Muhakamat Gilgamesh
هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش: في عشر لوحات درامية
Genres
يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمة حرفية، وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى - العاصمة الآشورية الثانية - التي وجدت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال). ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو الباكو والماكو)، ومحاولته استدعاء روح إنكيدو التي تخرج من ثغرة في هذا العالم لتحدثه عن أهواله وظلماته، ويسألها عن مصير أرواح الموتى فيه. وهو كذلك القسم الذي حاولت استلهامه في وضع النهايتين اللتين افترضت أن الملحمة - في هذه القراءة أو الصياغة التي بين يديك - يمكن أن تختم بها، بعد أن ترك الكاتب الأصلي تلك النهاية مفتوحة. والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصل إلينا، ولم يخبرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد أداتي استبداده العزيزتين على قلبه؛ ولهذا لم أستبعد أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهر من استبداده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المتاح للبشر في هذا العالم، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. •••
وأخيرا فلا بد من كلمة قصيرة عن بقية القصص التي أغفلها الكاتب البابلي، وأفدت من بعضها بصورة غير مباشرة في هذه الصياغة؛ فالقصة الثالثة «جلجاميش وأجا حاكم كيش»
5
تدور حول النزاع الذي ثار بين هذه المدينة وبين مدينة أوروك وأوشك أن يؤدي إلى اشتعال الحرب بينهما، وخلاصتها أن «أجا بن أنميبا راجاسي» بعث برسله إلى أوروك طالبا منها الاستسلام. وناقش جلجاميش هذا الطلب مع شيوخ المدينة، وختم كلامه بقوله لا نريد الخضوع لبيت كيش، بل سنسحقه بقوة السلاح. لكن الشيوخ لم يوافقوه على رأيه، وأعلنوا أنهم يفضلون الإذعان للحاكم المستفز على اللجوء للحرب. ولم يقتنع جلجاميش برأي مجلس الشيوخ، فاتجه إلى مجلس الشباب القادر على حمل السلاح؛ مما يدل على وجود نوع من الديمقراطية يستحق منا اليوم أن نتحسر عليه ونتمناه قائلا لهم: «لا تخضعوا لبيت كيش؛ فنحن نريد أن نسحقه بالسلاح.» وأقره الشباب على عزمه ففرح قلبه، وأمر إنكيدو أن يقلده أسلحته مؤكدا أنه (أي أجا) سيفزع منه بمجرد رؤيته، بحيث يضطرب فعله ويذهب عقله. ولم تمر عشرة أيام حتى زحف أجا بجيشه نحو أوروك التي اضطربت أمورها، فأخذ جلجاميش يبحث عن محارب يتطوع لقتال أجا أمام أسوار المدينة؛ مما يرجح أن الحروب في تلك العهود كانت تبدأ بالمبارزة بين الملوك والحكام أو من ينوب عنهم. وأعلن رجل اسمه «بيرشور توري» عن استعداده لمواجهة أجا، ومضى في طريقه واثقا من النصر. ولم يكد يغادر بوابة المدينة حتى أحاط به جنود العدو وأوسعوه ضربا وساقوه إلى قائدهم. وشاهد محارب آخر من فوق السور ما جرى لزميله، وسمع الكلمات التي قالها لأجا وأدت إلى تكرار ضربه ضربا مبرحا. ويبدو أن الخبر انتشر بين جنود جلجاميش فأصابهم الذعر؛ مما اضطره للصعود بنفسه فوق السور ، كما يبدو أن أجا قرر رفع الحصار عن المدينة إذا اعترف له جلجاميش بالتفوق والسيادة والرئاسة. ويلهج جلجاميش بشكر المعتدي على صنيعه، وتختم القصة بالثناء على ملك أوروك وفارسها الحكيم.
والواضح من النص أنه يصور واقعة تاريخية مجردة من كل ثوب أسطوري؛ فشخصية جلجاميش فيها شخصية ملك إنساني عاقل ومسالم، كما أن الآلهة لا تقوم فيها بأي دور. ولعل كاتب القصة أو ناسخها الذي سجل اعتراف جلجاميش بسيادة كيش قد حرص على تصوير هذه الحقيقة المهينة في صورة لا تقلل من شهرة بطل أوروك، ولا من مجد مدينته ذات الأسوار المنيعة. والواقع أن القتال بين المدن السومرية كان أمرا معروفا، كما أن بكاء شعرائها على مدنهم المخربة بأيدي أبناء المدن المجاورة أو غيرهم من الشعوب والقبائل الغازية يعد من أهم الأنواع الأدبية في التراث السومري؛
6
ولذلك سمحت لنفسي بأن أورد شكوى جوقة شيوخ أوروك من الخراب الذي حاق بمدينتهم بعد غزو إحدى المدن الأخرى لها أثناء غيبة «راعيها» عنها، وانشغاله بمغامراته لتحقيق مجده الشخصي. وأحسب أن هذا أمر يقع في دائرة الإمكان الأدبي والفني، وإن لم يتوفر عليه دليل مؤكد من الواقع والتاريخ. •••
أما القصة الخامسة وهي «موت جلجاميش»، فقد وصلت إلينا في حالة شديدة التشوه. ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يبين له إله لم يذكر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يقدر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلت تعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يطمئنه الإله المجهول ويؤكد له - كما سيفعل إنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة ومن هذه الصياغة - أن ذلك ليس مدعاة للحزن أو اليأس؛ إذ ضمن له الإله الملك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة؛ ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك، وترتفع أصوات النواح عليه؛ ثم تفغر فاها الواسع فجوة كبيرة في النص، فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رفع إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدا من آلهته الذين يسمون «الآنوناكي»، ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى. وأخيرا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يقدمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يختتم النص بترتيلة تتردد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه. ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور»، وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة، أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مقرهم الأخير، ولا يستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياء وفقا لطقوس الموت. ومع ذلك فربما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المخيف - الذي لا أفتي فيه عن غير علم - أو تنفيه. •••
أما عن قصة الطوفان السومرية، والتي يستند إليها اللوح الحادي عشر من الملحمة، فقد وصلت إلينا في حالة لا تسمح حتى الآن بفهم سياقها المتكامل، كما أن الرواية للقصة نفسها من العهد البابلي القديم لا تساعد على ذلك أيضا. وتبدأ القطع الخمس المتبقية من النص بحديث أحد الآلهة عن الخدمات المفروضة على البشر تجاه الآلهة، ثم تستطرد إلى الكلام عن خلق البشر بواسطة الآلهة الكبار آنو وإنليل وإنكي والإلهة الأم ننخور ساج، وإلى نزول الملكية من السماء وتأسيس أقدم المدن في وادي الرافدين (مثل أريدو ولاراك وسيباد، بجانب مدينة الطوفان شورباك التي تعرف اليوم باسم فارة). ويبدو أن القصة الأصلية ذكرت قرار الآلهة بإفناء البشر بسبب إزعاجهم لهم؛ إذ نفهم من بعض سطورها الباقية أن بعض الآلهة قد أسفوا على اتخاذ هذا القرار، وراحوا يدبرون الحيل للوقوف بجانب البشر، ثم يرد ذكر بطل الطوفان السومري، وهو زيوسودرا - أي الذي رأى الحياة - ملك مدينة شورباك، الذي يسر إليه أحد الآلهة (ولعله أن يكون هو إله الماء والحكمة إنكي الذي أصبح اسمه آيا عند البابليين، كما قام بنفس الدور في الملحمة) بخطة الآلهة في خطابه الهامس للجدار . ولا بد أن الفجوات الكثيرة في النص قد سردت قصة بناء الفلك وانهمار الأمطار من السماء؛ إذ توحي السطور التي جاءت بعدها بهبوب الأعاصير المدمرة، وإغراق الطوفان للأرض سبعة أيام وسبع ليال: «ثم طلع إله الشمس أوتو وغمر بنوره السماء والأرض. وفتح زيوسودرا نافذة - أو كوة - في السفينة الجبارة التي أضاءها البطل أوتو. وركع الملك زيوسودرا أمام أوتو، وذبح ثورا وخروفا.» وبعد فجوة أخرى كبيرة نفاجأ بأن الإلهين آنو وإنليل قد ندما على ما فعلا، وأشفقا على البشر، فأرسلا عليهم ريحا سماوية وريحا أرضية بعثتا الحياة في مملكة النبات. ويلقي بطل الطوفان بنفسه أمام الإلهين اللذين يمنحانه الحياة الخالدة، ويقرران له العيش في جزيرة الخلود ديلمون (أو تيلمون)،
7
Unknown page