فطفحت بالناس الكأس، فركب المشايخ إلى بيت القاضي واجتمع فيه عدد عظيم جدا من المتعممين والعامة والأولاد، حتى غصت بهم الدار، وامتلأ بهم صحنها، وصرخ الجميع: «شرع الله بيننا وبين هذا الباشا الظالم!» وطلبوا من القاضي أن يرسل بإحضار المتكلمين في الدولة إلى مجلس الشرع، فلما حضروا واستقر بهم المكان، قر الرأي على كتابة عريضة بالشكاوي والمطالب إلى الوالي، فكتبت ورفعت إليه، فأجاب يستدعي القاضي ونقيب الأشراف والعلماء إليه في القلعة ليشاورهم في الأمر، فغلب على ظنهم أنها خديعة منه. وحضر بعد ذلك من أخبرهم - ولا ندري مقدار ما كان في أخباره من الصدق - أن الوالي أعد أشخاصا لاغتيالهم في الطريق، فتملكهم الغيظ والحنق. وفي الغد - وكان يوم 14 مايو سنة 1805 - ركب الجميع ساعة العصر وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: «إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا، ولا بد من عزله من الولاية!» فقال: «ومن تريدون أن تولوا مكانه؟» قالوا: «لا نرضى إلا بك واليا، لما نتوسمه فيك من العدالة والخير!»
فامتنع أولا؛ لكيلا يقال إنه هو المحرض، ولكنه - أمام إلحاح القوم - رضي، فأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر مكرم - نقيب الأشراف - والشيخ الشرقاوي، فألبساه إياه. ونادوا بذلك في المدينة، فاستبشرت وهللت، ثم أرسلوا الخبر إلى خورشد باشا وطلبوا إليه اعتزال الأمر فأجاب: «أنا مولى من طرف السلطان، فلا أعزل بأمر الفلاحين، ولا أنزل من القلعة إلا بأمر من السلطنة!» وشرع يستعد للمقاومة، وانضم إليه فيها زعيمان ألبانيان: عمر بك وصالح أغا أق قوش، حسدا منهما وغيرة من محمد علي، وأخذ ثلاثتهم يخابرون حسن باشا، زميل محمد علي ليحملوه على التحيز لهم، وكتب خورشد إلى سلحداره في المنيا يستنجده، وإلى المماليك يدعوهم إلى محالفته، وإلى الدلاة يأمرهم بالإسراع إلى الالتفاف حوله.
فاضطر محمد علي إلى محاصرة القلعة من كل جهة، بينما السيد عمر مكرم والمشايخ، ومعهم الكثير من العامة والوجاقلية يحافظون على المدينة بأسلحة وعصي ونبابيت، بعد أن حرروا إعلاما وقعه المفتي بشرعية الحركة، فرأى خورشد أن يرسل عمر بك إلى السيد عمر مكرم ليحمله، هو والعلماء، على العدول عما هم فيه، فدارت بين العمرين مناقشة طويلة، من جملتها أن عمر بك قال: «كيف تعزلون من ولاه السلطان عليكم، وقد قال الله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم؟» فقال النقيب: «أولي الأمر العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل، وصاحبك رجل ظالم، وجرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة حتى الخليفة والسلطان إذا سار فيهم بالجور.» قال عمر بك: «كيف تحصروننا وتمنعون عنا الماء والأكل وتقاتلوننا؟! أنحن كفرة حتى تفعلوا معنا ذلك؟!» قال النقيب: «نعم؛ فقد أفتى العلماء والقاضي بجواز قتالكم ومحاربتكم، لأنكم عصاة!» قال عمر بك: «إن القاضي هذا كافر!» - وكان تركيا مثلهم، ومعينا من قبل السلطان - فقال النقيب: «إذا كان قاضيكم كافرا فكيف بكم؟!» فأفحم عمر بك وعاد من حيث أتى.
وزاد التشديد في الحصار، ثم أتى في الأيام التالية كبار الدلاة إلى محمد علي واعترفوا بولايته، وأعلنوا انفضاضهم بتاتا عن خورشد، وهو الذي كان أحضرهم ليستعين بهم على محمد علي وألبانييه، فما كان أحراه بترديد قول الشاعر:
وأعوان تخذتهم دروعا
فكانوها، ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات
فكانوها، ولكن في فؤادي
فخلع عليهم محمد علي خلعا وكساوي، وارتحلوا بقصد الذهاب إلى محاربة الألفي وأتباعه، والعرب الذين معه، ولكنهم لم يذهبوا إلى ما وجهوا إليه، وساروا إلى البلاد والقرى ينهبون ويقتلون ويفسقون.
وفي 9 يوليو وصل إلى مصر كابجي من دار السعادة، وكان محمد علي منذ أن قبل الولاية، قد بعث بالهدايا النفيسة إلى رجالها، ليحملهم على إقرار ما فعله علماء مصر، فبعد أن تردد الديوان كثيرا وماطل كثيرا، انقاد في نهاية الأمر إلى نصائح السفير الفرنساوي هناك (وكان قد أوصاه بمحمد علي خيرا القنصل الفرنساوي بمصر واسمه ماتييه دي لسبس، وهو أبو فردينان دي لسبس صاحب قناة السويس) واتخذ عبرة من المصاعب التي قامت حتى تلك الساعة دون أن تستتب في مصر سلطة الباشاوات المرسلين إليها من الأستانة، أو المعينين منها مباشرة، فصدق على اختيار الشعب، وأرسل مرسوما مع ذلك الكابجي بتأييد محمد علي على ولاية مصر، وعزل خورشد باشا، وتسفيره إلى الإسكندرية مكرما حتى يتعين على ولاية أخرى.
Unknown page