في هذه المدة التي تكلم فيها (ع. ف.) و(ر.د.) كان المسيو أ.ك. في شيء من شبه الذهول تائه عما يدور حوله، فلما سكت ر.د. ولم يجد أحد ما يقوله إلا الصمت المهيب، أمام فكرة هذا الغيب غير المعروف الذي نشره أمامنا صديقنا، ابتدأ هو يتكلم من جديد، ولكنه بقي تائه النظرات صافي الجبين على وجهه معنى السكينة، قال: من المناظر التي كانت تأخذ بعيني منظر الأفق على سطح البحر، ماذا بعده؟ هناك السماء والماء، والبحر والجو، ماذا فوق السماء وماذا تحت الماء؟ باخرة آتية من بعيد أو أسماك يأكل بعضها بعضا أو أمواج تتلاطم ؟ عالم خفي عني علمه على قربه مني وعلى سهولة كشفه، إذا أخذت أنا قاربا واقتربت منه، ومع ذلك فأجده عجيبا مهوبا، ولو صرت عنده لزال عجبي ولم تبق له هيبته، كذلك الحقائق، كل ما غاب عنا ولم تصل إليه معرفتنا ظهر مهوبا في حين يظهر غيره مما نصل إليه بسيطا بل مبتذلا، والحقيقة الكبرى كغيرها، لو أمكن اقترابنا منها وإخضاعها لحواسنا لما سميناها كبرى، ولكن ذلك الغطاء الذي كان ولا يزال عليها والذي ربما انكشف ظاهرا وربما بقي خالدا هو الذي يعطيها هاته العظمة ويلبسها جلالها، ولعمري ما أدري سبب تعلق الناس بها وجريهم وراءها على قلة ما تعطي وعدم استفادتهم من ذلك إلا ضئيلا.
ذكرت أنا حين قال ذلك ما قاله المسيو ه.ج. مرة من أن الأديان تستند في وجودها للضعف الإنساني، وذكرت مثله عن زوجته وما يعطيه لها إيمانها من القوة والجلد، فتداخلت معترضا وقلت: هذه الحقيقة الكبرى لا أصل لها، وإنها مجرد وهم وخيال على ما قلت أنت في حديثك الأول، وهي من أجل ذلك ستبقى تحت غطاء خالد يعطيها الجلال، وهب التفكير فيها عديم النتيجة على الإطلاق، إذا فرضنا ذلك كله فأحسب من المجازفة أن تقول إنها لم تفد العالم إلا ضئيلا، فإنا نرى السواد الأعظم من الناس يعيش ويعمل ويجاهد ويجتاز وعث الحياة بقلب ثابت ويقدم الخير لإخوانه بنفس طيبة، وهذه الفكرة وحدها سنده في عمله والباعث له على فعل الخير، وهي كذلك المانع الوحيد لكثيرين جدا من الفقراء وحياتهم سلسلة ألم متصلة عن العبث بحرية الآخرين والاعتداء عليهم، ولا يعد مبالغا من يقول إنها هي التي تعطي القانون الموضوع قوته من هذه الجهة، ففكرة عظيمة كهذه تخدم العالم من الأزل إلى يومنا هذا أكبر وأجل خدمة تستحق المهابة والتقديس، كما أن محالا أن يسير العالم هذا السير العجيب على باطل، فهي من غير شك حقيقة ثابتة.
لم أكد أنتهي من كلامي هذا حتى رأيت أ.ك. قطب حاجبه وعاود تنبهه الأول واندفع يقول : غريب جدا تعليلك هذا، ألأن الناس ظلوا حتى زمن جاليلي يعتقدون أن الأرض ساكنة تكون هذه حقيقة ثابتة؟ ألأن الناس اعتقدوا أجيالا طويلة أن العائلة لازمة تكون هذه حقيقة لا نزاع فيها؟ وهل الخرافات التي بقيت تحيط بالإنسانية العصور الطوال والتي تساقطت بملامسة العلم كانت هي الأخرى حقائق ثابتة؟ إني أكرر ما قدمت من أن هذه الأجيال السابقة كانت ترى الوقائع بعين غير التي نراها بها، فيعكس خيالهم من شكلها ما كانوا يسمونه حقيقة، وما نضحك نحن من اليوم هازئين يعكس إلها على شكل الإنسان وله كل صفات الإنسان، يعكس جنونا وهزأ أمام النظر النقاد الحديث.
وأما أنها أفادت العالم فذلك موضع مناقشة يحتمل الشك، الأفكار الدينية قد احتلت العالم زمنا طويلا، وكانت قاعدة تفكير الناس قرونا من الزمان: هذه حقيقة تاريخية لا ريب فيها، ولكن أنها هي التي رتبت أعمالهم فذلك ما لا أصل إلى تصديقه؛ لأن الواحد منا تستثير نفسه المناظر المؤلمة ويدعوه شكل الرجل الفقير المريض في أطماره البالية إلى الإحسان عليه، ولا يفكر في ثواب الإله له إلا بعد أن يكون قد انتهى من عمله، كما أن المجرم يفكر حين ارتكابه جريمته في أن لا يراه أحد أي في أن لا يقع تحت طائلة القانون، ثم إذا أتم عمله وراجعه حساب ضميره فربما افتكر في حساب الله له، وبالجملة فإن الناس جميعا يسيرون في أعمالهم مدفوعين بداعي المصلحة أو بدافع الإحساس، في حين يجيء حب إرضاء الله أو الخوف من سخطه في درجة متأخرة، وعندي أن تقوية إحساس الفرد بشخصيته والعمل لإحياء ضميره وحفيظته وجعله يشعر شعورا دائما بوجود مستقل لذاته أحسن بكثير وأدعى لتنمية الفضيلة الاجتماعية في نفسه من فكرة الرقابة الدائمة عليه من قوة متسلطة لا يحس بسلطانها ولا يمسه شيء من آثارها.
فوق هذا فإن تلك الفكرة بنفسها كانت مثار حروب وحشية وسببا في وقوف الفكرة الإنسانية وجمود أصحابها وتعصبهم إلى حد فظيع، ولا حاجة بي لأن أضرب الأمثال، فكلنا يعلم عن ديانته ما يكفيه مؤونة البحث عما أثارت الديانات الأخرى من المذابح والفظائع، كما أن الحروب الصليبية لم تكن مما تفرح له الإنسانية التي تريد يوما ما أخوة عامة.
وإن أكبر ما أرجو أن يصل الناس للتسليم بأن الحقيقة على ما نعرفها به غير موجودة، ويسرني جدا أن أي هذه الفكرة متسعة الانتشار في طبقات كثيرة من طبقات الجمعية، وإن أول آثارها أن يحتمل الناس بعضهم بعضا وتقل من بينهم البغضاء والأحقاد التي يثيرها التعصب الفكري ضد فكرة أخرى.
كان الوقت قد أمسى وحان أن نقوم، وكأن إخواننا جميعا صاروا من رأي المسيو أ.ك. أو أنهم تعبوا من المناقشة، فقمنا وما كدنا نصل باب المكان حتى تهادينا السلام وتركتهم إلى بيتي خيفة أن يفوتني وقت الطعام.
7 أكتوبر
الجمال النادر ...
كلمتان اقترنت الواحدة بالأخرى يقولهما القائل كلما جاء أمامه معنى من معاني الجمال، وتسمعها الأذن كل يوم حتى لم يبق لهما في النفس من أثر معين محدود، كم جاء أمامي هذا التركيب فلم يكن ليثير مني اهتماما خاصا، بل كم كتبته غير مبال بما يحويه من معنى دقيق؛ ذلك لأني كنت أعتقد أن المحيطات بنا تحوي من الجمال النادر كثيرا وأنه لو أتيح لي أن أي جماعة من النساء لحارت عيني بينهن ولأخذ بلبي جمالهن، بل ولكان لكثيرات منهن تقدير كبير في نفسي، وكنت أعزو قلة من أرى من الجميلات لضيق دائرة من أعرف من النساء، وآسف أني لست حسن الحظ في معرفتي، لكن هذا الخيال عندي لم يكن له موضع بل ولا خيال من الحقيقة.
Unknown page