ولم يقع من الحوادث المخلة بالأمن أي شيء مهم، غير أن بعض اللصوص تمادوا في كسر الأبواب من بيوت نقل أهلها بواسطة الإدارة العثمانية وأخذ منها بعض أمتعتها ، فألقي القبض عليهم وهم متلبسون بجريمتهم، فحوكموا عاجلا وكان قصاصهم الموت، فانتهت كل مفسدة. ثم نظم أمر الإدارة وعادت المياه إلى مجاريها، وعين سمو الأمير علي بن الحسين (جلالة الملك علي) أميرا للمدينة المنورة وشيخا للحرم الشريف النبوي وقائدا عاما لها.
الوهابية والوهابيون: معارك ومقدرات
وأمرت أنا بالرجوع إلى الطائف بالجيش الشرقي الذي تحت إمرتي، بقصد تأديب الشريف خالد بن لؤي بوادي الخرما؛ وهذا كان قد اعتنق المذهب الوهابي وطرد قاضي الخرما الشرعي وقتل الأبرياء كما قتل الشريف بعيجان - وهو أخوه من أمه وأبيه - لأنه لم يطعه على فساده، ثم أخذ يغير على من لم يدخل في هذا المذهب من العشائر التابعة للمملكة الهاشمية الحجازية. وكان الملك المرحوم قد وجه الشريف حمود بن زيد بقوة تأديبية إلى الخرما، فلم يستطع عمل شيء، فغلب، ثم بعث مرة أخرى فغلب وجرح؛ فأمددته وأنا بوادي العيص بقوة كافية تحت قيادة المرحوم الشريف شاكر بن زيد، فذهب بها وبعد تلكؤ بمران توجه إلى الخرما ونزل بشرقيها في الوادي نفسه، فهوجم وهو في منزله وغلب أيضا كما غلب الشريف حمود قبله. فجهز المرحوم قوة أخرى، وبعث بها معه ومع الشريف الأمير عبد الله باشا بن محمد بن عبد الله بن عون، فبقيت هذه القوة بحضن، وهو الجبل المعروف الذي ورد فيه الحديث «من رأى حضنا فقد أنجد».
وأمرت بأن أتجهز حالا وأن أقصد الخرما رأسا من المدينة المنورة، فحاولت منع هذا الأمر والدخول فيه لأسباب جمة، أولها سأم الناس من الحرب ضد الأتراك واستغناء الجنود المستأجرة ماليا، فقد أثروا وامتلأت جيوبهم ولم تعد لديهم رغبة في حرب أو جلاد. فاستأذنت بأني أحب القدوم إلى عشيرة - وهي ماء شمال الطائف وبها آبار عذبة على طرف الحرة في حد سهل من جبل - لأبعث بالأثقال وما لزوم له من أسلحة ثقيلة إلى الطائف وأتشرف بلثم اليد الملكية، فوافق رحمه الله على ذلك. ولما وصلنا إلى عشيرة وجدناه بها فأقمنا ثلاث ليال حاولت بهن صرف جلالته عن متابعة هذه الخطة وأن يسمح بجلب الأميرين عبد الله وشاكر كي يفي بالغرض المقصود.
وقد جاء في خدمة جلالته حسين روحي أفندي، كاتم سر المعتمد البريطاني بجدة، وقال لي:
إن بريطانيا نصحت بعدم متابعة الحرب ضد الوهابيين، وإنها ترى مقابلة الدعاية بمثلها، وإنها تعلم أن بيد الوهابيين قوى نشيطة متعصبة ينبغي إخماد نارها بالحكمة، وإن ما وقع على الشريف حمود في المرتين السابقتين وعلى الشريف شاكر في المرة الأخيرة يثبت هذا الظن، وإن جلالة الملك له من المسائل في البلاد العربية كالشام والعراق ما ينبغي أن ينصرف لها دون غيرها.
ولقد كنت أعرف مغزى تبليغاته. ولا أنسى ما كان قد قاله لي الصدر الأعظم إبراهيم حقي باشا من أن أرجو والدي - وهو يومئذ شريف مكة - أن يترك المسألة الوهابية وألا يساعد سعود بن عبد العزيز بن سعود العرافة على ابن عمه عبد العزيز بن سعود، لأن الحكومة البريطانية احتجت لدى الباب العالي في هذا الشأن، وقال: يجب ألا ننسى مسألة ابن صباح وحماية إنكلترا له؛ فالدولة العثمانية غير متفرغة الآن لمسألة تحدثها بجنوب البصرة وشرقي الحجاز.
وبعد إقامة لم تطل في المدينة المنورة، توجهت إلى الحجاز كما مر، وقبل ذلك كتبت كتابا إلى أمير نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (جلالة الملك عبد العزيز) أخبره فيه بما تم من نصر في المدينة المنورة وبانقضاء حكم الأتراك على البلاد، محييا إياه مخبرا له بأنني أمرت بالسفر حالا إلى الحجاز لتأديب الشريف خالد بن لؤي الذي خرج عن الطاعة، وأنه ليس من قصد سوى هذا، وأنني من الساعين لإيجاد الصداقة والولاء بين والدي وبينه، وفي هذا من الدلالة على حسن نيتي الشيء الكثير. وربما أنني لم أكن قد تعديت حد اللياقة في جملة من جمل كتابي في صدد التزامه هو للحركة الوهابية وتشجيع الأعراب كي يعتنقوا هذا المذهب، وخصومة الوالد المرحوم لهذه الدعوة الضالة وسعيه لإخمادها فعلا؛ فقلت إنني ساع لإيجاد المودة الأكيدة بينكما، وأن ليس للعرب من فائدة في التنافر والتناحر ، فأحدكم يسوق ليكونوا معه بتمراته والآخر بدريهماته، وسيحاسبكم الله على ذلك.
فهذا ما كان. ولما وصلنا إلى عشيرة بالجيش، وجدت المرحوم هناك وكان قد سر بما رأى من قوة ومعدات، وكنت عرضت على جلالته قبل وصولي بكتاب بأني أرى لزوم تأخير هذه الحركة زيادة للتبصر وتمحيص الأمر، فأجابني رحمه الله بجواب عرفت منه عزمه وهو قوله:
يجب عليك أن تتوجه إلى الخرما للقضاء على هذه الحركة الفسادية، وإن معك من القوة ما لو قاتلت بها كل العرب لتغلبت عليهم.
Unknown page