقني المسير
فما مررت بينها بمرج
شقت به جيوبها الزهور
16
وفي آخر ديوانه الذي سماه «زبور العجم» منظومة مثنوية طويلة سماها بندگي نامه «كتاب العبودية»، بين فيها جناية العبودية على الحياة كلها، وفضل الحرية عليها. وطبق رأيه على الفنون في فصل من المنظومة عنوانه «الفنون الجميلة عند العبيد».
فقال عن الموسيقى:
نغمة العبودية خالية من نار الحياة، وألحانها مسفة مثلها. قلب متجمد لا حرارة فيه، حرم لذة الحاضر والمستقبل. يظهر في مزماره سره والموت الطويل في لحنه. إنه يعلك ويذلك، وينفرك من الحياة ويملك.
احذر فما هذه إلا نغمات الموت، إنها الفناء في لباس الصوت.
إلى أن يقول: لا بد من نغمة ربيبة الجنون، هي حريق في شغاف القلب كمين.
إن في الألحان لمقاما تسمع فيه بغير لفظ الكلام. والنغمة المضيئة هي سراج الفطرة في كل ظلام، معناها يخلق كل صورة. وكل ناغم بغيرها جثة هامدة، ونغماته شرار نار خامدة. (4) العمارة: يتكلم عن العمارة في منظومته في آخر ديوان زبور العجم التي ذكرتها آنفا، فيقول:
اصحب الماضين حينا، وتأمل في صنعة الأحرار مليا. وانظر عمل أيبك وسوري
17
جلى الأحرار ضمائرهم، وعرضوا للأعين أنفسهم. فنظموا حجرا إلى حجر، فجمعوا الزمان في آن
إن رؤية هذه الصنعة تنضج نفسك، وترمي بك في عالم آخر. يهديك النقش إلى النقاش، فإذا سره في الصنعة فاش.
ويخاطب الشاعر نفسه:
أنا من نفسي في حجاب، لم أرد فرات الحياة العباب. كل إحكام من اليقين يبين، وأين مني إحكام اليقين. ليس في من «لا إله إلا الله» قوة فلست أهلا للسجود على هذه السدة.
ويدخل الشاعر بهذا القول إلى ذكر «تاج محل» معجزة البناء الخالدة، فيقول:
سرح في هذا الجوهر، أنظر التاج في ضوء القمر. صوروا من الماء الجاري مرمره. فجمعوا الأبد هناك في لمحة.
لقد صرح عشق الرجال بالأسرار، فثقب بأهداب العين الأحجار. تجلى عشق الرجال في صوره، فأثار نغمات من آجره وحجره. وعشق الرجال عيار الجمال، يشق أستار الحسن ثم يصونه من الابتذال. جازت السموات همته، وفاتت عالم الكيف والكم عزمته. عي البيان عما شعرا فأبدى البناء من ضميره ما سترا.
العشق تصقل العقل يداه، ويخلق من الحجر مرآه.
ويختم الفصل بقوله:
الحسن بغير قهر سحر، وهو مع القهر نبوة. وقد مزج العشق الاثنين في الأعمال، وأثار عالما من الجلال في عالم من الجمال.
الفصل الثالث
مذهب إقبال في الشعر خاصة
ذكرت آنفا مذهب إقبال في الفنون عامة؛ أن لها مقصدا في حياة الناس، وأن هذا المقصد ينبغي أن يكون تقوية النفس، وأن الفن تعبير عن نفس قوية لا تحاكي الطبيعة، ولا تقلد غيرها، ولكنها تصوغ الفن من دمها ونبضها، وتؤثر به في الحياة.
وفي هذا الفصل أخص بالبيان مذهب إقبال في الشعر، وهو فرع من رأيه في الفنون عامة. وإقبال كان شاعرا نابغة. فكان، لا جرم، أكثر عناية بالشعر، ووجب على من يبين مذهب إقبال في الفنون الجميلة أن يخص الشعر بالبيان بعد الكلام في الفنون عامة.
الشعر والحقيقة
الحقيقة إن لم تخالطها العاطفة فهي حكمة. وإن قبست من نار القلوب فهي شعر.
يقول إقبال في رسالة المشرق:
كل حق دون وجد حكمة
وهو شعر إن يصب نار القلوب
وهذا حق. كل حقائق العالم موضوع للشعر إن خالطتها العاطفة، ولونها الخيال.
ولا يتسع المجال لتفصيل القول في هذا. وحسبي أن أقول إن إقبالا يرى أن حقائق العالم كلها تدخل في الشعر إن قبست من نيران القلوب. وقد عالج الفلسفة العالية، وحقائق الحياة في دواوينه التسعة التي عددتها في الفصل الأول من هذا الباب.
الشعر جمال وجلال
ولا غنى للشعر عن أن يكون جمالا وجلالا، وأن يكون بانيا أو هادما، وأن يكون هديا إلى كمال أو ثورة على نقص.
لم أدر سر الشعر إلا نكتة
سير الشعوب تبينها تفصيلا
الشعر فيه من الحياة رسالة
أبدية لا تقبل التبديلا «إن كان من جبريل فيه نغمة
أو كان فيه صور إسرافيلا»
الشعر حياة وأمل
والصمت خير من شعر لا يبعث في النفس قوة الحياة، ونضرة الأمل، ولا يحدو الناس إلى المعالي، ويحبب إليهم الحياة العزيزة الكريمة.
كم بشعر العجم من سحر ولكن
منه سيف الذات ذو حد كليل
صمت طير الصبح أولى من غناء
إن سرى باللحن في الروض ذبول
ليس ضربا ما يشق الطود إن لم
تر منه عرش برويز يميل
1
لا يعجب الشاعر بشعر العجم على ما فيه من سحر وفن لما يرى فيه من الترف، والهمود، والإشفاق من مشقات الحياة، والتشاؤم.
يقول في ضرب كليم:
2
في غابة الشرق ناي يبتغي نفسا
يا شاعر الشرق هل في صدرك النفس؟
من كان في نفسه من رقه خور
فقل له من لحون العجم يحترس
إناؤها من زجاج كان أو خزف
اطبع بخمرك سيفا لمعه قبس
لم تبصر الشمس من دنيا يخال بها
مجد بغير الجلاد المر يلتمس
طور جديد وبرق كل آونة
لا قرب الله للعشاق ما التمسوا
هذه الأبيات عنوانها الشاعر. فهو يريد شاعر الشرق مجاهدا لا يركن إلى الترف، ويريد أن تكون معانيه لامعة قاطعة كالسيف مهما تكن ألفاظها وصورها.
ويريد أن يكون الشاعر داعيا إلى المجد، والمجد لا ينال بغير الجلاد المر، والشعر عدة هذا الجلاد.
وكذلك يريد الشاعر سائرا بآماله إلى غير نهاية، ففي هذا السير توحي إليه المعاني السرية، ويرى كل حين للوحي طورا وبرقا. وخير للشاعر ألا يظفر بمطلوبه حتى لا يقف به المسير:
طور جديد وبرق كل آونة
لا قرب الله للعشاق ما التمسوا
ولهذا أيضا يدعو إقبال شعراء المسلمين إلى أن يولوا وجوههم شطر البيداء حيث السعة والحرارة والريح العاصف، وإلى أن ينسبوا بسلمى العرب في باديتها.
وسيأتي ذكر هذا.
فإذا نفخ الشعر في النفوس الحياة، وبعث الإنسان فهو وراثة النبوة.
إن يكن في الشعر بعث الآدمي
كان في الشاعر ميراث النبي
أثر الشاعر في أمته
يبين إقبال عن آرائه في الشعر والشاعر في مواضع كثيرة من شعره، أوفاها وأبينها ما كتبه في فصل من أسرار خودي عنوانه «إصلاح الآداب الإسلامية». يبين في هذا الفصل مكانة الشاعر القوي وأثره في الأمة حياة وأملا وهداية وعملا. كما يبين أثر الشاعر الضعيف في الأمة، ترفا وخمودا ويأسا وهلاكا.
وهذه ترجمة أبيات من هذا الفصل فيها وفاء ببيان مذهب الشاعر الفيلسوف محمد إقبال في الشعر والشعراء:
جلوة الحسن ضمير الشاعر
طوره مجلى الجمال الباهر
مدت الحسن بحسن نظرته
زادت الفطرة سحرا رقيته
علم البلبل من تلحينه
ضاء خد الورد من تلوينه
مضمر في خلقه بحر وبر
ألف كون محدث فيه استتر
كم شقيق عنده لم يطلع
كم لحون، وبكى لم يسمع
فكره للبدر والنجم نجي
يخلق الحسن وفي القبح عيي
خضر، في ليله ماء الحياة
تنضر الأكوان من ماء بكاه
لطفت في سيرنا حيلته
وعلت في ركبنا نغمته
فمضى الركبان أثر الجرس
وحدا الناي بنا في الغلس
3
وسرت في روضنا نسمته
فسرت في زهرها نفحته
هذا الشاعر الحي الذي يبعث في الأمة الحياة. وشاعر آخر هو حادي الهلاك، ونذير الموت:
ويل قوم لهلاك طائره
صد عن نهج المعالي شاعره
تقبح الأشكال في مرآته
تقرح الأكباد من نفثاته
تذبل الأزهار منه قبل
ويعاف الشدو منه البلبل
يسلب السرو جميل الميل
ويرد الصقر مثل الحجل
4
هو حوت نصفه كالآدمي
كبنات البحر يقتاد الغوي
يسحر الركبان باللحن المبين
ولقاع البحر يهوي بالسفين
5
يسلب القلب ثباتا نغمه
ويرى الموت حياة كلمه
يلبس النفع ثياب الضرر
ويري الخير قبيح المنظر
سيل برق ما حوى نيسانه
آل لون وشذى بستانه
6
سادر بالحق لا يعترف
بحره ما فيه إلا الصدف
نومت ألحانه يقظنا
أطفأت أنفاسه وقدتنا
إلى أن يقول:
لاح كالناي هزيلا صائحا
شاكي الأقدار جهلا نائحا
إلخ.
ثم يقول بعد وصف الشاعر الفسل الخائر اليائس، مبينا الطريقة المثلى في الشعر:
صيرفي القول! إن تبغ النجاة
فاجعلن معياره نار الحياة
نير الفكر يقود العملا
مثل برق قبل رعد جلجلا
من بفكر صالح في الأدب!
ارجعن يا صاح شطر العرب
وسليمى العرب يا صاح اعشق
أطلعن صبح الحجاز المشرق
من رياض العجم جمعت الزهر
وبروض الهند سرحت البصر
فاشربن حر الصحاري يا صديق
اشربن من تمرها الراح العتيق
أسلمن رأسك يوما صدرها
وائلفن في حرها صرصرها
كم وطئت الورد في طول المدى
غاسلا كالورد خدا بالندى
فعلى رمل الصحارى المضرم
أقدمن يوما وغص في زمزم
صاح فيم النوح مثل البلبل؟
وإلام العيش بين الظلل؟
ابن عشا حيث لا تبني الأنوق
تلتقى فيه رعود وبروق
لترى أهلا لأعصار الحياة
وتذيب النفس في نار الحياة
وفي فاتحة أسرار خودي يصف نفسه ويقول إنه جديد غريب في هذا العالم، إلى أن يقول واصفا مذهبه في الإعراب عما في النفس في صراحة وجرأة وقدرة. وهو في الحق يصف المثل الأعلى للشاعر كما يتصوره:
أنا في يأس من الصحب القديم
مشعل طوري ليغشاه كليم
بحر صحبي قطرة لا تزخر
قطرتي كاليم فيه صرصر
من وجود غير هذا لي غناء
ولركب غير هذا لي حداء
كم تجلى شاعر بعد الحمام
يوقظ الأعين فينا وينام
وجهه من ظلمة الموت سفر
ونما من قبره مثل الزهر
7
كم بهذا السهب مرت قافله
مثل سير النوق رهوا سابله
غير أني عاشق ديني النواح
ثورة المحشر مني في الصياح
أنا لحن كل عنه الوتر
لا أبالي أن عودي يكسر
ويقول في رسالة المشرق، وهو إعراب عن مذهبه في الشعر والشاعر:
تغنى طائر سحرا طويلا
فأبدع شدوه لحنا وقيلا
أبن عما بصدرك لا تدعه
غناء أو أنينا أو عويلا
ويقول:
أنا في الروض منفرد غريب
على غصني أنوح مع الرياح
فدعني يا رقيق القلب وابعد
فإن دمي ليقطر في نواحي
هذا مذهب إقبال في الشعر، ألفته من أبيات في دواوينه وكلمات مأثورة عنه. وهي جملة وراءها تفصيل، وعنوان يتلوه إن شاء الله بيان وفير.
الفصل الرابع
شعر إقبال
معانيه وصوره وأساليبه
وصف إقبال نفسه
يقول الشاعر الملهم في فاتحة ديوان أسرار خودي:
من وجود غير هذا لي غناء
ولركب غير هذا لي حداء
1
أنا لحن كل عنه الوتر
لا أبالي أن عودي يكسر
لا تعي لجي هذي الأنهر
لا تعي موجي إلا أبحر
كم بروق نائمات في الجنان
ضاقت البيد لديها والقنان
إن تكن صحراء فاطلب لجتي
أو تكن سيناء فاقبس شعلتي
قد وهبت الورد من عين الحياة
وحبيت السر من عين الحياة
2
أشعل الذرات من لحني التهاب
فهي نور طائر يدعى الحباب
3
ما فشا ذا السر غيري في البشر
لم يثقب ناظم مثل الدرر
أقبلن إن تبغ عيش الخالدين
أقبلن إن تبغ ملك العالمين
ويكثر إقبال في شعره أنه عالم بالسر، وأنه كشفت له أسرار الحياة.
ولا ريب أنه شاعر ملهم، شعر في قرارة نفسه أنه أدرك من أسرار الحياة ما لم يدرك غيره، وأنه يبلغ هذا العالم رسالة يؤمن بها اليوم أو غدا، وأنه شاعر الغد وصوت المستقبل.
وكثيرا ما يقول: إن في نفسه معاني لا تعيها الكلمات، وفي قلبه أسرار ليس لها نجي. وقد سأل الله أن يهبه نجيا يعي عنه أو يسلب قلبه النار التي تضطرم فيه.
وفي رسالة المشرق هذه الأبيات بعنوان «الوردة الأولى»:
وردة ظهرت في الروضة قبل غيرها، فهي تنظر فلا تجد إلا نفسها، فتلتمس نجيا في صورتها التي يمثلها الماء. وتقول الوردة إن على صفحاتها رسالة خطها القلم الذي صور هذه الحياة، وإن قلبها في الماضي، وعينها إلى اليوم، وأملها في الغد. فهي صلة الأزمنة الثلاثة.
وإليك الأبيات:
لا أرى في الرياض لي من قريع
أنا أولى زهور هذا الربيع
أبتغي في الغدير صورة نفسي
لأرى وجه مؤنس لي سميع
في سطوري رسالة من يراع
خط سطر الحياة في ترصيع
أمس قلبي، وعبرة اليوم عيني
وغدي منيتي وكل بديع
وأنا النجم خلفته الثريا
نسج الطين ثوب ورد عليا
هكذا تحدث إقبال عن نفسه، فهل وفى شعر إقبال بهذه الدعوى؟ هل حقق هذا الأمل؟
لا ريب أن إقبالا أمد الإنسان عقله وقلبه ويده، بزاد من الفكر والعشق والأمل والعمل، أفاضه شعرا مختلفة طرائقه رائعة صوره في تسعة دواوين.
موضوع شعر إقبال
موضوع شعره الحياة والعالم، يبين فيهما الحقائق، ويكشف الأسرار، ويوقظ الإنسان ويدعوه إلى قدر نفسه، وتقوية ذاته، ويناديه أنك أعلى الخليقة وأن العالم كله مسخر لك. وأمامه في هذه الدعوة القرآن الكريم كما في الآية:
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .
والآية:
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه .
وآيات أخرى كثيرة.
يقول مخاطبا الإنسان:
ولك الوقت والتصرف فيه
ليس يا غر! للنجوم غناء •••
أين منك الأفلاك؟ إنك حر
وهي قهر ذهابها والإياب
والجهاد في هذا العالم لتذليل الطبيعة وتسخيرها هو قوة الذات ورقيها. والإنسان الحر أو المؤمن يسخر هذه الكائنات حتى لا تكون أمامه شيئا. والإنسان العبد، أو غير المؤمن يضل في الكائنات ويذل لها. ففرق ما بين المؤمن والكافر في رأي إقبال أن المؤمن يسخر هذا العالم ويقتحم عقباته إلى مقاصده العليا، لا يحار في الكائنات ولا يضل، ولا يعيا بتسخيرها ولا يذل.
إنما الكافر حيران
له الآفاق تيه
وأرى المؤمن كونا
تاهت الآفاق فيه
وفرق آخر أن المؤمن أو الحر خلاق مبتكر دائم الأمل والعمل. والكافر أو العبد عاجز لا يبتكر ولا يجدد.
يقول في أسرار خودي:
فكرة العبد حصول الحاصل
ليس في أفكاره من طائل
في مقام من همود راكد
نوحه ليلا وصبحا واحد
ومن الحر جديد الخلقة
كل حين وجديد النغمة
وفرق آخر أن العبد يعتل بالقضاء والقدر، ويرتبك في خيوط الزمان أو ينسج شبكة الزمان على نفسه، والحر مشير على القضاء والقدر وناسج نفسه على الزمان.
نكتة كالدر خذها رائقه
بين حر ورقيق فارقه
4
حار عبد في فيافي الزمن
حير الآفاق قلب المؤمن
ينسج العبد عليه كفنا
من صباح ومساء، مذعنا
وترى الحر على التراب اعتلى
ناسجا همته فوق الملا
قيد العبد صباح ومساء
وثوى في فمه لفظ «القضاء»
لكن الحر مشير للقدر
صورت كفاه أحداث الدهر
ويرى إقبال أن المؤمن معيار الخير والشر في الدنيا والآخرة، وأنه يبلغ من المكانة أن يسأله ربه ماذا يرضيك؟
يقول في ضرب الكليم في الأبيات التي أولها: «إن للمؤمن العظيم الشان
كل حين جديد شان وآن
لست تدري بسره فتراه
قارئا وهو صورة القرآن
فيه عزم على القضاء دليل
وهو في العالمين كالميزان
ليله والنهار لحن حياة
في انسجام كسورة الرحمن»
الإنسان في هذا العالم مدرك مفكر حر. والخلائق مسخرة مجبرة، يعلي إقبال قدر الإنسان، ويبين فداحة الأعباء التي يتحملها، ويمده من القوة والأمل والعزم بما يؤهله لحمل هذه الأعباء الجسام.
انظر إلى قصيدته التي عنوانها «وحدة» في ديوان رسالة المشرق؛ لترى الإنسان يأتي إلى البحار مسائلا، وإلى الجبال، ويرتقي إلى البدر، ثم ينتهي إلى الله، يسأل أهو وحده صاحب القلب في هذه الخليقة يحمل الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض والجبال؟
فلا يرد البحر والجبل والقمر أسئلته، ولا يجيبه الله تعالى إلا بالابتسام. ولعله ابتسام الإعجاب بهذا المخلوق الكبير.
وستأتي القصيدة في التمثيل لشعر إقبال. •••
هذه أصول فلسفة إقبال، وعمدة آرائه، فالإنسان ذاته وقوته وقدرته وحريته وجهاده، والجماعة التي تتألف من هذا الإنسان، خصائصها ومزاياها، ومسيرها وغايتها، وقوتها التي لا تحد، وعزمها الذي لا يبعد عليه أمد، كل هؤلاء موضوع شعر إقبال. صوره فأحسن تصويره، وبثه في أفكار شتى وصور مختلفة، جهد الفكر الفياض، والقلب الجياش، والشعر المتدفق، والبيان الساحر. •••
والعرب الأولون الذين انتشروا بالإسلام في أقطار الأرض يدعون إلى توحيد الله وتوحيد الأمم، لا تصد عزمهم الصعاب والأهوال، ولا تفرق همتهم بين دان وقاص، ولا يبالون الموت في سبيل الحق - هؤلاء العرب هم مثل إقبال في هذه الحياة، وتصديق فلسفته فيها.
ذكرهم في شعره تصريحا وتلميحا، ووفاهم حقهم من الإعجاب، وأبان عن نواحي العظمة في مآثرهم، وأبان عن حبه وإعجابه وإعظامه في وصف آثارهم كما في القصيدة الخالدة التي وصف فيها مسجد قرطبة.
ضروب هذا الشعر
لهذا الشعر الفياض الذي يسع السموات والأرض، ويعلو إلى ما وراءها، طرائق مختلفة في سياق الموضوع، وفي أشكال المنظومات والأوزان والقوافي. (أ)
فيه القصص: وأعظم قصصه «جاويد نامه»، التي قص فيها رحلته في الأفلاك، كما ذكرت في الفصل الأول من هذا الباب. وقصص أخرى قصيرة متفرقة في دواوينه، مثل: «مجلس شورى إبليس» في ديوان أرمغان حجاز، و«لينين في حضرة الخالق» في ديوان بال جبريل، و«خروج آدم من الجنة» في الديوان نفسه.
والقصص في شعر إقبال كالقصص في شعر جلال الدين الرومي، يتوسل به إلى تبيين مقاصد الشعر، لا يعنى فيه الشاعر بأكثر من الحوار بين من يتكلم على ألسنتهم من أناسي القصة. (ب)
ومن شعر إقبال: الشعر التعليمي، يقصد فيه إلى تعليم فلسفته ومذهبه في نظام شعري تمتزج فيه الفلسفة والشعر. وأبين هذا الشعر المنظومتان اللتان عبرتهما عبرا في الكلام على فلسفة إقبال. ومثلهما منظومات قصيرة في دواوينه الأخرى، منها وصاياه إلى ابنه جاويد، وناشئة هذا الجيل. (ج)
والوصف في شعر هذا الشاعر العظيم كثير، فيه وصف الطبيعة ووصف الأبنية، كما وصف جامع قرطبة وتاج محل. والوصف المعنوي يغلب فيه على الوصف الحسي، يشرع في وصف الصورة الحسية فتنفتح له عن معان عالية من الفلسفة والشعر يفيض فيها. لا تشغل الصور الحسية هذا الشاعر الروحي كثيرا، فإنما تثير في نفسه معاني ينطلق فيها، وإنما هي باب يجوزه إلى عالم غير محدود. (د)
وفي شعر إقبال ضروب الشعر الأخرى التي تسمى في اصطلاح الأدباء الشعر الغنائي أو الوجداني. وهي فنون شتى في معانيها، ومنها الضرب الذي كلف به شعراء الفرس ومن تبعهم وسموه غزلا. والغزل أبيات قليلة، بين سبعة واثني عشر في الغالب، ينظم فيها الشاعر خواطر يجمعها موضوع أو لا يجمعها. وهذه الفنون موصولة في معانيها بالأقسام الأخرى التي ذكرتها آنفا؛ وإن فرق بينها هذا التقسيم الصوري. ومن ذا الذي يستطيع تقسيم أمواج البحر بخطوط وحدود.
الأوزان والقوافي
وأما أوزان شعره فهي الأوزان الفارسية كلها، هي أوزان أخذها شعراء الفرس عن الأوزان العربية. وتصرفوا فيها وزادوا عليها. وليس هذا موضع الكلام في أوزان الشعر الفارسي واتصالها بالأوزان العربية وسير شعراء التركية والأردية عليها، واحتذائهم إياها.
والقوافي هي القوافي الفارسية كذلك. ويكثر فيها الردف: وهو أن تكرر كلمة في آخر كل بيت وتلغي في التقفية، ويلتزم روي قبلها. وقد قدمت أمثلة منها في بعض ما ترجمت من شعر إقبال.
وأما أنواع القوافي ففيها الرباعيات، وهي كثيرة في دواوين الشاعر.
ومنها الموشحات على النظام المعروف في الشعر العربي. والشاعر يفتن في القوافي الموشحة، ويصرف الوزن معها بالطول والقصر. وسيجد القارئ مثالا منها من بعد.
ومن شعر إقبال المثنويات، وهي منظومات على القافية المزدوجة، وعلى هذه القافية نظم دواوين الأسرار والرموز وجاويد نامه، وكذلك نظم فيها كثيرا من منظوماته في الدواوين الأخرى.
ومن منظومات إقبال ضروب أخرى على التقفية المعروفة في القصائد العربية.
هذه نظرة عاجلة في ضروب شعر إقبال من حيث السياق والوزن والقافية.
ولم أرد فيها التفصيل؛ لأني أكتب للقارئ العربي، وليس أمامه شعر الشاعر في لغته، فأطيل له البيان في ضروب الشعر موضوعه وأشكاله وأوزانه وقوافيه.
اللغة والأسلوب
وهذا موضوع لا يعني القارئ العربي كثيرا. فهو لا يقرأ شعر إقبال في لغتيه الأردية والفارسية، ولكن يقرأ ترجمة عربية لبعض دواوينه، والترجمة إن حفظت المعنى والصورة لا تحفظ اللغة والأسلوب.
وحسبي في التعريف بلغة إقبال وعبارته وأسلوبه هذه الكلمات: كتب إقبال باللغتين الأردية والفارسية. ولغته الأولى البنجابية ليست لغة علم وأدب، والمكتوب فيها قليل من أدب العامة. فاللغة الأردية هي لغته ولغة الأدباء والمتأدبين من مسلمي الهند.
ولغته وأسلوبه فيما أنشأ بالأردية، يبلغان في الأصالة والصحة والقوة ما بلغه أكبر شعراء الأردية منذ نشأ الشعر في هذه اللغة إلى أن نبغ إقبال.
والحكم في لغة الشعر وعبارته وأسلوبه يرد إلى ذوق أهل اللغة. ولا يعتد فيه برأي دارسي اللغة من غير أهلها، وإن بلغوا الغاية في علمها وفقهها ، ودربوا على أساليبها في شعرها ونثرها. وأدباء الأردية يرون أن شعر إقبال في جملته يبلغ الذروة من هذه اللغة. ويسامي شعر أعظم شعرائها، ثم يفوتهم بمعانيه التي لا تحد وفلسفته التي استولى فيها على الأمد. •••
وأما منظومات إقبال الفارسية، فقد أخذ عليها أدباء الفرس مآخذ أجملها، ثم أذكر رأيي فيها: عرفت اللغة الفارسية في الهند منذ فتح السلطان محمود الغزنوي شمالي الهند في القرن الرابع الهجري، وبلغت مكانة علية أيام المغول، فكانت لغة الدولة ولغة العلم والأدب. وقد اجتمع حول جلال الدين أكبر أحد ملوكهم زهاء خمسين شاعرا كلهم ينظم بالفارسية، منهم من نبغ في الهند ومنهم من وفد إليها من إيران.
وقد ضعف أمرها بعد اضمحلال الدولة المغولية، ولكنها بقيت حتى عصرنا يعرفها المثقفون، وينظم بها بعض الشعراء، ويكتب بها بعض الكتاب. وأعظم من نظم فيها في هذا العصر محمد إقبال.
وقد أنشأ فيها ستة من دواوينه التسعة، كما بينت قبل.
وأخذ بعض أدباء الفرس على الشاعر النابغ هذه المآخذ: (أ)
أخذ عليه أن لغته وأسلوبه ليسا مطابقين للغة الشعر الفارسي العصري وأسلوبه. (ب)
وأنه يستعمل أحيانا عبارات تخالف الفصيح المأنوس في الفارسية. (ج)
وأن له تراكيب لم تؤثر في الأدب الفارسي من قبل.
وقد أجاب المعترضين ملك الشعراء بهار - رحمه الله - أحد شعراء الفرس، ومجتبي المينوي الذي ألف كتابا عن الشاعر اسمه «إقبال اللاهوري»، وقد عدد المؤلف في هذا الكتاب ما أخذ على إقبال وأجاب عليه.
ويبدو أن لهذا الاعتراض سببين؛ الأول: أن إقبالا لم ينشأ في بيئة فارسية. فالفارسية ليست لغته، ولكن اكتسبها بالدرس، وطول النظر في دواوين شعرائها. فاستوى عنده ما استعمله شعراء الفرس القدماء وما استعمله المعاصرون منهم. فرأى بعض النقاد في بعض شعره مخالفة للغة العصر وأسلوبه.
والثاني: أن اللغة الفارسية استوطنت الهند قرونا ، ونشأ فيها أدباء ونبغ شعراء لهم بيئتهم وأحوالهم. وهي تخالف بيئة شعراء إيران وأحوالهم، فنشأت في الهند لغة أدبية تخالف مخالفة ما لغة الأدب في إيران.
فأما السبب الأول فلا حرج على إقبال أن يأخذ من كبار شعراء الفارسية في كل العصور، ويسعه ما وسع هؤلاء الشعراء، ولا يضيره ألا يكون شعره مسايرا الشعر الفارسي العصري كل المسايرة في لفظه وتركيبه وسياقه.
وأما السبب الثاني ففيه اعتراض باصطلاح بيئة على اصطلاح بيئة أخرى. وقديما قال علماؤنا: لا مشاحة في الاصطلاح.
وأما أن لشاعرنا العظيم تركيبات لم تؤثر في الأدب الفارسي، فقصاراه أنه ابتكر عبارات في الفارسية. والرجل له فلسفة مبتكرة، وآراء مبتدعة روض لها الشعر وذلله. فلا عجب أن يضع ألفاظا مفردة لمعان محدثة أو يحرفها عن معانيها قليلا، ولا غرو أن يصوغ تركيبا أو تعبيرا بدعا لمعانيه المبتدعة.
ولإقبال الفخر أنه ابتدع وجدد في المعاني والألفاظ والعبارات، ويزيده فخرا أنه نقل ألفاظا من معان إباحية مبتذلة تتصل بالخمر والسكر واللهو والخلاعة وما إليها من الألفاظ التي شاعت في الأدب الفارسي فهوت به، نقل هذه الألفاظ إلى معان روحية عالية واسعة لا تحدها حدود المادة. كما رد إلى معانيها الأولى ألفاظا تجوز فيها الشعراء، فلبسوا على الناس مذاهبهم كالكفر والدين والدير والحرم والكعبة.
وفضل إقبال الأعظم وفخره الأكبر أنه أودع اللغة الفارسية هذه الثروة من الفلسفة العالية، والآراء السديدة، وذللها للشعر، ويسرها للمتأدبين. وما أعظم حظ اللغة التي يختارها إقبال لشعره. فهل يؤخذ على مثل هذا الفيلسوف الشاعر أنه خرج بألفاظ عن معانيها، أو استعمل عبارات غير مألوفة في لغة العصر، أو اخترع تركيبات غير مأنوسة في الأدب الفارسي. وهل عمل النابغين إلا الخلق والاختراع والتجديد والتصحيح في الأفكار العامة ثم في المعاني الجزئية والألفاظ والأساليب؟!
إن من يعيبون الشاعر العظيم بهذا يغضون عن جناته وعيونه، ويصدفون عن أزهاره ورياحينه، ولا يبصرون إلا شوكة في غصن ورد أو ورقة ذابلة في شجرة ناضرة، كالذي نظر في ترجمة رسالة المشرق وضرب الكليم إلى العربية فعبس وبسر، وأعرض عن النظم الرائق، والسبك الرائع، وذهب يلتمس رباعية جعلتها مثالا للقافية المردوفة في اللغة الفارسية، وأنا أعلم أنها غير مألوفة في العربية، وقال هذه لا تمثل نفس إقبال، وكأني لم أترجم من شعر الشاعر إلا هذه الرباعية. وما للإنسان حيلة فيمن يرون كلف البدر ولا يبصرون نوره، والذين يعيبون الجواد المطهم الأشهب بشعرات سود في ذيله ولا يعجبون بشيء من محاسنه. وليت شعري متى يقرأ المتأدبون بآداب الإسلام قول القرآن الكريم:
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين .
لقد صدق إقبال حين قال في رسالة المشرق:
رددت العجم فتيانا بلحني
وراج متاعهم من بعد خسر
وكانوا هائمين بكل واد
وقافلة نظمتهم بشعري •••
بروح العجم من نفسي شرار
قرعت لهم بأجراس فساروا
وعاليت الحداء لهم كعرفي
تباطأ محمل ونأت ديار
5
على أن إقبالا يقول في مقدمة أسرار خودي:
ما قصدت الشعر من هذا الكلم
نحت أصنام وتعظيم الصنم
أنا هندي شآني الفارسي
وهلال أنا ذو جام خلي
يقول إنه لم يقصد في هذا الديوان إلى الشعر صوره وأخيلته ومبالغاته، وإنه لم يحكم الفارسية ولا يزال هلالا كأسه خالية من الشراب.
وهذا تواضع إقبال، وللأدب رأيه في الاعتراف بتبريزه فيما نظم من شعر أردي وفارسي.
الفصل الخامس
أمثلة من شعر محمد إقبال
أقتصر في التمثيل على ما ترجمت نظما من دواوينه. والذي ترجمت أربعة دواوين: رسالة المشرق، وضرب الكليم، والأسرار، والرموز.
ولا جرم أنه تمثيل ناقص لا يستوعب دواوين الشاعر، ولكنه يفي بتعريف القارئ أفكار الشاعر ومذهبه في الشعر. وكان يسيرا علي أن أعرض أمثلة منثورة من الدواوين التي لم أترجمها أو أنظم أبياتا قليلة منها للتمثيل، ولكن الوقت لم يتسع. ورأيت في الدواوين الأربعة غنية، إلى أن تترجم الدواوين الأخرى؛ على أني نقلت في الكلام على فلسفته وفي الكلام على مذهبه في الفنون، فقرات منثورة من الدواوين الأخرى. •••
يقول في شقائق الطور، وهي الرباعيات من ديوان رسالة المشرق:
له نقش يجدد كل حين
فلا تبقى الحياة على غرار
فإن صورت يومك مثل أمس
فما يحوي ترابك من شرار
وفي الرباعية لمحة إلى مذهبه في التجديد المستمر، والجهاد الدائب في هذه الحياة.
ومن قوله في غشيان الأهوال، وركوب الأخطار:
دع الشطآن لا تركن إليها
ضعيف عندها جرس الحياة
عليك البحر، صارع فيه موجا
حياة الخلد في نصب تواتي
ومن قوله في حرية الإنسان:
بسلسلة القضاء ربطت رجلا
وفي سعة العوالم ضقت حالا
فقم، إن كنت في ريب، وأقدم
تجد للرجل في الدنيا مجالا
ويقول في الاستقلال في الفكر والابتكار في العمل:
طريقك فانحتنها في كفاح
طريق سواك مسلكها عذاب
فإن أبدعت في عمل فري
وإن يك مأثما، فلك الثواب •••
تخذت لخلوتي طيني ومائي
وبوعد بين أفلاط وبيني
فلم أستجد يوما عين غيري
ولم أر عالمي إلا بعيني
ويقول عن نفسه ويعني كل شاعر ينفث في شعره نار الحياة ونورها:
أنا في الروض منفرد غريب
على غصني أنوح مع الرياح
فدعني يا رقيق القلب وابعد
فإن دمي ليرشح في نواحي •••
فأبلغ شاعر الألوان عني:
لهيبك كالشقائق لا يضير
1
فنفسك لا تذيب بحر نار
ولا ليلا لمحزون تنير
ويقول في ولوع الشاعر بالجمال، وإعرابه عن مكنوناته:
أنا في المرج حديث الطيور
ومقول كل برعوم صغير
فأسلم للصبا تربى بموتي
فمالي غير طوف بالزهور
ويقول في تطور العالم وتكمله، وإنه لا يزال يهيأ للكمال:
لنا كون لأزميل ونحت
يقلبه صباحك والمساء
مثال من تراب لم يكمل
يسويه بمبرده القضاء
ويقول فيما أثار بروح الشرق من الوجد والعزم في شعره:
نفثت النار من روحي نفثت
بصدر الشرق قلبا قد بعثت
وصير طينه لهبا نواحي
كبرق في سجاياه انبعثت
ويقول في نزوع الخليقة إلى الحياة، وفي لذة القلق والاحتراق فيها. والشاعر يكبر الحياة ويعلي شأنها ويدعو إلى قوتها ودوامها:
تقول فراشة من قبل خلق:
أنلني لمحة قلق الحياة
رمادي فاذره صبحا ولكن
أذقني ليلة حرق الحياة
ويقول في الهم الذي يعتلج في قلبه من أجل المسلمين، وتأثيره فيهم:
قلوب المسلمين قبسن ناري
ودمعي من عيونهم هتون
بروحي محشر قد غاب عنهم
فلم تر ما رأيت، لهم عيون
وانظر وصفه الربيع في رسالة المشرق:
هلم فإن سحاب الربيع
يخيم فوق الربى والوهاد
وشدو العنادل في كل واد
وسرب القطا سادر في تهادي
على حافة النهر جذلى شوادي
شقيق وورد ضحوك ينادي
فطرفك سرح بهذا المراد
هلم فإن سحاب الربيع
يخيم فوق الربى والوهاد
هلم فملء الربى والسهول
قوافل أزهارها والورود
نسيم الربيع على كل عود
وللطير إبداعها في النشيد
ومزقت الجبب حمر الخدود
2
جنى الحسن ناضر زهر نضيد
وللعشق إبداع غم جديد
هلم فملء الربى والسهول
قوافل أزهارها والورود •••
دع الدور واطلب فسيح البراري
وانظر إلى صفحات الجمال
على حافة الماء دون ملال
تأمل ترقرق ماء زلال
وحدق إلى نرجس ذي دلال
بنيات نيسان ذات اختيال
وقبل لها أعينا كاللآلي
دع الدور واطلب فسيح البراري
ي وانظر إلى صفحات الجمال
ويختم الموشح بهذه الأبيات:
ثرى المرج صرح في هيجه
بما أضمرت مهجة الكائنات
فناء الصفات وكون الصفات
وما أبدت الذات من جلوات
وما خلته من معاني الحياة
وما خلته من معاني الممات
فليس له ها هنا من ثبات
ثرى المرج صرح في هيجه
بما أضمرت مهجة الكائنات
وهكذا ينتقل من الوصف الحسي إلى المعاني التي نظر إليها من وراء هذه المحسات.
واقرأ هذه الأبيات التي تصور مذهبه في الحياة: الفلسفة بغير قلب والفكر بغير عمل موت، وينبوع الحياة الجد الكفاح.
وعنوان الأبيات:
الأرضة
سمعت بمكتبتي ليلة
يناجي الفراشة سوس الكتاب
يقول مررت بكتب ابن سينا
ونقبت في كتب الفاريابي
ولم أدر حكمة هذي الحياة
وما زلت من ظلمتي في حجاب •••
تجيب الفراشة في حرقة
أرى نكتة لا ترى في كتاب
رأيت الكفاح يعد الحياه
رأيت الكفاح يمد الحياه
والبراعة في شعر إقبال صورة الحياة القوية، فهي تطير بجناحيها.
وتضيء لنفسها لا تستجدي غيرها نورا، كما يقول على لسانها:
ولا أعشو إلى نيران غيري
كما يهفو الفراش إلى الحريق
إذا حلك الظلام كعين ظبي
أنرت بنار أضلاعي طريقي
وهذه أبيات من منظومة في رسالة المشرق عنوانها:
اليراعة
وذرة حقيرة
قد جمعت قواها
كأنها فراشة
من حرق تصلاها
قد نورت دجاها
فهي أياة خلفت
وانعقدت شرارا
3
من حرقة في قلبها
تحولت نضارا
وبصرا نظارا
فراشة في قلق
تطير كل ناحيه
على اللهيب رفرفت
حتى كأنه هيه «أنا» و«أنت» قاليه
4
يا مشعلا للطير في
معتكر الظلام
ما حرقة أحسستها
فأنت في هيام؟
حرارة الأقدام
فالجد والإقدام طارا بالذرة
وحولاها نارا ونورا
ولا أجد بدا من إثبات أبيات في العشق لها مشابه في شعره. والعشق في فلسفة إقبال هو الحياة بل نار الحياة. يذكره في مقابل العقل والعلم. وهما بدونه عجز وحيرة وجبن:
فكري قد أجد كل سير
وطاف حول حرم ودير
عدوت للطلاب في البراري
مرتديا بالنقع كالإعصار
بغير خضر أبتغي المنازل
5
يحمل رحلي للخيال كاهل
تطلب راحا كأسي الحطيم
كالصبح من شباكه النسيم
6
منطويا كالموج في البحار
حيران كالإعصار في الصحاري
هذه الأبيات تصور كد العقل وسعيه في طلب الحقيقية دون جدوى. وفي الأبيات الآتية يصور فيض العشق في نفس هذا الطالب، وفتحه له مغالق الحياة.
في الأبيات الآتية من القصيدة يقول إن العشق فاض بقلبه فأيقظ وجدانه، ويسر له كل عسير، وحل له كل عقدة، ورفعه إلى عليا الدرجات.
عشقك فاض بغتة بقلبي
وحل كل عقدة في لبي
عرفني الوجود والفناء
فصار ديري حرما وضاء
على حصيدي مر كالبروق
عرفني لذاذة الحريق
7
صعقت منه وسلبت حسي
فصلت من نفسي مثل العكس
8
رفعت للعرش المعلى تربي
بالسر قد أفشيته لقلبي
وبلغت سفينتي مرساها
وفاض قبحي رونقا وتاها
عندي حديث العشق لا سواه
لا أقبل الملام في بلواه
غنيت عن ومض العلوم، حسبي
دمعي ووجدي وخفوق قلبي
وهذه قصيدة الوحدة التي يصور فيها الشاعر انفراد الإنسان في العالم بالعقل والوجدان، واحتماله الآلام، وأنه لا يجد نجيا بين هذه الخلائق، كما في القرآن الكريم:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا .
قد قلت للبحر يوما
في موجه المتعالي:
أراك دائب سعي
فما تكن ببال؟
كم قد حويت بصدر
من لامعات اللآلي
أفيك مثلي صدر
بجوهر القلب حالي
فصد عني بجزر
ولم يرد سؤالي
وقلت للطود يوما
يا خاليا من عناء!
أنال سمعك صوت
من زفرة وبكاء؟
إن كنت تحوي عقيقا
فيه عروق دماء
فواسني بحديث
إني حليف شقاء
فصد عني بصمت
ولم يرد سؤالي
جددت في السير حتى
أتيت بدر السماء
فقلت: يا نضو سير
حتام ذرع الفضاء؟
الأرض مرج زهور
من نورك اللألاء
أخلف نورك قلب
في حرقة وعناء؟
رأى الكواكب ترنو
فلم يرد سؤالي
وقلت لله ربي
من بعد طوف البريه
أما بدنياك هذي
من ذرة بي حفيه؟
أكل طيني قلب
وذي البرايا خليه؟
طابت مروج، ولكن
ليست بشدوي حريه
أجابني بابتسام
ولم يرد سؤالي
هذه حال الإنسان في العالم، لا يجد شريكا له بين الخلائق يناجيه ويواسيه. والله تعالي حجب عنه الأسرار، ووكله بالكشف عنها.
وقصيدة الحور والشاعر التي يعارض بها الشاعر الألماني جوته، تصور مذهب إقبال في الأمل الدائم، والجد الدائب، والسير المستمر في هذه الحياة.
الحور :
لا الخمر يوما تطيبك
ولا إلينا أنت ناظر
عجب لنا من شاعر
بهوى الأحبة غير شاعر
من حر أنفاس الرجا
ء وحرقة الطلب المثابر
نفس تذيب بلوعة
وتغزل يشجو المزاهر
وخلقت بالألحان دن
ياك العجيبة خلق شاعر
تبدو بها إرم كما
يبدو لعين سحر ساحر
الشاعر :
ماذا أقول وفطرتي
لا ترتضي دعة المنازل
قلبي على قلق كما
تهفو الصبا حول الخمائل
فإذا نظرت إلى جمي
ل فاتن حلو الشمائل
خفق الفؤاد إلى الذي
يعلوه حسنا في المحافل
فمن الشرار إلى النجو
م إلى الشموس رقي آمل
إني ليهلكني القرا
ر فما أعوج على المراحل
وإذا شربت من الربي
ع الكاس تسري في المفاصل
أشدو بشعر محدث
وربيعي الآتي أغازل
طلبي النهاية في مدى
لا ينتهي فيه المسائل
لا صابر نظري ولا
قلبي عن الآمال غافل
هذه المعاني صورها الشاعر مئات الصور في دواوينه. وقدمت في تلخيص أسرار خودي في باب الفلسفة من هذا الكتاب أبياتا وافية في هذا الشأن.
وهذا مثال من قصائد في رسالة المشرق تسمى الخمر الباقية، وهي من الضرب الذي يسمى غزلا في اصطلاح الشعر الفارسي، ويغلب فيها التصوف، وغموض المعنى، ولا يلزم فيها وحدة الموضوع:
عقلنا ينحت ربا كل حين
فهو من قيد إلى قيد رهين
ارفع الستر جهارا لا تبل
ليس في حيك غيري ذو حنين
أنا من عيني غيور ناسج
نظراتي لك سترا في العيون
بسمة خلس ودمع ورنا
ليس في الحب سواها من يمين
حبذا العشق ففي يوم النوى
زاد باللوعة عهدا لا يمين
9
أيها الطائر من قلبي اقبسن
لتزيد النار في هذا الأنين
سادن الكعبة لا تأذن له
فلإقبال إله كل حين
وهذه أخرى من الخمر الباقية:
في ذلك الحفل سؤالي
عن محرم بي حقيق
لذاك أزجي غنائي
وفيه لحن الصديق
10
يبث قلبي حديثا
بمقلتي وبموقي
في خلوة كل لفظ
فيها كستر صفيق
مطهر نظراتي
بدمع عين طليق
من أجل نظرة وجد
لوجهك المرموق
كالكم كل أموري
لعقدة ولضيق
11
لكن إلى ضوء شمس
أنمو بقلب مشوق
إلى أن يقول:
لا أستريح بعش
من لذة التحليق
طورا بشاطئ نهر
طورا بروض شقيق
واختتم التمثيل في هذا الضرب - قصائد الخمر الباقية - بهذه:
عندليب الربيع جن غناء
وعروس الشقيق تزهى بهاء
لا مغن ولا مزاهر فيه
ذاك لحن من عالم الغيب جاء
محرم الستر من يسدد ضربا
في وتار الحياة أيان شاء
12
لا تعنف وخذ سبيل وداد
قدر الله في الحياة لقاء
أين في دارة التراب مقام؟
كل شيء كالرمل يمضي هباء
زهرة من رياض كشمير جسمي
وبأرض الحجاز قلبي أضاء
وأغاني واللحون نمتها
أرض شيراز حب ذاك انتماء
13
وفي ديوان رسالة المشرق قسم سماه الشاعر نقش الفرنج، ذكر فيها جماعة من فلاسفة أوروبا وشعرائهم.
وهذه أبيات من هذا القسم عنوانها «شوبنهاور ونطشه»، الأول الفيلسوف الألماني المتشائم الساخط، والثاني فيلسوف القوة والإقدام.
شوبنهاور ونطشه
طار من عشه يسير بروض
فأصابته شوكة من زهور
لعن الروض والزمان ونادى
بثبور لنفسه والطيور
ورأى وسمة الشقائق جورا
وطلسم البرعوم خدع غرور
14
قال: دار على اعوجاج أقيمت
كل صبح فيها إلى ديجور
ناح حتى تقاطرت نغمات
من دماء بدمع عين غزير •••
وشجا الهدهد النواح فوافى
ينزع الشوك من جناح الكسير
قال: أخرج من كل خسرك ربحا
مزق الورد صدره للعبير
15
واجعل الجرح بلسما فسترضى
وائلف الشوك تغد كلك روضا
هذه أمثلة من رسالة المشرق يرى فيها القارئ افتنان إقبال في شعره عامة، وفي تصوير مذهبه خاصة.
وأردف هذه بأمثلة من ديوان ضرب الكليم. وهو كما بينت في مقدمته وفي الفصل الأول من هذا الباب؛ أقرب إلى الفلسفة منه إلى الشعر، وآراء إقبال فيه مقسمة على أبواب في موضوعات شتى، كأنه كتاب.
تكلم الشاعر عن الإسلام والمسلمين، والتربية والتعليم والفنون الجميلة والسياسة، ووصل كل هؤلاء بمذهبه في الذات وتقويتها وصلا ظاهرا أو خفيا. وقدمت نماذج من شعر هذا الديوان في الفصل: «مذهب إقبال في الفنون الجميلة»، والفصل: «مذهب إقبال في الشعر خاصة». فحسبي هنا أمثلة قليلة في موضوعات أخرى.
أبيات عنوانها: رجال الله
إنما الحر من يجيد ضرابا
لا الذي حربه تدور هراء
وسجايا الأحرار تجمع تاجا
ذا سناء وخرقة وقباء
16
من خفايا ترابهم أخذ الده
ر شرارا فصاغ منه ذكاء
فطرة حرة تعاف الدنايا
من طواف الأصنام عاشت براء
أنت في الكفر والتدين جمعا
وثني تقدس الأهواء
وهذه صفة المؤمن من صفات كثيرة وصفه بها الشاعر الكبير:
في الدنيا
مع الصحب لين كمس الحرير
بعيد من المحك المؤمن
17
شديد إذا ما طغى باطل
وكالليث في المعرك المؤمن
من الطين لكن على الأرض يسمو
ويأبى على الفلك المؤمن
وما همه صيد طير ولكن
يصيد من الملك المؤمن
في الجنة
تقول الملائك في غبطة:
حبيب إلى قلبنا المؤمن
وللحور شكوى إلى ربها:
سريع إلى هجرنا المؤمن
18
وانظر هذه المحاورة بين الخالق تعالى وإبليس في أبيات عنوانها: القدر. والفكرة مأخوذة من ابن عربي.
إبليس :
يا إلاها أمره كن
ليس عنه من محيد
لم يصب آدم مني
بعدو أو حسود
ويح غر من زمان
ومكان في حدود
19
كيف أستكبر عن أم
رك أو كيف أحيد؟
كان في علمك أني
لست أرضى بالسجود
الخالق :
هل عرفت السر هذا
قبل أو بعد الجحود؟
إبليس :
بعد يا من في تجلي
ه كمالات الوجود
الخالق (ناظرا إلى الملائكة) :
خسة الفطرة فيه
لقنته الزور عذرا
قال: ما شئت سجودي
أنا لا أملك أمرا
ذلك الظالم سمى
اختيارا فيه جبرا
إنه سمى رمادا
شعلة فيه وجمرا
ولب المحاورة أن إبليس لم يعرف أن إباء السجود مقدر عليه إلا بعد أن أبى. فالتقدير كان بعد إرادته. وإقبال من دعاة حرية الإرادة، يقول إن الإنسان يبلغ من الحرية والمكانة عند الله أن يكون عزمه مشيرا على القدر. •••
وهذا خطاب إلى أمراء العرب:
هل يسعد الكافر الهندي
20
منطقه
مسائلا أمراء العرب في أدب
من أمة قبل كل الناس قد أخذت
بحكمة فأعانتها على النوب
إخاء كل تقي دون تفرقة
وهجر كل غوي من أبي لهب
ما من حدود وأرض كان منشؤها
من أحمد العرب كانت أمة العرب
ينعى على أمراء العرب التفرق والتفريق بين الناس، ويقول إنهم أول أمة جاوزت حدود النسب والوطن، وآخت في الناس كل مهتد يتبع الرسول، وهجرت كل غوي يتبع أبا لهب.
وهذه قطعة يسمو فيها إقبال على الأقوام والأوطان، بل على الدنيا والآخرة. وينفث فيها قوة الحياة ونارها:
إلى عصبات العرب ما أنا منتم
ولا أنا هندي ولا أنا أعجمي
فقد حلقت بي «الذات» تحليق نافر
يمر على الدارين غير محوم
بعينك أني كافر غير مسلم
وأنت بعيني كافر غير مسلم
فدينك تعداد لأنفاس محجم
وديني إحراق لأنفاس مقدم
21
تبدلت، فالتبديل في الشرع تبتغي
فليس يطيق الظبي شرعة ضيغم
22
ولست أرى في بيدك اليوم جنة
تشب بهذا العقل نار التقدم
23
إذا حاد عن نار الحياة منغم
فموت شحوب لحن هذا المنغم
وإقبال يكرم المرأة كل إكرام، ولكن لا يرى أن من كرامتها ما يسمى حرية في هذا الزمان. ويقول فيما يقول: لا بد من خلوة المرأة إلى نفسها في بيتها.
وهذه أبيات من قسم المرأة من ديوان ضرب الكليم عنوانها:
الخلوة
فضح العصر جنة بالسفور
نور عين، وظلمة في الصدور
إن تجز متعة العيون مداها
كان منها الشتات في التفكير
قطرة الماء لا تحول درا
دون أصدافها بقاع البحور
وأبيات أخرى عنوانها:
حصانة المرأة
في الصدر سر ليس يدركه
من حاز برد دمائه عصب
حفظ الأنوثة في يدي رجل
لا العلم يحفظها ولا الحجب
إن غاب هذا الحق عن أمم
فكسوف شمس نهارهم كثب
وأختم التمثيل بقطعة في باب السياسة من ضرب الكليم عنوانها:
إلى أهل مصر
من أبي الهول أتتني نكتة
وأبو الهول طوى السر القديم
24
كم شعوب بدلت سيرتها
قوة لم يجفها العقل الحكيم
طبعها في كل عصر ماثل
تبدل الشكل وتبقى في الصميم
فهي طورا في حسام المصطفى
وهي طورا في عصا موسى الكليم
خاتمة
هذا ما وسعه الوقت، وأذنت به الشواغل من سيرة إقبال وفلسفته وشعره، أقدمه لقراء العربية مقدمة لما عسى أن يتلوه من نظر أوسع وأعمق في فلسفة هذا الشاعر الذي حمل إلى الناس كافة، وإلى المسلمين خاصة، رسالة الحياة والأمل والقوة الروحية في هذا العصر.
وقد بلغ القلم هذه الخاتمة في مدينة كراجي والساعة خمس وربع
1
من ليلة الجمعة الرابع والعشرين
2
من رمضان سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، الموافق الثامن والعشرين من شهر نيسان سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف من الميلاد.
والله حسبي وكفى. وهو المسئول أن يهدينا إلى الحق، ويرزقنا الإخلاص في كل قول وفعل.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
Unknown page