Muhalhil Sayyid Rabica
المهلهل سيد ربيعة
Genres
منذ ذلك الحين انقلب شعوره بالذلة حقدا يأكل القلب، وزادت كراهته عمقا وقوة على مر الأيام كلما تبين له عجزه عن الانتصاف من الأمير العنيف، وسماه الناس منذ ذلك اليوم غريم عساف سخرية وازدراء.
فلما وقع ما وقع بين جساس وكليب، ورأى ذلك الفتى ما آل إليه أمر جساس من مباعدة الناس وانطوائه على نفسه أنس إليه فأطلعه على خبيئة نفسه؛ فإنه إذا لم يستطع أن ينتقم بنفسه من الأمير العزيز قد يستطيع أن ينفس عن حقده إذا شاركه جساس بن مرة، فهو في منعة من أبيه شيخ شيبان وإخوته وأبناء إخوته، وكلهم من فرسان بكر الذين لا يسلمونه ولا يتخلون عنه، ولكنه كان يحاذر ويتوارى إذا أراد لقاء جساس خيفة أن يراه أحد من أتباع كليب فيشي به إليه؛ ولهذا كان لا يجتمع به إلا خلسة في ظلمة الليل في أمن من الأنظار، فإذا ألم به ساعة من نهار لم يبق معه إلا إذا اطمأن على أن العيون لا تراه، فإذا رأى أحدا قريبا ترك صاحبه وذهب مسرعا إلى بعض الشعاب.
ولما مضت الأيام بغير حدث جديد نسي الناس الأمر وحسبوه قد مضى، وظنوا أن جساسا قنع بعزلته وانصرف عما لا يستطيعه، واطمأنت تغلب على رئيسها وبطلها، واطمأنت بكر على أمنها وسلامتها، ولم يبق من ذكر الناقة إلا فكاهة عابرة تساق في مجالس السمر.
غير أن قلب جليلة كان دائم الترقب والحذر، فقد كانت تعرف أخاها وما كان يملأ قلبه من الغيظ الذي ظهر لها مما سمعته منه، فكانت لا تزال تخشى الغد وما يأتي به، وتحس في قرارة نفسها شعورا مبهما أن أخاها إنما كان ينتظر الفرصة السانحة والغرة الملائمة.
فكانت تجلس كل ليلة في خشوع قبل نومها، تناجي مناة وأوال وتدعوهما ليحفظا لها زوجها العزيز.
وخرج كليب في صباح يوم كعادته، وكان يقصد ذلك اليوم أن يتنزه عن الحي، فذهب إلى مرعى الخيل فركب فرسه الرباب، وكلبه يلهث في أثره، وسار سيرا هنيئا وقلبه ممتلئ بنشوة الصباح، وكان النسيم البارد يبعث في جسمه نشاطا وفي نفسه خفة وسرورا وتملكه الطرب إلى الحياة، فأخذ يغني بملء صدره، وبدت له الدنيا تفيض سعادة وجمالا، ولمح أثناء سيره شخصا جاثما عند ثنية من ثنايا الوادي. فلما وقع بصر الشخص عليه أسرع ذاهبا عن طريقه، فتبينه فإذا هو عمرو بن الحارث الفتى الضئيل الذي كان يراه أحيانا يجالس عبيده في مراعي الخيول، فلم يكترث به ولم يحفل بوقوفه عند الثنية، ولا بإسراعه هربا عند مقدمه، فلم يكن عجيبا أن يسرع مثله ليبعد عن الطريق التي يسلكها سيد ربيعة.
وذهب إلى الروضة فوقف عند مدخلها حينا يتأمل جمال منظرها، ويملأ عينيه من اخضرار أشجارها ونخيلها، ونضرة أعشابها وزهورها، وقد عقد الندى قلائد منثورة على أديم الأرض الزبرجدي، وانتظمت حباته في أسلاك نسج العنكبوت، فبدت كأنها درر تتلألأ في شعاع الشمس المشرقة. وفيما هو واقف بفرسه سمع كلبه ينبح نباحا يخالطه انزعاج، ثم سمع من خلفه وقع حوافر فرسين يقتربان، فتكبر أن ينظر وراءه لعلمه أن الراكبين إذا فطنا إلى وجوده أسرعا مبتعدين، وبقي واقفا ينظر أمامه ويتملى بحسن روضته، ولكن وقع الحوافر أسرع وتقدم في تجاهه، حتى صار على قيد خطوات منه، وعند ذلك سمع صوتا يناديه من ورائه: «يا كليب الرمح وراءك!»
فعرف أنه صوت جساس، ولكنه لم يلتفت إليه، وقال في لهجة ساخرة: «إذا صدقت فأقبل من أمامي.»
وما كاد كليب ينتهي من كلامه حتى أحس طعنة شديدة في ظهره، فارتمى عن فرسه ووقع على الأرض يتشحط في دمائه. ورنت في أذنيه صيحات عالية وحشية، ونزل جساس مسرعا عن فرسه واقترب منه مكشرا كابن آوي إذا وجد جيفة.
فنظر إليه كليب نظرة تمثل فيها معنى الاحتقار والحنق، واختلط فيها شعور الغيظ والضعف، وهم أن يقوم إليه فلم يقو على النهوض، ففحص الأرض بقدميه وتقلب في دمائه. وما هي إلا لحظة حتى لحقه دوار النزيف، واعترته غشية الموت.
Unknown page