Muhammad ibn Abd al-Wahhab: Advocate of Monotheism and Modern Renewal
محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث
Publisher
إدارة الثقافة والنشر
Publisher Location
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
Genres
مقدمة
...
تقديم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
حظيت دعوة الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية الإصلاحية باهتمام واسع من علماء العرب والمسلمين منذ قيامه بها، فتناولها المؤرخون والمفكرون، والباحثون، والكتاب، وما تزال دور النشر تدفع بنتاجها عن هذه الدعوة. وعلى الرغم من ذلك ستظل جوانب مهمة تحتاج إلى مزيد من البحث المتعمق، والتحليل الدقيق.
وكثير مما كتب عنها تعوزه الدقة، وينقصه التحقيق والتجرد، ولعل مرد ذلك إلى أمور في مقدمتها:
١- أنها بدأت في فترة بلغ فيها الانحطاط الفكري مبلغه في الأمة، واختطلت فيه السنن والبدع، وأشبعت النفوس بحب التقليد وتحكم فيها الجمود مع غياب السلطة الشرعية التي تسند الحق، وتدافع عنه. فجاءت هذه الدعوة لتقويض هذه الطرائق، وتصحيح العقائد وردها إلى مصدرها الأصيل: الكتاب والسنة، فأحدث ذلك نفرة لدى بعض أئمة هذه الطوائف، وتأثر بهم
1 / 3
أتباعهم ومقلدوهم وصرفوا الناس عن تقبلها، بل تصدوا لمواجهتها، وتشويه حقيقتها، وتلفيق الدعاوي، والأكاذيب عليها، واستغلوا النفور السياسي في العالم الإسلامي حينذاك لترويج هذه الافتراءات، فتكون نتيجة لذلك رواسب ستزول آثارها إن شاء الله بعد أن تجلت الأمور، وانفتحت العقول، وتخلص المسلمون من قيود الاستعمار الفكري والتضليل الطائفي المنحرف.
٢- لم يكتب للدولة السعودية الأولى التي عضدت الدعوة ونشرتها بالقوة وحمت حماها على يد مؤسسها الأول الإمام محمد بن سعود ﵀ لم يكتب لها التوسع السياسي خارج الجزيرة بحيث تجد الدعوة السلفية الإصلاحية مناخا صالحا لترسخ في نفوس الناس وتحفف من التأثر بالفلسفات والمذاهب السائدة حينذاك.
٢- جاءت الحملات المسلحة التي وجهت ضد الدولة السعودية فأضعفت السلطة المحلية التي تحميها، فانحسر المد الصحيح لهذه الدعوة، وشتت العلماء، فوجد أعداؤها من الخرافيين والقبوريين وغيرهم ما شجعهم على مواصلة محاربتها بكل الوسائل المتاحة لهم.
وكتاب (محمد بن عبد الوهاب: داعية التوحيد والتجديد) للأستاذ محمد بهجة الأثري نمط جديد من الكتابة عن الإمام
1 / 4
محمد بن عبد الوهاب ودعوته، حيث لم يقم على السرد التاريخي المعتاد بل تعمق في حقيقة الدعوة، وأصولها، ومناهجها، وطرائق نشرها. والأستاذ عرف بنهجه السلفي، وبفكره الصافي واعتداله في آرائه، وأحكامه. وكتابه إضافة جميلة إلى ما سجل عن هذه الدعوة في الماضي والحاضر قد لا نجد مثلها في المنهج والأسلوب والعرض.
ومن الوفاء لصاحب الدعوة، ولمن ساندها، وأيدها، وقام على نشرها أن تصدر الجامعة - ضمن سلسلة الكتب الدورية - هذا المؤلف القيم، وتعترف للأستاذ محمد بهجة الأثري بفضل الإسهام في ذلك حيث جاء مادة علمية متقنة في شكلها ومضمونها ونقدمه للعلماء والباحثين والقراء إشادة بالفضل لأهله وتنويها بما أحدثته هذه الدعوة في العالم من آثار حسنة نبهت الأمة ودلتها إلى الصراط المستقيم وأيقظت حسها إلى أن تعود لمصدر عزها ومجدها: الإسلام الصافي، والالتزام الثابت على الصراط، والمحجة البيضاء.. والله حسبنا ونعم الوكيل..وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
د. عبد الله بن عبد المحسن التركي
مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، بيده ناصيتي، وله الأمر كله ... والصلاة والسلام على خير خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه.
أما بعد،
فقد دعتني رئاسة جامعة الإمام محمد ن سعود الإسلامية) لأشارك في هذا الأسبوع المحمودة مقاصده، مشكورة على حسن الظن، فتذكرت نبأ أمير مشرقي كان مولعا بالكتب، سمع بكتاب ألفه أديب في الأندلس، استحسنه الأدباء وقرظوه، فتاقت نفسه إليه، فلما حصل في يده لم يجد فيه ما لا يعرفه، فأطبق عليه دفتيه، وقال: "هذه بضاعتنا ردت إلينا"!.
فقلت في نفسي: ليت شعري، ما الذي حدا بالقوم أن يدعوني إلى أمر، هم أهله، ومنهم يقتبس الحديث عنه؟ فما عسى أن أحمل إليهم من شيء يعلمون من ظاهره وخافيه ومن موارده ومصادره ما لا أعلمه؟ أآخذا بضاعتهم وأردها إليهم،؟ أأخلفت نخيل (هجر)، فأحمل إليها تمرا من (العراق)؟
1 / 7
وهتف بي هاتف من النفس، يقول: أن لا، ليس الرأي ما تراه، فإن القوم كما تعرفهم أذكى من أن يذهب ذلك عنهم، وليس بنخيل (هجر) إخلاف.
إنهم إنما دعوك، لتسمع منهم فتتعلم، فقلت له: إن هذا لهو حق اليقين، وإنه لجميل، فقال: وإذا نطقت لتسمعهم ما عندك، فَجُرْتَ أو أخطأتَ، سدّدوك. فقلت: وإن هذا والله لأجمل.
فعزمت ولبيت ولساني يخاطب نفسي بما قال أبو العلاء:
خذي رأيي، وحسبك ذاك مني
...
على ما فيّ من عوج وأمتٍ
وماذا يبتغي الجلساء مني؟
...
أرادوا منطقي، وأردت صمتي!
وإن رجيتي، إذ أنطق بالذي دعيت له، أن لا أجامل فيغضَى على أمتٍ كان الصمت يستره.
محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث ... محمد بن عبد الوهاب. عنوان الأسماء العالية في التاريخ العربي الإسلامي الحديث، كالشمس يذكر غير ملقب، لأنه يسمو على التلقيب بالألقاب، والتحلية بالنعوت.
محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث ... محمد بن عبد الوهاب. عنوان الأسماء العالية في التاريخ العربي الإسلامي الحديث، كالشمس يذكر غير ملقب، لأنه يسمو على التلقيب بالألقاب، والتحلية بالنعوت.
1 / 8
إنه لا يعرف بها، ولكن هي تعرف به.
وإن حلية مثله لفي عطله.
والجواهر تذكر أسماء مجردة، ولا توصف؛ لأن معانيها هي أوصافها.
ويقال "الشمس" و"القمر" ولا يحليان، لأن حليتهما في كمالهما وتمامهما.
ما كلام الأنام في الشمس، إلا ... أنها الشمس ليس فيها كلام!
وقديما أنكرت طباع العرب أن يعرف المشهور في الأَملاء، فقال قائلهم:
"قد عرفناه وهل يخفى القمر"؟
وإن من الأسماء نكرات، مغرقة في التنكير، حليت بالألقاب، ورصّت لها ألفاظ التفخيم والتعظيم رصا سطورا بعد سطور، لتُعَرَّف فتُعرف فما زادتها إلا تنكيرا وضمورا وخفاء، ومات أصحابها وما ذكروا.
وقد يموت أناس لا تحسّهم ... كأنهم من هوان الخطب ما وجدوا
لقد نزعت الأصالة العربية إلى التجريد، وتعلقت بالجواهر والمعاني، فسمّت عظماءها أيام العزة بأسمائهم المجردة، ولم تغرقهم بالألقاب.
1 / 9
ولما استحالت بعض الطباع، أيام تغلب البغاة الطغاة على ديار العرب والإسلام، استحلى المستدرجون المستكينون ما حلاّهم به المسيطرون من الألقاب البراقة، واستعذبوا ما أذاقوهم من
حلاوات الرتب المعلية المدنية.
وفي سمات أيام العزة جمال وجلال فطريان، عليهما من الصدق والصفاء رونق ورواء، وبالمعاني تشاد المعالي ويرفع البنيان..
فلا عليّ أن أسمي "محمد بن عبد الوهاب" ولا ألقبه.
إنه معنى كريم.. استقر في الضمائر، وليس جسدا تطوف حوله الأجساد. في حروف اسمه القلائل الصغار، خصال عبقرية كبار..ائتلفت فأنشأت مزاجا فردا، عجيبا في أخذه وعطائه.
ذهنية عبقرية، في تكوين سوي، من طراز خارق للمألوف قياسا إلى العادة والزمان والمكان، وفي حاقِّ الجبلة والتكوين.
وقوة نفسية وثقى، متوثبة ومتحدة.. تفرض الهزيمة على القوى المضادة فرضا، وتثبت ثبات طمّاح الذوائب الأشم بوجه الأعاصير، تتناوح من عن يمينه وشماله، ومن أمامه ومن خلفه، تريد زحزحته، فترتدّ عنه وتبيد، وهو (هو) غير مضارّ.
1 / 10
وقيم خلقية صافية صفاء ألق الضياء في يوم الصحو البهيج، ليس دونه حجاب.. ترفعت على شهوات النفس، وتحلت بالإيثار، يصرّفها عقل درّاك وقلب يقظ، وترفدها الركانة والزكانة، والتصور الشمولي الذي يخرج من دائرة الفكر المحدود ليبسط أبعاده على الآفاق.
وقد يكون الإنسان صاحب ذهنية عبقرية، ولكنه لا يملك القوة النفسية المتوثبة المتحدية. فيكون منه صاحب تصورات فكرية، وليس صاحب قوة فاعلة، وقد يغني في مجال الفكر، ولا يغني في مجال الفعل.
وقد يكون صاحب قوة نفسية، ولكنه لا يملك الذهنية العبقرية التي تصرف القوة على مسار السداد والتوفيق، فتتعطل قوته، فلا يأتي بأمر ذي بال.
وقد يكون صاحب ذهنية عبقرية وقوة نفسية متوثبة، ولكنه يفتقد القيم الخلقية الرفيعة، فلا تجديه خاصيّتاه، أو يفتقد العقل الشمولي، فيحبس جهده على أفق خاص يدور في دائرته الضيقة، محدودا بحدودها، لا يخرج منها إلى ما وراءها من آفاق وأبعاد.. فلا يكون منه أمر كبير.
ولقد جمع الله في (محمد بن عبد الوهاب) هذه الخصال جمعاء، متمازجة متحابة، ومترادفة، ليجيء منه الإنسان العظيم، الذي يصنع الصنع العظيم.
1 / 11
وهنا يجيء السؤال الكبير:
ما الصنع العظيم الذي صنعه (محمد بن عبد الوهاب)؟
الجواب عن هذا السؤال الكبير، يصوغه واقع التاريخ وحقائقه، ولست أنا من يصوغه.
واقع التاريخ، يقرر في صراحة ووضوح أنه الرجل الذي أيقظ العملاق العربي المسلم من سبات في جزيرة العرب دام دهرا، وأشعره وجوده الحي الفاعل، وأعاد إليه دينه الصحيح، ودولته العزيزة المؤمنة، ودفعه إلى الحياة الفاعلة ليعيد سيرة الصدر الأول عزائم وعظائم وفتوحا.
ويقرر غير منازع أنه رجل التوحيد والوحدة، والثائر الأكبر الذي رفض التفرق في الدين رفضا حاسما، فلم يكن من جنس من يأتون بالدعوات ليضيفوا إلى أرقام المذاهب والطرائق المزق رقما جديدا، يزيد العدد ويكثره، ولكنه أوجب إلغاء هذه الأرقام، ودعا لتحقيق "الرقم الفرد" وحده: الرقم الذي لا يقبل التجزئة كالجوهر الفرد، ألا وهو (الإسلام) .
والإسلام، طريقه واحدة، لا تتفرع، ولا تتعدد.
وقد جاءت البينات كفلق الصباح بأن هذا الرقم "الفرد" هو الذي استقام به أمر العرب، وكوّن الواحدة الكبرى،
1 / 12
والدولة العظمى وقد انضوى تحت لوائها الخفاق أهل الأرض من كل جنس مال بين مشرق للشمس ومغيب، متآخين في الله، متساوين في الحقوق، لا فضل فيها لأحد على أحد إلا بتقواه، متعاونين على بناء حضارة أخلاقية جديدة تجمع إلى مطالب المادة مستشرفات الروح.
فلما أفسد التوحيد، وزالت الوحدة، ذهب التفرق في العقيدة بهذا المجد العظيم..فجاء (محمد بن عبد الوهاب) داعيا للعودة إلى الأصل الذي قام عليه ذلك المجد وعلا سمكه وعز وطال، وقد حقق ما أرداه في جزيرة العرب، وأشاع اليقظة في العالم الإسلامي، وكان لفكره في كل صقع أثر مشهود.
فهذا هو الصنع العظيم، الذي صنعه الرجل العظيم.
***
جاء (محمد بن عبد الوهاب) على فترة من المصلحين الكبار أصحاب الأصوات الجهيرة في الإصلاح والدعوة إلى التوحيد والوحدة، وحين ظنت الظنون بالعرب والمسلمين، إذ اكتنف الظلام جِواء العالم الإسلامي، وانبهمت المطامع، وركدت ريع العرب في ديارهم، وتفرقت كلمة المسلمين،
1 / 13
ضعفوا وهان شأنهم على الأقوياء، فطمع فيهم الطامعون من كل جنس، وبغت عليهم الأمم حتى الشراذم الصهيونية.
وكان إشراق النور الجديد من قلب هذا الظلام، من الأرض القفرة، عجبا من العجب، ومثار دهشة الغرب خاصة، إذ كانت دوله بعد عصر (الرينصانص) والثورة الصناعية. تعد العدد، وتتآمر فيما بينها على العالم الإسلامي، وتتحالف للسيطرة على ينابيع ثرواته العظيمة..تغني بها فقرها.
وكان قد استقر عند هذه الدول أن العالم الإسلامي قد صار جثة هامدة لا حراك بها، فلا بد من أن تكون هي وارثة أرضه وكنوزه ومعادنه وخيراته.
فلما سمعت صيحة الإسلام الجديدة المدوية تنطلق من بين رمال الجزيرة دهشت، فأسرعت تراجع ظنونها الخائبة، وارتدت إلى أذهانها صيحة الإسلام الأولى وانبعاثه من هذه الجزيرة العربية نفسها كالأتيّ يتحدر دفّاقا من مخارم الجبال إلى أطراف المعمورة فتحا وإنشاءا وإعمارا، لا أجلّ منه ولا أروع.
فانتصبت لهذا الأمر الجديد..ترصد أخباره، وتتعرف موارده ومصادره، وتتبين مبادئه وغاياته، عسى أن يكون فجره كاذبا، وأن يعود نشورة موتا.
1 / 14
حتى إذا كذب الواقع آمالها، طفقت تحاول إبطاله، فأوحت إلى وسائل إعلامها أن تلقي الشبهات عليه، وتشوه صورته، فرمته ورمت الناهض به بالعضائه، وخلّطت ما شاءت لها الأهواء أن تخلط مما يعرفه العارفون وما بنا حاجة إلى ترديده، وقلّصت الشأن كله حين وضعت هذا الأمر الجديد العظيم في بؤرة الطائفية التي تزيد أقام الطوائف رقما جديدا، أي عكست الحال، فنبزته بالوهابية "wahhabism" وأذاعت هذا النبز الأنباء الجوائب، فتلقفته الأسماع، وردّدته الألسنة، ودوّنته الصحف والمجلات والكتب ودوائر المعارف الكبرى بكل لسان.
وراق الدولة العثمانية هذا النبز، فأجرته على ألسنة الدراويش ومرتزقة عاطم التكايا والزوايا من تنبلة السلطان، وأفرطت في إلقاء الشبهات عليه وتشويهه، ولا سيما بعد استفحال شأنه، وقيام الدولة العربية الإسلامية في جزيرة العرب على أساسه وقواعده، فلم يكن نبز أشنع من نبز الوهابية في طول ممالكها وعرضها، ودام ذلك أمدا، ووعينا إبان الطفولة وهو يقرن في بلادنا بما يسمونه "الفرمصونية" و"البرتكيشية" و"المسقوفية"، ويعنون "الماسونية" لكفرها، و"البرتغالية" لسوء أفعاله البرتغال إبان احتلالهم بلاد الخليج العربي
1 / 15
وعمان وغيرها، و"االروس" لحروبهم الدولة الإسلامية ومآتيهم المنكرة في هذه الحروب!.
ذلك فعل السياسة، وفي مثله يستوي الطامعون من كل جنس وملة عند تساوي المقاصد والأغراض، والسياسة الفاسدة لا ضمير لها ولا خلق، ولطالما استعاذ بالله العقلاء من (ساس) ومشتقاته، ومن الجهل جنديةِ الأعمى البصيرة الذي يلقف ما تأفكه السياسة، ويرجف بما تلقيه إليه، ليذيعه غير عالم بالمقاصد والنيات والغايات.
لقد نظرت السياسات إلى هذا الأمر الجديد في جزيرة العرب بمنظارها الخاص، ورصدته بعينها اليسرى العوراء، لا بعين الحقيقة الصحيحة، فصورته بما يحقق مقاصدها وأغراضها، ومن وراء ذلك يراد الذهاب بريح العرب، وهم مادة الإسلام.
وكذلك وقف رؤساء بعض العصبيات، وهي مختلفة الألوان والمشارب، موقف هذه السياسات من هذا الأمر الجديد..
إنهم تنكّروا له أشد التنكر، وأوحوا إلى أتباعهم أن يتنكروا له كذلك، ويذيعوا قول السوء عنه، فقالوا فيه، وهو النور الذي يهديهم، ما لم يقله (مالك) في الخمر، فكانوا أعوانا للسياسة في تشويهه وحربه، وقد امتزج في فكرهم
1 / 16
الحرص على الموروث من الآباء بالخوف من زوال زعاماتهم، وسقوط الامتيازات التي يتمتعون بها، هم وحدهم دون الأتباع الجهلاء المساكين المستضعفين المنقادين للرؤساء بأزمة الشعبذات، وبالشعبذات يُسحر الجهلاء غير واعين ولا دارين.
شنشنة معهودة في مجتمعات الناس كافة، تقترن بانغلاق الأذهان، وتنطوي على حفظ المصالح والامتيازات الخاصة، ومنها ينشأ الصراع الدائم في كل زمان ومكان، وعند كل جيل وقبيل، في شرق وفي غرب، ولن تجد لسنة الله في خلقه تبديلا.
وأعظم هذا الصراع في التاريخ العربي، هو ذلك الصراع الرهيب بين الإسلام والوثنية، وفي الإسلام الحياة والنور، وفي الوثنية الضمور والظلام.
والغلب في نواميس التكوين، إنما يكون للأصلح دائما مع طول الجهاد والصبر، وهو قانون لا يتخلف إلا من علة غير منظورة.
وواضح أن الطمع والحرص على احتواء النعم والامتيازات يلقيان في روع أصحاب السياسات والامتيازات ما ليس له وجود في الواقع، وهم حين يدعون إلى الإصلاح في أي شأن
1 / 17
من شؤون الحياة، يتوهمون الخسران وضياع المكانات، وفقدان الامتيازت، فيقاومون ويقاتلون بغير عقل.
ولننظر ماذا خسر رؤساء المشركين من العرب حين تركوا شركهم، ودخلوا في الإسلام..ألم ينتفعوا به هم والفقراء المستضعفون من أتباعهم في دنيا وفي دين؟ ألم يصبح خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام؟
إن الحقيقة الأزلية الخالدة في نواميس الحياة، قد تصيبها السياسات والعصبيات بشيء من الضر، ولكنها في جميع الأحوال تعجز عن طمسها أو إزالة معالمها.. ثم هي، وأعني السياسات والعصبيات، لا تملك الفصل في شأنها، وليس ما تصوره تزيينا أو تقبيحا هو واقع الحقائق، وإنما يفصل فيها العلم وحده بتجرده المطلق ونزاهته وموضوعيته الخالصة من الشوائب والأهواء. إنه يعنيه من الأشياء في كل شان يعرض له، تعرّف الحقائق في عريها وسفورها كيفما كانت الحال، وفي أي صورة تكون عليها، وإذا كانت السياسات والعصبيات تبني أحكامها على الأهواء والأغراض الخاصة، لا تحيد عنها، فإن العلم يبني تصوراته وأحكامه على البيانات غير متحيز ولا متحرف، وهو يستمد هذه البينات من الوثائق الأصلية الصحيحة مما يدوّنه الإنسان بنفسه خاصة، لأنها فصل الخطاب
1 / 18
والحجة البالغة. ومن هذه الوثائق الأصلية ونحوها يستنبط العلم التصورات، ويهتدي إلى مقاطع الحق فيوقن، ثم يرسل أحكامه التي تستؤنف ولا يميز كما يقول القضاة.
***
على هدي من هذا الفكر، التمست مقاطع الحق، في هذا الأمر الجديد وصاحبه، من معادنها، غير متأثر بسياسة من السياسات، أو عصبية من العصبيات.
وبين كل أمر وصاحبه، تقوم علاقة وآصرة، وتعرّف صاحب الأمر يتقدم تعرف أمره؛ لأنه هو مصدره، وإليه يؤول.
وقد تعرفت سيرة (محمد بن عبد الوهاب) في كتب المقربين إليه، والقريبين منه زمانا ومكانا، فهم أعرف به، ولم ألتمس شيئا من أمره في كتب مؤرخيه الثانويين ونحوهم.
وتعرفت دعوته، والفكر الذي طبعت به، من مؤلفاته، وهي أنواع..سيرة نبوية، وتفسير، وحديث، وأحكام، وتوحيد، ومما هو أدل منها على طبيعة فكره واستقلال رأيه، أعني فتاواه ورسائله ومجادلاته ومراسلاته مع العلماء والرؤساء في جزيرة العرب وما وراء جزيرة العرب في شأن
1 / 19
دعوته مناشئها، ومبادئها، وغاياتها، وأصولها، وأدلتها، والمرء وما يقوله ويقره ويفصح عنه من نيته وفكره، لا ما يقوله خصومه فيه.
وأشهد مخلصا أن بين سيرة (محمد بن عبد الوهاب) ودعوته، (ولأسمها: الدعوة التصحيحية)، رحما واشجة، وآصرة وثيقة محكمة، يبدوان من غير تكلف للرؤية في هذا التطابق التام بين الفكر والتطبيق، وبين ضلاعة الدعوة وضلاعة صاحب الدعوة وشخصيته المتميزة بأنواع من الصفات الأصلية، ومنها ضلاعة تكوينه البدني، وضلاعة إيمانه، وصلابته، وتقواه.
والآثار عامة، في حال قواتها أو ضعفها، نتيجة حال المؤثر ومزاجه كما هو معروف في مدركات العقل ومسلماته، وما خلا أدبنا العربي الأصيل من الإشارة إلى هذه الحقيقة المسلمة ومن ملحظ العلائق بين الإنسان وما يصدر عنه من شيء.
ألم يقل أحمد بن الحسين أبو الطيب قبل ألف عام:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم؟
1 / 20
وضلاعة (محمد بن عبد الوهاب) في تكوينه الجسماني، وفي مواهبه وملكاته..عجب من العجب، فإن كل شيء فيه على غاية من القوة والبروز.
ضلاعته في تكوينه الجسماني، تبدو في الرجولة الناضجة التي باكرت صباه، وفي الاحتلام الذي أسرع إليه قبل إكماله الثانية عشرة من عمره، فأُحصن من فور احتلامه.
واقترنت بهذه الضلاعة الجسمانية ضلاعة نفسية بالغة، فإذا هو يتحمل تبعات الزوجية، ويتصرف بنفسه فردا في هذه السن الطفولية، فيعرَوْري فجاج الأرضين الموحشة البعيدة المنتأى بين العيينة ومكة المكرمة، فيؤدي فريضة الحج، ويؤم المدينة المنورة الميمونة المباركة، فيقيم بها شهرين متتابعين، مصليا بالمسجد النبوي طلبا للأجر المضاعف، ثم متشرفا بسنة زيارة: زيارة الرسول الكريم ﷺ، والسلام عليه، ومستنشقا أرَج النبوة من كثب، ومستفيدا من سماع الدروس في المسجد المبارك الأنور، ثم يعود إلى مسقط رأسه موفور الحظوظ من متع الروح والقلب، مزهوا بحجّه وصلواته وازدياره، وفرحا بما شاهد من منازل الوحي وبما سمع من علماء الحرمين.
1 / 21
وإلى جانب هذه الضلاعة النفسية العجيبة، تبدت ضلاعته الذهنية في سرعة حفظه وحدّة فطنته ويقظة قلبه وعمق فهمه، ومن بينات ذلك أنه حفظ القرآن العظيم عن ظهر قلب قبل بلوغه العاشرة من العمر، فأدهش الناس من حوله، وقرأ الفقه على أبيه (القاضي عبد الوهاب بن الشيخ الفقيه سليمان التميمي)، وأقبل على كتب التفسير والحديث والعقائد يلتهمها التهاما، وطالب العلم النجيب نهم لا يشبع، وفي اللغة العربية ما في عيون المها من السحر الحلال، وما يأخذ بمجامع الأفئدة من الإيقاع والفتون، وفي كتب التفسير والسنة الصحيحة المطهرة والفقه والتوحيد، الزاد الطيب الذي يغذي العقول، وينوّر البصائر، ويشرح الصدور، ويفقّه النفوس بما لها وما عليها، لتقول طيّبا، وتعمل صالحا، وفيها العلم العظيم الذي لا أجل منه في علوم فقه الحياة جمعاء.
ومن هذا الفناء في العلم، في أصغر سن، بلغ الصبي العبقري ما لا يبلغه كبار السن في الأمد البعيد، وفاض على قلمه ما وعاه فؤاده، فإذا هو في سرعة الكتابة مثله في سرعة الحفظ: يكتب في المجلس الواحد كراسة من غير تعب، فما أشبهه في حالاته العجيبة بـ (تقي الدين بن تيمية) العظيم في طفولته في الخوارق النفسية والذهنية وسرعة
1 / 22
الكتابة وحدة الفطنة وكثرة الاستيعاب، الذي أدهش دنيا الشام من حوله، وصار مثلا مضروبا في عبقرية المواهب العالية، فلا تثريب على (عبد الوهاب) الفقيه القاضي وإمام الجماعة في بلده أن يطير سرورا وإعجابا بصبيه العبقري النجيب، وأن يتحدث لأصحابه عن مدركاته، وأن يعلن أنه استفاد منه فوائد في الأحكام قبل بلوغه، بل لا تثريب عليه أن رآه أهلا للصلاة بالجماعة، وهذه رجولته ومعرفته بالأحكام وحفظه وديانته وتقواه، فقدّمه إماما يؤم المصلين، فارتضوه معجبين.
وما يلبث الصبي الرجل طالب العلم الناشئ أن يدفعه وعيه العميق إلى الموازنة بين ما يقرأ من مسائل التوحيد الخالص وما عليه الناس ببلده من مخالفة له في بعض تعبداتهم، ومن تعلقهم بالبدع ومحدثات الأمور، فيثور ثائره.. يردع العامة عن منكراتهم، وينكر على العلماء أنهم يرون الاعوجاج ولا يقومونه.
كان ذلك بدء الإشارة إلى ما سيكون عليه شأنه في الإصلاح في مستقبله.
وقد كبر على القوم نكيره، فضحكوا منه، فارتدّ إلى نفسه مفكرا في الأمر. فتحدثه أنه لن يتم له تغيير الحال في مثل سنه، وأنه لابد له من أشياء يحققها لتكون ظهيره:
1 / 23