Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Genres
وتنبه وائل من خواطره على صوت رفرفة بين الأغصان التي فوقه، فحرك رأسه فاترا وأحس بشيء من الارتياح إلى أن يخلص ولو حينا من شجونه المضطربة، فرأى بين الأوراق قبرة تنتقل بين الفروع في حذر كأنها تريد أن تهبط، وكان يلوح عليها أنها تخشى ذلك الدخيل المضطجع تحتها. فجعل يتأملها حينا ثم رأى اضطرابها فرق لها وقام من مكانه متسللا يحاذر أن يعنف في حركته حتى لا يفزعها، ونظر نحوها يرقب حركتها، فرآها تنظر إليه في ذعر واضطراب تهم أن تطير هاربة، فتقفز عن غصنها، ثم تتردد فتنزل على غصن آخر وتصرصر وتنقنق في خشوع كأنها تتوسل وتبدي الحنين.
وفيما هو في ذلك سمع صوت رفرفة ضعيفة عند قدميه.
وتلفت حوله إلى أطراف الأغصان المتدلية، فرأى عش القبرة وفيه فرخان صغيران لا يغطي جسميهما إلا الزغب الأخضر ، وهما يتطلعان نحو أمهما ويحركان جناحيهما العاريين في لهفة إلى ظل جناحيها. فأسرع في خفة فرفع قوسه وكنانة سهامه، ثم وضع شملته على كتفه وتراجع في هدوء حتى خرج من ظل الخميلة. وهبطت القبرة تهوى مندفعة نحو فرخيها وتدرج إليهما في العش ترفرف عليهما بجناحيها وهي لا تزال تنظر في قلق إلى الخيال القائم من وراء الأغصان. فتبسم وائل ابتسامة حزينة، ثم سار إلى خميلة أخرى من الروضة يلتمس في ظلها مضجعا. وقال وهو سائر كأنه يحدث نفسه: «لقد تحرمت المسكينة في حماي.»
ولكنه ما كاد ينطق بهذه الكلمات حتى عاودته خواطره الأولى وكانت أشد حنقا؛ إذ تذكر ما يتحدث به قومه وما بلغوا من الجرأة عليه؛ فقد أطلقوا ألسنتهم فيه بما لم يكونوا من قبل يجرءون عليه. إنهم صاروا يتحدثون عنه أنه يحمي الوحش والطير مبالغة منه في الكبر والعتو، ويتحدثون عن مراعيه التي لا يستطيعون أن يلتمسوا فيها صيدا من ظبي أو أرنب أو ضب؛ لأنه قد حمى تلك المراعي وسدها في وجوههم. ويتحدثون عن الماء الذي لا يستطيعون أن يردوه إلا بعد أن تصدر عنه إبله، وعن كلأ الأرض الذي لا يقدرون على أن يطلقوا فيه إبلهم؛ لأنه قد حمى ذلك كله وحازه لنفسه لا يبيح لأحد فيه شيئا إلا بإذنه. لقد تحدث قومه بهذا كله، ووصفوه بالطغيان والكبر والبطر وكأنهم تناسوا أن ذلك كان من حقه عليهم؛ إذ قد ارتضوه وتطوعوا به له إقرارا بفضله عليهم واعترافا له بسلطانه فيهم.
وفيما كان يناجي نفسه بهذه الخواطر سمع كلبه ينبح، فوقف ينظر نحو مدخل الروضة ليرى من يكون ذلك الجريء الذي اقترب من حماه، وقال في نفسه: لعل هذه آية جديدة تطلعه على ما داخل قومه منذ حين من الجرأة عليه. لقد طالما جاء إلى هذه الروضة وأمر كلبه أن يقعي عند مدخلها، فما كان أحد يجرؤ على أن يقترب منها، فكان ذلك الكلب إذا جلس عند أسفل التلعة نظر إليه الناس من بعيد وتيامنوا عنه أو تياسروا حتى لا يستبيحوا حمى سيد ربيعة المخيف وائل بن ربيعة. بل لقد كانوا يجعلون اسم ذلك الكليب علما يذكرونه فيما بينهم إذا أرادوا التحدث عن بطلهم الباسل الذي ملأت هيبته القلوب، حتى لا يمر اسمه على ألسنتهم إكبارا له وتقديسا.
أوقد تجرأت ربيعة حتى لم يبق في نفوسها رهبة من الكليب؟
واتجه نحو مدخل الروضة هابطا على جانب الربوة مسرعا والغضب يملأ قلبه، لا ترى عيناه إلا حمرة الدماء، وقد عزم على أنه لن يصبر بعد ذلك، بل ليجعلن سطوته طاحنة حتى يصرف قومه عن تلك الهمسات التي يهمس بها الحاسدون فيما بينهم إذا خلا بعضهم إلى بعض. لقد جاءت إليه الأنباء يسعى بها صحبه الأوفياء وآله الأقربون؛ فهو لا يجهل ما تغلي به الصدور عليه، وإن كانت الخشية من بطشه لا تزال تخفي النيران تحت ستار واه من الرياء والبسمات الزائفة. وكان قلبه وهو يسير نحو مدخل الروضة يغلي حنقا ويحدثه صائحا أنه لا بد له أن يفتك وأن يسطو، حتى يعلم هؤلاء أنه ما زال السيد الذي طالما انعقدت ألسنتهم عن ذكر اسمه، وأنه ما زال البطل الذي لا يجرؤ أحد على أن يملأ منه عينيه.
ولما بلغ مدخل الروضة تلفت حوله فلم يجد أحدا. وأقبل الكلب نحوه يعوي متألما وهو يتلوى، حتى اقترب منه وجعل يتمسح به ويبصبص بذنبه، ثم ذهب عنه ينبح في حنق متجها إلى جانب الربوة. فسار وائل في أثره حتى بلغ قمة الربوة فأشرف على الوادي المجاور، فإذا هو يسيل بأعناق الإبل الحمراء ومن ورائها فارس يعرفه، هو جساس بن عمه مرة، جساس أخو امرأته جليلة بنت مرة سيد بني بكر. هو أخو تلك الزوجة الحبيبة التي اصطفاها ونعم بالحياة في بيتها الهادئ. وكان جساس يسير وراء إبله مثل الرمح الرديني بأنف أشم، تدل هيئته على أنه لا يرى في قبائل ربيعة من يليق أن يكون عليه سيدا.
وتمنى وائل لو لم يكن جساس أخا لزوجته، أو لم يكن ابن عمه الشيخ مرة بن ذهل بن شيبان؛ فإنه لو لم يكن في حمى تلك القرابة لعرف كيف يكسر ذلك الأنف الأشم، وكيف يحني تلك الهامة المرفوعة، وكيف يجعله يغضي تلك العين الجريئة التي يحملق بها في وجهه إذا كلمه؛ فهو لا يقدر على أن يمنعه من الرعي في مراعيه، ولا يقدر على أن يجعل إبله تنتظر حتى تصدر إبله هو عن الماء لأنه ابن الشيخ مرة وأخو زوجته الحبيبة جليلة.
واشتعل قلب وائل غيظا إذ رأى ذلك الفتى يسوق إبله في مراعيه التي حماها، ثم يجتاز بالروضة التي لم يجرؤ أحد من قبل أن يمر بها، ويبطش بالكلب الذي كانت ربيعة كلها تتحامى الاقتراب من موضعه.
Unknown page