لم أمسك المشرط في يدي، ولم أضع السماعة في أذني، ولكني تجردت من كل شيء؛ تجردت من علمي وطبي، وتجردت من السنين التي عشتها، من الناس الذين رأيتهم وعرفتهم، من الصراعات التي عاصرتني وأسلمتني إلى ذلك السد الهائل الذي وقف في طريق تفكيري.
وتجردت من تفكيري أيضا، وبدأت أحس، لأول مرة في حياتي أحس دون أن أفكر، أحس بوقع الشمس الدافئة على جسدي، أحس بتلك الخضرة الآمنة الجميلة التي تكسو الأرض، أحس بتلك الزرقة العميقة الفاتنة التي تغلف السماء.
لأول مرة في حياتي ألتقي بالطبيعة وجها بوجه، ولأول مرة أرى لها وجها جميلا ساحرا لا يفسده شيء؛ لا يفسده ضجيج المدينة الأجوف، ولا تفسده أنوثة المرأة الذليلة الأسيرة، ولا رجولة الرجل المغرورة المتغطرسة، ولا ثرثرة العلم القاصر العاجز.
أيقنت أن الطبيعة إله جبار جميل، يحاول الإنسان الضئيل المغرور أن يلبسه أثوابا رخيصة قبيحة لمجرد أن يرضي غروره، ويشعر أنه يفعل بعمره القصير شيئا ... أي شيء.
وأحسست أن قلبي يخفق، وأن خفقاته تملأ نفسي بشحنات غريبة من العواطف والمشاعر.
لأول مرة يخفق قلبي فأحس دون أن أفكر، دون أن يشتغل عقلي ويرسم عضلات القلب وشرايينه، ويزن كميات الدم التي تندفع منه.
أصبحت لخفقات قلبي لغة جديدة لا يستطيع أن يفسرها العلم أو الطب، لغة أفهمها بأحاسيسي الغضة البكر، ولا أستطيع أن أفهمها بعقلي المجرب العجوز.
أحسست أن العاطفة أكثر ذكاء من العقل، وأكثر رسوخا في قلب الإنسان، وأكثر اتصالا بتاريخه البعيد، وأكثر صدقا وتجاوبا مع طبيعته وبشريته.
وتمددت على الأريكة أكثر، فردت ساقي عن آخرها، فاستسلمت لعاطفتي الدافئة الجديدة تدغدغ جسدي.
وتنبهت ... ها هو جسدي الذي حكمت عليه يوما بالإعدام؛ جسد المرأة الأنثى الذي ذبحته ذبحا عند قدمي إله العلم والعقل. ها هو جسدي تدب فيه الحياة من جديد.
Unknown page