في البنسيون جاءني صاحبه يحادثني بالفرنساوية، حادثني طويلا وفي مواضيع مختلفة ولكن ليصل منها كلها إلى معرفة المدة التي سأقيم عنده والحساب الذي يجب أن أدفع اليوم، في غير البنسيون كل شيء يسير على هذا النسق أيضا، وأحسب أن المدينة التي عندهم لا تدعو للتقشف والزهد؛ فإن الطبقة التي تقابل عندنا طبقة صغار الموظفين والقليلى اليسار تيعش في ترف أكثر من ترف جماعة أغنيائنا، ولقد دلتني المنازل التي رأيت: منزل المسيو أ.ل. والمسيو ه.ج. ومنازل كثيرة أخرى مررنا بها في بحثنا عن سكن جديد ومنازلنا نحن التي نسكن الآن على مبلغ ما تطالب به من نفقات في التنظيم والعناية، كما أن ما يظهر من تنوع حاجات الإنسان المتمدن إلى أقصى الحدود واضطراره لقضائها جميعا، كل ذلك من شأنه أن يجعلهم ينكبون على المادة هذا الانكباب الفظيع.
ولا يخطر بالبال مقارنة حالهم بما عندنا؛ لأنا نحن قوم زهد نحتقر عرض الدنيا الفاني ولا يهمنا الأيام القليلة التي نبقاها على الأرض ولا بأي شكل قضيناها، يحتل منا ذلك الشعور أعماق النفس فإذا أراد أحدنا أن يخرج عليه كان الشاب الذي ينفق ماله باليمين وباليسار في محال اللهو من غير أي فائدة تعود عليه من ورائه، وأما هم فقوم دنيا لا يعرفون سوى الحياة ولا يثقون بما بعدها، لذلك يريدون كسبها بحذافيرها وأن يأخذوا منها كل تستطيع أن تعطي، من أجل هذا ترى في كل ما يحيط بك، في كثرة الحدائق وما فيها من التماثيل، في المتاحف وبديع ما تحوي، في التياترات الكثيرة نملأ بأسمائها إحدى الجرائد (كومديا) صفحة كاملة من صحائفها وأحيانا أكثر، في كل المظاهر التي حولك والتي تلمس أنت بيدك، في ملابس السيدات والمبالغة في حسن اختيارها، في الاستسلام للسرور (الذي يظهر على الناس كافة في عيد 14 يوليو والذي يظهر على الكثيرين في كل يوم) في الصحف وغريب الأخبار التي تحتوي، ترى في كل ذلك من الحركة والاهتمام بالدنيا والمنافسة في استغلالها وشديد الحرص على استثمار كل ما يمكن استثماره منها ما يدهش اللب.
22 أغسطس
قضينا سحابة النهار في سان كلو، وككل الضواحي في أيام الأحد كانت ملأى بالناس ممن لا تدل حالهم على اليسار وإن كانوا نظافا، وقد خرجنا في مسيرنا من بستانها البديع النظام لندخل الغاب المستوحش الجميل.
جلسنا على العشب مع الجالسين، ثم قمنا من مكاننا يجذبنا صوت موسيقى، فلما كنا إلى جانب الطريق جلسنا من جديد ننتظرها، في حين جعل الآخرون الذين جاءوا من كل حدب لمقابلتها يرقصون ويصيحون وقد فاض عنهم الطرب، ولما أن جاءت عندنا إذا القوم قاموا فأداروا مرقصا عاما فيما بينهم، ظلوا يرقصون بعد أن ارتحلت الموسيقى وموسيقاروها مكتفين بأن تردد لهم الأشجار العالية هاته الأصوات التي جعلت تبتعد تبتعد حتى اندثرت.
لكن الموسيقى لم تكن موسيقانا الشرقية ذات النغمات الحزينة المتشابهة التي تذهب بالقلب إلى عوالم أحلامه يستعرض امامه شجون الماضي والأيام الفائتة، ويذهب يتبع النغمة تاركا نفسه مسحورا بها، بل هي موسيقى عسكرية قوية الصوت ترج القلب وتحرك الحواس وتهيج في النفس من قوة الطرب ما لا تستطيع معه أن تبقى مخلدة إلى سكونها بل هي تندفع مهتاجة مبتهجة إلى الرقص والغناء والصياح وتفيض كلها تريد أن تظهر إلى الخارج.
آخر النهار أردنا أن نرجع، لكنا لم نرض أن نترك الغابة قبل أن نأخذ بعض الكرت بوستال من مناظرها، فعرجنا على فتاة هناك جعل ب. يقلب يريد أن يختار مما عندها من الكرت، وكلما تم له اختيار واحدة أعطاها إياها فتأخذها منه برقة ولطف وتبتسم ابتسامه جميلة، ويزيد ابتسامتها جمالا أنها خفيفة الروح جذابة اللون دقيقة التقاطيع ضاحكة النظرات، هذه الابتسامه أكبر شفيع لها، كما أن خفة الروح أحلى تيجان الجمال.
هذا اللطف في المعاملة هو الأمر السائد هنا، فصديقك والتاجر الذي يبيعك سلعته وخادم غرفتك وكل من تقابل دائم الابتسام حتى لكأن هذا الخلق أصبح طبيعيا فيهم، يحيونك بابتسام ويعوضون حاجاتك بابتسام ويشكرونك بابتسام، وهم بذلك يسرون القلب ويعوضون الإنسان عن قتوم السماء وعبوس مناظر المنازل الترابية اللون الحزينة المنظر.
25 أغسطس
في الأوليمبيا ومعي صديقان من المصريين.
Unknown page