Mughamarat Caql Ula
مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة: سوريا وبلاد الرافدين
Genres
وفعل الخلق الأول لا يعطي الوجود دفعة واحدة، ينطلق بعدها في مساره إلى الأبد، بل لا بد من تكرار دوري لفعل الخلق الأول في كل عام من أعوامنا الأرضية. ففي كل سنة يخلق العالم من جديد، ويجري تجديده ليعود نضرا كما كان لحظة خروجه طريا من يد الخالق لأول مرة. وهذا التكرار الأبدي للخلق يجري بمعونة البشر ومشاركتهم فيه، عن طريق الطقوس التي من شأنها شد أزر الآلهة ومعاضدتها ضد قوى العدمية التي تتصدى لحركة الكون بغية استعادته إلى حالته السكونية. وهنا تتكشف لنا المعاني السرية، والعميقة الدلالة، للاحتفالات الدينية في رأس السنة، والتي بدأت في بابل، وما زالت قائمة إلى يومنا هذا.
في بابل وغيرها من مدن الشرق الأدنى القديم كانت احتفالات رأس السنة تشغل حيزا من اهتمامات البشر الدينية. وخلال بضعة أيام كان الناس يتفرغون لمجموعة من الطقوس تتركز حول إعادة تمثيل فعل الخلق الأول، والتكرار الدرامي للصراع البدئي الذي أنتج الأكوان، والتوحد مع الزمن المقدس الذي أعطى العالم دفعته الأولى، واستحضاره مرة أخرى وعيشه والذوبان فيه، في حالة من الانقطاع الكلي عن الزمن الدنيوي المعتاد،
1
فكانت تجري تلاوة أسطورة التكوين على الملأ، ثم يجري تمثيلها دراميا بواسطة مجموعة من الممثلين يتخذون أدوار الآلهة المتصارعة. أما بقية العباد فكانت تمارس الصلوات والابتهالات، فتعطي من إيمانها دفعا للآلهة وسندا.
وهكذا نجد أن دور الإنسان في هذه الحياة ليس دورا سلبيا، بل هو دور إيجابي فعال يساهم في استمرار الوجود وسير الأكوان، ومساندة الآلهة في تكرار فعل الخلق الأول وإنتاج زمن جديد وعالم جديد. كما أن الإنسان عن طريق المشاركة الرمزية في إفناء العالم وإعادة تجديده، يتوحد رمزيا في فعل الخلق الكلي الهائل ويتجدد هو نفسه أيضا، ويشعر أنه قد تطهر ودفن خطاياه مع العالم الذي انقضى دون رجعة، فكانت أيام رأس السنة مناسبة للتطهر والتكفير والتوبة.
وتدعم بعض الدراسات اللغوية هذه النظرة الأسطورية؛ فكلمة «عالم» وكلمة «سنة» هي نفسها في بعض اللغات، كما هو شأن هنود أمريكا الشمالية الذين يقولون «مر عالم»، في معرض قولهم «مرت سنة». فالسنة هي عالم يتكرر مرة أخرى ويولد من جديد. وفي فارس كان الملك يقف في عيد النيروز، وهو رأس السنة الفارسية، ويعلن للملأ من قومه: هذا يوم جديد من شهر جديد من سنة جديدة. وإن ما بلي من الوقت يجب تجديده.
2
وعن أسطورة الأصل الأساسية تتفرع مجموعة من أساطير الأصول الثانوية التي تحكي عن بدايات الأشياء التي تلعب دورا أساسيا في حياة الإنسان؛ كالزراعة وأدواتها والكتابة والسدود والقنوات وما إلى ذلك. إن معظم ما يستعمله الإنسان ويفيد منه لحياته وحضارته، إن هو إلا نتاج نموذج بدئي مقدس صنعته الآلهة بيدها أو أوحت به. بل إن معظم ما يقوم به الإنسان ويمارسه في حياته ما هو إلا تقليد لفعل أولي قام به الآلهة، سواء في المأكل أو الملبس أو الجنس، أو العمل. ورد في أحد النصوص الدينية القديمة: هذا ما قام به الآلهة، وهذا ما سيقوم به الإنسان. وعلى هذا تغدو ميثولوجيا الأصول أداة كشف ومعرفة وتعليل، من جهة، ومن جهة أخرى تثبيتا للنماذج البدئية لمعظم النشاطات الهامة في حياة الإنسان والمجتمع.
الفصل الأول
التكوين السومري
Unknown page