Mudhakkirat Tifla Ismuha Sucad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Genres
وفي الحقل كان هناك ولد اسمه صبري، يرتدي جلبابا طويلا فيه خطوط حمراء وبيضاء، يشمر الجلباب ويرفعه حتى بطنه، ثم ينزل بساقيه في القناة ويصنع بيديه في الطين فتحة كبيرة يندفع منها الماء من القناة إلى الحقل ويروي الزرع، وفي بعض الأحيان يمسك الفأس الصغيرة ويضرب الأرض بقوة.
وأصبحت سعاد تنزل إلى الحقل، تراقب صبري وهو يحرك ذراعيه بقوة ويضرب الأرض بفأسه، وتطلب سعاد من صبري أن يعطيها الفأس لتفحت الأرض مثله، فيضحك صبري ويقول لها إنها ترتدي فستانا وحذاء، ولا يمكن أن تفحت الأرض بالفستان والحذاء، وتخلع سعاد حذاءها بسرعة، وتشمر فستانها وتأخذ الفأس من صبري وتضرب الأرض.
حركة ذراعيها وهما ترتفعان في الهواء ثم تنخفضان بقوة تشعرها بلذة عجيبة، وملمس الطين تحت قدميها الحافيتين يبعث في جسدها نشوة، وساقاها وهما تجريان بأقصى سرعتها تسابق الحمام وهو يطير، وكأنها على وشك أن تطير في الجو، وصدرها ينفتح ويمتلئ بالهواء المنعش، وسنابل القمح الذهبية تهتز وترقص تحت الشمس، وحركة جسمها لا يعوقها شيء، والحركة تصل إلى كل خلية في جسدها وعقلها في وقت واحد، فإذا بكيانها كله يتحرك كأنه خلية واحدة مترابطة الأجزاء في انسجام كامل مع ذراعيها وساقيها، ومع أجنحة الحمام وهو يطير، وسنابل القمح وهي تهتز وترقص.
أكثر ما كانت تحبه في دسوق هو النزول إلى الحقل، وأشد ما كانت تكرهه هو الذهاب إلى المدرسة والجلوس في الفصل، الساعة وراء الساعة تقضيها وهي جالسة إلى درجها الخشبي، جسدها محشور بين لوحين من الخشب، واحد منهما يضغط على ظهرها من الخلف، والثاني يضغط على بطنها من الأمام، ومن تحته المقعد يضغط على أليتيها، وقدماها مرفوعتان تحت الدرج على عمود خشبي، والمدرس واقف عند السبورة يشير بعصاه الطويلة المدببة، أو يتمشى بين صفوف التلاميذ وعصاه خلف ظهره تهتز، وزر طربوشه من الخلف يهتز، وتطبق سعاد شفتيها حتى لا تفلت من بينهما الضحكة، ويهتز جسدها بالضحك المكتوم، فيلسعها المدرس على ظهرها بالعصا ويقول: اجلسي على بعضك ولا تهتزي كالزنبلك.
أمامها كانت تجلس تلميذة اسمها «مختارة» لم يكن المدرس يضربها بالعصا مهما ضحكت، وإنما يقول لها: لا تضحكي يا «مختارة»، وانتبهي للدرس، وإلا قلت لأبيك. ووراءها كان يجلس تلميذ اسمه «فتحي»، يضربه المدرس أكثر من أي تلميذ آخر، ويقول له دائما: يا حيوان يا ابن الحيوان. وإلى جوارها ناحية اليمين كانت تجلس تلميذة عرجاء اسمها «فاطمة»، تضع تحت إبطها عكازا حين تمشي، وحين تجلس تركن العكاز إلى الجدار المجاور لها، ولم تكن سعاد تقترب من هذا الجدار، وتخاف من منظر العكاز الغريب، ويذكرها بعكاز الشحاذ العجوز الذي كان يدب خلفها وهي تسير في الشارع، وتتصور أنه سينقض عليها من الخلف.
إلى جوارها ناحية اليسار كان يجلس تلميذ اسمه «ميشيل»، ابتسم لها أول ما رآها وقال لها: ما اسمك؟ فقالت: سعاد، وفي الفسحة أعطاها ميشيل نصف الساندوتش الذي كان معه، ولعبا معا في الفناء، وصعدا إلى الفصل معا، وفرحت سعاد لأنها أصبح لها صديق آخر.
وفي اليوم التالي جاءتها تلميذة طويلة اسمها «زينب» تجلس في الصف الأخير، وقالت لها: ما اسمك؟ قالت: سعاد. قالت لها: هل أنت مسلمة؟ قالت: نعم. فقالت: الحمد لله، كنت أظنك عضمة زرقاء. ولم تفهم سعاد ما معنى كلمة عضمة زرقاء، فقالت لها إن عضمة زرقاء يعني قبطي، والقبطي ليس مسلما وإنما كافر، والكفرة كلهم سيدخلون النار لأنهم لا يؤمنون، وحياتهم كلها حرام في حرام، وفلوسهم حرام، وأكلهم حرام، وميشيل قبطي مثلهم، وسوف يدخل النار معهم، وأكله حرام.
وأحست سعاد برعدة خفيفة تسري فوق جسدها، وحينما التفت إليها ميشيل وابتسم لم تبتسم له، وحينما مد يده بنصف الساندوتش قالت له بصوت مرتعش إنها ليست جائعة، وفي الفسحة حين قال لها هيا نلعب في الفناء، ردت بأنها لا تريد أن تلعب.
وحين عادت سعاد إلى بيتها ذلك اليوم سألت أباها: هل صحيح أن الأقباط كفرة وسيذهبون إلى النار؟ وقال أبوها: إن المسلمين فقط هم الذين سيدخلون الجنة؛ لأنهم يؤمنون بالله وبسيدنا محمد رسول الله، أما الأقباط فلا يؤمنون بسيدنا محمد، ويؤمنون بسيدنا عيسى ويسمونه المسيح، ويعتقدون أن المسيح ابن الله، وهذا كفر شديد عقابه نار جهنم؛ لأن الله واحد أحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له شريكا أحد.
وأصبحت سعاد كلما تتعرف على تلميذة جديدة أو تلميذ جديد تسأله: هل أنت مسلم أم قبطي؟ وحمدت الله لأن الفصل كله لم يكن فيه إلا ميشيل، القبطي الوحيد، وكانت تراه جالسا في الفناء وحده يراقب التلاميذ وهم يلعبون، وأحيانا كانت الشمس تسقط على وجهه فيبدو وجهه محمرا، ويخيل لسعاد أن الله سيجعل الشمس تتحول إلى نار لتحرق وجه ميشيل، وترتعد أحيانا من احمرار وجهه تحت الشمس، وتظن أن الأشعة ستنقلب نارا بين لحظة وأخرى، وتبتعد عنه، وتقف في الركن الآخر من الفناء، والذي لا يمكن أن تصل إليه النار، أو أنها تستطيع أن تجري قبل أن تصلها.
Unknown page