Mudhakkirat Tifla Ismuha Sucad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Genres
عيناها تتعلقان بآخر خيوط الدخان في الفضاء، وترى السماء زرقاء متوهجة بضوء الشمس، وعصفورة ترفرف بجناحيها تحت الضوء الذهبي وتطير بتلك الحركة الحرة العجيبة التي ليست عندها. لو أن الله خلقها عصفورا، ألم يكن ذلك أفضل بكثير؟ كان يمكنها أن تنفذ بجسمها الصغير من بين هذه القضبان، وتطير في الجو دون أن تراها أمها وأبوها، ودون أن تفتح باب الشقة المغلق.
وكانت أمها تغلق الباب بالمفتاح دائما، وتسمعها تقول إن اللصوص كثيرون، وفي الليل تحكم إغلاق النوافذ، ولم تكن تعرف كيف يمكن أن ينفذ اللص من بين القضبان الحديدية فوق النوافذ، وهي لا تستطيع أن تنفذ من بينها، لكنها لم تكن تفرق كثيرا بين اللص والعفريت، والعفريت كما سمعت من عمتها ليس له جسد وإنما هو روح لا يراها أحد، وقد يغير العفريت شكله فيصبح طويلا رفيعا كالثعبان ويدخل من أي شق في الباب أو النافذة، وقد يكون ضخما كبيرا وله رأس كبيرة أكبر من رأس الفيل وعيناه حمراوان بوهج كالنار.
لم تكن تحب الليل؛ لأن الليل مظلم والعفاريت لا تظهر إلا في الظلام، وكانت تحب النهار، والشمس حين تسطع وتملأ الكون بالنور والدفء، لكن البيت العالي المجاور لهم كان يحجب عنها الشمس، ولا تراها إلا في السماء من بعيد، وأشعتها الذهبية تسقط بالقرب من نافذتها ولا تدخل أبدا، وتمد ذراعها من بين القضبان لكن يدها لا تصل إليها.
أكثر شيء كانت تحبه هو أن تخرج من البيت إلى الشارع مع أبيها أو أمها، والشارع هو الشارع الذي رأته من قبل، واسع وممتد بغير بداية أو نهاية، والسيارات تنطلق بسرعة فوق الأسفلت اللامع، والناس الكثيرون يسيرون، والباعة ينادون، وأبواق السيارات تزعق، وأجراس الدراجات تصلصل، وتذكرت جرس الترام الذي كان يصلصل، وأدركت أن هذا الشارع ليس هو الشارع القديم؛ لأن الشارع القديم كان فيه ترام يجري على قضبان، وهذا الشارع ليس فيه ترام.
ووجدت سعاد نفسها في يوم من الأيام في المدرسة، بكت أول يوم حين تركتها أمها وأصبحت وحدها وسط الوجوه الغريبة، وخشيت أن يسرقها أحد، لكن اليوم انتهى دون أن يسرقها أحد، وجاء أبوها وأخذها إلى البيت. في اليوم التالي ظلت خائفة من الوجوه الغريبة، متصورة أن أحدا سيأخذها إلى مكان بعيد ولن يعرف أبوها مكانه، لكن اليوم انتهى وجاء أبوها وأخذها إلى البيت.
وتآلفت سعاد مع الوجوه في المدرسة، عرفت وجوه الأطفال في فصلها، وعرفت وجه المدرسة التي تعلمهم حروف الكلمات، في الفصل يجلس إلى جوارها طفل اسمه «محمد»، يضع في حقيبته كيسا به قطعة من الكعك، أعطاها مرة قطعة منها وكانت جائعة فأكلتها، وأصبحت تلعب مع محمد في فناء المدرسة، ويتزحلقان معا، ويركبان المرجيحة معا.
وفي يوم صعدت من الفناء إلى الفصل قبل الجميع، كانت جائعة، ورأت حقيبة محمد بجوار حقيبتها، ففتحتها وأخذت قطعة الكعك ووضعتها في فمها قبل أن يراها أحد، وأقبل محمد وفتح حقيبته، وحين فتحها لم يجد الكعكة، تلفت حوله متسائلا: من أخذ كعكتي؟ وسمعته المدرسة وهي تمر بين الصفوف، فقالت بصوت عال رن في كل أنحاء الفصل: من أخذ كعكة محمد؟ صوتها كان عاليا كصوت خالتها، والعصا الرفيعة تهتز بين أصابعها الرفيعة المرتعشة المدببة، وأطبقت سعاد شفتيها بقوة، وكتمت أنفاسها حتى لا يفوح منها أي رائحة للكعكة، وقلبها كان يدق بسرعة، وأصابعها وهي تمسك القلم ترتعش فوق الورقة.
لكن الحصة انتهت والمدرسة خرجت من الفصل دون أن تعرف من الذي أخذ الكعكة، وانتهى اليوم وعادت إلى البيت، وكانت قد عرفت الطريق من البيت إلى المدرسة، وأصبحت تذهب إلى المدرسة وحدها، خطوتها سريعة وهي تمشي كأنها تجري، تريد أن تصل بأقصى سرعة قبل أن يختطفها أحد، وخوفها يزداد حين ترى ذلك الشحاذ العجوز الذي ينظر إليها بعينين فاحصتين ضيقتين، ثم يدب خلفها بعكازه الخشبي، وتنطلق سعاد تجري بأقصى سرعتها. وفي صباح كل يوم تضع أمها في حقيبتها كيسا به نصف رغيف داخله بيضة مسلوقة أو قطعة جبن، تأكله حين تجوع، لكنها لا تشبع، وفي بعض الأحيان حين تكون في الفصل وحدها تفتح حقيبة محمد وتلتهم بسرعة قطعة من الكعك قبل أن يراها أحد.
وكان محمد يسكن في البيت العالي المجاور، وينادي عليها من نافذته العالية أحيانا ليلعبان معا في الشارع أمام البيت، وتفتح أمها لها باب الشقة وهي تقول: لا تلعبي بعيدا عن البيت حتى لا تتوهي ويسرقك أحد.
وكانت أمها تخرج مع أبيها آخر النهار، وتغلق الشقة بالمفتاح، فتضرب الباب بيدها بكل قوتها وتصرخ تريد أن تفتحه، ويظل الباب مغلقا، وتؤلمها يدها، وقد يصاب أحد أصابعها بجرح أو كف يدها تلتهب وتحمر، فتترك الباب وتدخل لتلعب مع أختها وأخيها أو تلعب مع الخادمة فتحية.
Unknown page