لقد كانت الدورة الأولى والثانية، التي حضرتها في مجلس المبعوثان، دورتي تعرف واطلاع. أما الدورة الثالثة، فبها عزل والي الحجاز وقائده الفريق منير باشا؛ وعين الميرالآي وهيب بك واليا وقائدا في حكومة سعيد حليم باشا، بعد مقتل الصدر الأعظم محمود شوكت باشا، وقد جاء متنمرا.
وكنت حين ذاك في طريقي إلى إسطنبول، لحضور المجلس؛ فلما وصلت مصر ، علمت أنه عبر ترعة السويس إلى جدة، وأن معه جنودا كثيرة.
وقبل هذا التاريخ بعام، وأنا بمصر بحضرة الخديوي المرحوم، في الساعة الثالثة بعد الظهر، جاء رئيس التشريفات وأخبر الخديوي بأن اللورد كيتشنر قد حضر، فقمت مستأذنا، فقال الخديوي: قد علم أنك هنا، وليس من اللياقة أن تخرج، فاصبر لأعرفك به. فدخل اللورد بقامته الطويلة فسلم على الخديوي، فقال له الخديوي: هذا الأمير عبد الله بن أمير مكة الحسين بن علي. ثم قال لي: هذا اللورد كيتشنر، قنصل عام بريطانيا بمصر. فتصافحنا. ثم قال له هذا يد والده الفعالة، وقد أصيب بجراح في إحدى غزواته. فأشار إلى عنقه وقال: وهذه إصابة أصابتني في حرب السودان. فقلت مازحا: إنك يا فخامة اللورد هدف لا يخطأ، ولكنني أقصر منك قامة، فكيف أصابني ذلك البدوي؟
ثم استأذنت وخرجت، وكانت هذه المقابلة بسراي القبة، وأنا نزيل قصر عابدين. وبعد وصولي إلى عابدين بساعة ونصف، جاءني التشريفاتي علي بك شاهين وقال: اللورد كيتشنر هنا وقد جاء لزيارتك. وكانت مباغتة خفت عاقبتها على سياسة والدي مع الأتراك. وبالطبع ما كنت أستطيع رفض زيارة تكريمية، فدخل ومعه مستر ستورز (سير لورانس ستورز) الكاتب الشرقي بالقنصلية البريطانية. ولما استتب بهما البقاء، قال الترجمان بيننا سير لورانس: إنني مغتبط بالتعرف إليك، وإنني بمناسبة هذه الفرصة السانحة أبلغك رضى حكومة جلالته البريطانية عن الحالة الراهنة في الحجاز، حيث الأمن وراحة الحجاج بالحج وزيارة النبي، وإنني أطلب تبليغ هذا لصاحب السيادة العظمى الشريف، وإن حكومة جلالته لا ترضى بأي تغيير هناك. وبعد تناول القهوة قام وانصرف.
ثم جاءني رسول الخديوي يقول: إن لورد كيتشنر قد زارك، ومن اللائق المقتضى أن تعيد له الزيارة. فأربكني هذا التكليف فقلت: أفعل إن شاء الله. ثم على الفور قصدت دار المندوب السامي التركي، الوزير محمد شريف رؤوف باشا، فأخبرته بالزيارة وقلت له: هل تأذن في أن أعيد له واجب زيارته؟ فقال: لا بد من ذلك ولا بأس. ورجوت علي بك شاهين أن يرى الوقت الذي لا يكون اللورد كيتشنر فيه بدار القنصلية العامة، كي أصل فجأة وأترك بطاقة زيارة ثم أخرج، فقال لي: لا يكون اليوم بعد الظهر هناك. فأخذني إليها، ولما وصلنا إلى الباب الخارجي الكبير، وإذا باللورد يستقبلني من الباب، فدخلت وجلسنا، ثم أشار لعلي بك شاهين بالخروج فخرج، وقال لي: إذا حدث أي حادث تحتاج فيه إلى أي خدمة أقدمها فأنا مستعد.
وبعد أن تناولنا الشاي، ذكر ملمحا أنهم أحاطوا علما أن في نية تركيا القيام بتغييرات أساسية في بلاد العرب، فهل إذا كان من جملة هذه الإجراءات أي تغيير في شخصية الأمير، سيرضى سموه بذلك؟ قلت له: إن الشريف في العرف موظف، من حق السلطان تغييره، وهو لا يعارض إن وقع، ولكن إذا رأى أن الدفاع من منفعة الوطن المقدس، فهل تساعدون الأمير في دفاعه أنتم؟ فأجاب: إن بيننا وبين تركيا صداقة تقليدية لا تبيح لنا التدخل في شؤونها الداخلية. فقلت له: كم لكم قدرة عجيبة في تكوين الأمور على مشيئتكم! فهل يسمح لي اللورد أن أسأله عن الكويت، لما تدخل في شأنها حاكم الهند بطلب قائم مقام الكويت مبارك الصباح، ألم تكن جزءا متمما من البلاد العثمانية؟ فقال لي: أنت صريح خطر، وسأبلغ حكومتي ما سمعت. فقلت: ليس هذا يستحق التبليغ، فإن الحديث مجرد ملاحظات. فقال: وإن كان ...
مع الصدر الأعظم سعيد باشا
سافرت إلى إسطنبول، ورأيت الجرائد ذكرت عن زيارة اللورد كيتشنر إياي، وردي الزيارة له، تحت عناوين (ماذا يجري في مصر) فقالت:
إن الشريف عبد الله بك، نجل أمير مكة الشريف حسين باشا، ينزل ضيفا على الخديوي. وفي هذه المرة أقيمت له حفلة غداء رسمية حضرها وزير الخارجية المصرية، وكانت الموسيقى الخديوية تلحن ألحانا معينة أثناء الغداء. وقد زار اللورد كيتشنر الشريف عبد الله بك، ورد هذا الزيارة للورد. وقد حج الخديوي كما هو معروف. فيا هل ترى ماذا يجري بين سمع الحكومة وبصرها؟!..
فذهبت إلى الصدر الأعظم سعيد باشا، وبحثت له عن تقولات الجرائد، وقلت له: لم أرد الزيارة إلا بعد أن استأذنت المندوب السامي العثماني بمصر، محمد رؤوف شريف باشا. فقال: لا تحفل بتقولات الجرائد.
Unknown page