وفي صباح يوم الأربعاء أيقظني زوجي مبكرا كما أيقظني ليلة حلمي، فقمت منزعجة وسألته عما حل بابني ، فقال لي: «لقد أيقظتك لنسافر إلى المنيا؛ لأن أختك مريضة جدا.» فأجبته: «وكيف أسافر وولدي مريض؟» قال: «إنها في مرض الموت، أو في الحقيقة إنها توفيت» ... فشعرت بحزن شديد لهذا النبأ.
وذهبت إلى غرفة ولدي لأطمئن على حالته. وبعد أن أعطيت مربيته التعليمات اللازمة، خرجت وكان موعد الرحيل قد أزف، فارتديت إزاري وخرجت باكية على أختي. مشغولة على ولدي.
ولما وصلت إلى المحطة، وجدت سعيد آغا في انتظارنا وعلى وجهه علامات الحزن الشديد. ولما ركبنا القطار تركني زوجي كعادته وتوجه إلى محل الرجال، وبقي معي سعيد آغا، فقصصت عليه الحلم الذي رأيته، فقال: «لقد تحقق حلمك» ... قلت: كيف ذلك ثم هل حدث خلاف بين أخي وزوجته استدعى فراقهما؟ فسكت ولم يرد.
وطوال مدة السفر، كنت أتخيل أخي ينتظرني كعادته، وأفكر فيما أحدثته عنده وفاة أختي من الكدر؛ لأنه كان يحبها ويجلها إذ كانت عطوفة علينا، وتربى أولادها محمد وإبراهيم وفؤاد سلطان عندنا، وكان شقيقي يحب «فؤاد» ويناديه بابنه، وإن كان في مثل سنه ورضع معه، وهو الذي أعطاه اسمه وسماه «فؤاد سلطان»، وكانت أختي هذه ثانية بنات والدي من ابنة عمه، وكانت تحب والدتي التي كانت في مثل سنها تقريبا، وكانت والدتي تبادلها الحب.
ولما وصل القطار بنا إلى محطة المنيا، لم أجد شقيقي في انتظارنا بل وجدت الآغا ... فظننته مشغولا بالمعزين ... وسألت الآغا إلى أين أذهب ... إلى بني أحمد أم إلى دار شقيقي! فأجابني: طبعا عندنا. فتبادر إلى ذهني أن أختي قد توفيت عند شقيقي.
وكم دهشت لما رأيته من علامات الحزن الشديد على وجوه الناس جميعا، ولما شاهدته من إغلاق المحلات التجارية ... وازدادت دهشتي أكثر لما سمعته من ندب النساء وعويلهن في الطرق والمنازل.
لاحظت كل ذلك ولم يخطر ببالي قط أن سوءا قد أصاب أخي، وأن كل هذا من أجل وفاته، ولما وصلت المنزل دهشت من كثرة الزحام حتى صار من الصعب علي أن أشق لنفسي طريقا رغم أنهم كانوا يفسحون لي الطريق. وكان الناس ينظرون إلي ذاهلين ... وقد علمت فيما بعد أنهم حسبوني قد فقدت عقلي من هول الصدمة لأنني لم أبك ولم تبدو علي إلا علامات الاندهاش والاستغراب. وقابلتني زوجة أخي قائلة: «انظري ما أصابنا.» فقلت لها: «هل توفيت أختي عندكم؟» فقالت: «إن مصيبتنا في أخيك»، فأحسست كأنها طعنتني بخنجر وصل إلى أعماق قلبي.
وخيل إلي كأنما أخي حي وأنه مغمى عليه، فهرولت مسرعة نحو غرفته، ورأيت ابتسامته الحلوة تعلو شفته، ولم أر عليه اصفرار الموت ولا علاماته، فارتميت عليه أقبله وأناديه وأدلك جسده على أمل أن تدب الحياة فيه. وبقيت بجانب فراشه أرقب يقظته في لهفة وأناجيه لعله يتنبه بسماع صوتي أو يفيق، ولكن للأسف لم يستجب أخي لندائي كما كانت عادته دائما في أن يلبي ندائي.
ودفن أخي إلى جانب والدي في قبر يضمهما معا، وقضينا هناك تلك الليلة، وكانت أسود الليالي في حياتنا جميعا ... وقد استمرت ليالي المآتم أربعين ليلة دون أن أفكر في ولدي الذي تركته مريضا.
وبرحيل أخي، رحلت معه كل آمالي في الحياة؛ لأنه كان بهجة حياتي ومبعث الأنس والبشر فيها. وبدأت صحتي تتدهور، ولولا وجود ولدي وشعوري بالواجب نحوهما، لما بقيت بعده لحظة واحدة.
Unknown page