أما وهذا شأن التجارة الخارجية؛ فكان مما لا بد منه أن تتولاها الحكومة، وأن يوليها العناية الكبيرة والإشراف الدقيق، كان لا بد من ذلك في زمان انعدمت فيه الأدوات اللازمة للمعاملات التجارية الكبرى، فأين المصارف التي تمول التاجر، بل أين الأموال اللازمة لهذا التمويل، وأين أدوات النقل والتأمين، بل وأين أدوات تحديد الأسعار متصلة بمثيلاتها في الأقطار الأخرى، فلا غنى إذن في ذلك الطور من نمو مصر عن مباشرة ولي الأمر شئون التجارة الكبرى وخاصة أنه استطاع بتلك المباشرة أن يوجه الاستيراد نحو حاجاته الأساسية.
أتريد مثالا لطريقة محمد علي وأهداف محمد علي؟ عندما صدر «القطفة» الأولى من القطن الجديد إلى لانكشير كان ذلك بواسطة بيت بريجز المستقر في مصر وإنجلترة، وقد كلف بيت بريجز أن يخصم على ثمن بيع القطن نفقات تعليم الشبان المصريين بإنجلترة واسكتلندة وإصلاح سفينة حربية له في إنجلترة، ألا ترى الجمع بين الحديد والعلم، ألا ترى أن الوسيلة المال؟ هذا شأن التجارة الخارجية يغذيها الإنتاج الزراعي الجديد وقس على ذلك معاملاته مع مرسيليا وتريستا ومع بمباي وامتدادها للأقطار الأفريقية والجزيرة العربية وأقاليم العالم العثماني.
وقد فهم التجارة الخارجية على وجهها الصحيح، أنها تقوم على تبادل المنافع، ولكنه كان حريصا على أن يحدد هو وجه انتفاعه منها، لا أن يحدد له، أو قل: إنه كان حريصا على أن ينفع وأن ينتفع ولكن لا على أن يستغل، وقد فهم أيضا العناصر السياسية في نمو العلاقات التجارية، فأدرك أنها طريق من طرق استرداد الشرق احترامه لنفسه وثقته في نفسه، واحترام النفس والثقة في النفس مظهر تلك «المحافظة على شرف الناموس» التي ذكرها رفاعة ضمن صفات محمد علي، والتي قلنا: إنها جماع خلقه.
تحيي التجارة الخارجية - محوطة بشروطه وضماناته - قيمة العالم العثماني، وهذا الإحياء يكسبه وسائل الأخذ والعطاء، يمكنه من أن يساوم مساومة القوي السخي، وأن ينال نظير ما يعطي وكان لا يهاب الأخذ والعطاء، ولا يخشى نمو العلاقات وتوكيدها، ولا يختفي وراء كثبان صحاري مصر حذر عواقب الاتصال والمخالطة، فعل الضعفاء، بل يعامل ويخالط - مرفوع الرأس - وبيده ما يحافظ به على شرف ناموسه تمام المحافظة؛ ففي يده قوة الحديد. •••
ولم تكن القوة في نظره إلا وسيلة لا غاية، لم تكن إلا آلة العيش الكريم، فقد كان بطبعه كارها لسفك الدماء، مؤثرا للاعتدال، لا يضع سيفه حيث يكفيه سوطه، ولا سوطه حيث يكفيه لسانه (كما قيل عن علم آخر من أعلام الإسلام)، قال رفاعة - مفلسف النهضة: «وقد كان السلف لا يعملون شيئا إلا أن تتقدمه النية الخالصة، ومع ذلك فقد نص العلماء أن من حج بنية التجارة كان له ثواب بقدر قصده للحج، فكذلك الفاتح لمملكة إذا نوى إصلاح حالها وتربية أهلها وتهذيب أخلاقهم وإسعادهم وتنعيم بالهم وتحسين أحوالهم برفع الظلم عنهم، كما يقضي به حسن الظن في حق المرحوم محمد علي، وكما هو الواقع فهو مثاب قطعا، ولو داخله قصد منفعة دنيوية مما لا يفارق الملوك من حب المحمدة في غالب الأحيان.»
ثم مضى رفاعة في عرض سريع لحروبه، وانتهى به إلى الملاحظة الدقيقة، وهي أن تلك الحروب «لم تكن من محض العبث، ولا من ذميم تعدي الحدود؛ إذ كان جل مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة، تحسبهم أيقاظا وهم رقود»، لم يعبث بالقوة ولم يله بالحرب وبالعسكرية، بل الأمر كله جد وكله أعباء.
فقد حل محمد علي مشكلة تكوين القوة العسكرية على الوجه الذي أوجدته الديمقراطية الفرنسية وليدة الثورة الفرنسية؛ أي التجنيد العام، وسوى بذلك أمرا استعصى على الحكومة الإسلامية منذ صدور الإسلام، فمن استخدام لأهل المناطق الجدباء إلى جمع العبيد بيضا وسودا، حاولت الحكومة الإسلامية هذا الحل أو ذاك، وكان سر اضطرابها وتزعزع كرسيها ونفاد مواردها، وجال فكر محمد علي في المشكلة واهتدى إلى اقتباس الحل الفرنسي، واستخدم للتدريب ضباطا أوروبيين وأنشأ معاهد الدراسات العسكرية، ولكن ذلك الجيش المصري الأول لم يكن - كمثيله الفرنسي - وليد الفكرة الديمقراطية القائمة على المشاركة التامة في الحقوق والواجبات.
بل أضاف محمد علي عبء الجندية على الأعباء الأخرى التي حملها الفلاح المصري، ولكننا لا نستطيع أن نقول: إن جيلنا نحن قد جعلها بعد خدمة قومية عامة، فلنكن في نقدنا حذرين! ولعل حمل الفلاحين المصريين وحدهم أعباء الجندية واستحقاقهم وحدهم شرف المباهاة بالانتصارات الإبراهيمية كانا باعثين على اتجاه التفكير السياسي المصري في أطواره التالية لعصر محمد علي نحو تقرير المساواة في الحقوق.
ولما كان نطاق السياسة المحمدية العلوية العالم العثماني كله؛ فقد ظهرت له أهمية القوة البحرية أجلى ظهور، عرف ضرورتها، سواء أكان ذلك للحماية أم للعمل السياسي، فبذل أموالا جمة لشراء السفن وتسليحها وجمع رجال البحر القدامى، وإعداد الجدد، ولما تحطم ذلك الأسطول الأول في خليج نافارينو استقر رأيه توا على بناء أسطول جديد في دار الصناعة بالإسكندرية، كان له نصيبه في حروبه مع حكومة السلطنة.
وخط بحرية محمد علي غير خط الجيش، تلك اختفت بعد حوادث سنة 1840، ونستطيع أن نتصور كيف حز هذا في نفسه، وقد شهد بعينيه في ساعات الفجر والضحى والزوال وفي أيام الحر والقر؛ كتل الخشب والحديد ولفات الحبال والقماش تتحول في أيدي صناعه المصريين غلايين وفرقاطات، وكان يوم إنزال السفينة في البحر كاملة العدد والعدة من أيامه المشهودة.
Unknown page