إذا به يقهقه قهقهة عالية! «ها. ها. ها! إن أشعة رونتجن التي ترتفع بالعبقري مثلي فوق مستوى البشر ... عليك يا صديقي بأشعة رونتجن حتى تكون عصريا، وإياك أن تجهل منزلتي ومقامي. لا. إنك تفهمني حق الفهم، أو بعضه. لا أدري. لا بأس. فالكل سواء، إن يد الله الكريم ترحمنا يا صاحبي.» ثم ينظر إلى الباب فيرى طالبا مارا فيخاطبه: «ها ها هي، تعال يا ڤدع كده. ها. ها. ها. هكذا تكون الحياة ... ولكن لا.»
ثم يسكت قليلا ويغمض عينيه بعد أن يوجههما إلى السقف ويفركهما بأنامله القصيرة، ثم يقول لك وهو ما زال مغمض العينين: «هات ذلك الكتاب يا ولد.»
فتناوله الكتاب. فيفتحه، ثم يقرأ قليلا بلهجته الغنائية الخشنة، ثم يقذف بالكتاب قذفة كبرى على الفراش.
ويندفع مسرعا إلى جماعة الطلبة وهم يتباحثون في مرض الطاعون وأكثرهم خائف. وبعضهم عازم على السفر، فيصيح بهم قائلا: «أنا ريكاردوس قلب الأسد وأنت صلاح الدين. لتقم بدورك لا بد.» إن صلاح الدين وقلب الأسد، في آن واحد يصرخ بصوت تمثيلي قوي: «إن لم أصن بمهندي ويميني ... إلخ.»
ثم يلتفت إليهم قائلا: «أنا وأنتم» و«القطاطس» أحرار. أجل، كلنا أحرار، لأن أشعة رونتجن علمتني كيف أتكلم العربية الفصحى.
الجمعة 3 جانفي 1930
أستعرض حوادث هذا اليوم لعلي أجد فيها ما يستحق الذكر والتعليق، فلا أجد شيئا يلفت النظر. وإنما هي حوادث سخيفة عادية، لا تقف عندها النفس ولا تثير الوجدان.
انتبهت الساعة العاشرة صباحا. وقد كنت على اتفاق مع صديق على زيارة صديق لي في بعض المصطافات الجميلة بضواحي الحاضرة. ولكن الصديق أخلف وعده، وتركني أنتظر حتى انقضى على الأجل المضروب ساعة ونصف، وليس يهمني أكان صادقا في عذره عن إخلافه الوعد وإخلاله بكرامة الصدق أم كان كاذبا فيما انتحله من عذر، وحسبي أنه أخلف وكفى.
ولما كانت الثالثة والنصف بالتدقيق تطلعت إلى الأفق لأرى الجو وأعرف حال الغيوم التي كانت تغشيه؛ إذ قام بنفسي أن أقضي الأمسية في ذلك المنتزه الجميل الحبيب إلى نفسي «البلفدير» بعد أن عدلت عن زيارة صديقي خارج الحاضرة. فكرت فيما ينبغي لي أن أحمله معي من الكتب في نزهتي الجميلة. وتلك عادة من عادات نفسي لا أستطيع أن أذهب إلى البرية أو إلى بعض النزهات دون أن أستصحب كتابا، وسواء علي بعد ذلك قرأته أو لم أقرأ منه سطرا، فبدا لي أن أحمل معي ديوان العقاد ثم «تاييس»، ثم التفت فرأيت على المنضدة كتاب «الآراء والمعتقدات لغوستاف لوبون» فعدلت عن الاثنين واتخذته سميري. وغادرت المدرسة بعد أن تطلعت إلى السماء ثانية، فرأيت الغيوم متفرقة ممزقة تبدو من خلالها زرقة السماء الجميلة. وأخذت سمتي إلى باب البحر لأركب عربة الترامواي. وقد كان أحب إلي الذهاب على الأقدام، ولكني أشفقت أن ينصرم الوقت في المسير فما أصل المنتزه إلا وعلى الكون نقاب من شعاع الأصيل. وجددت في السير مخافة أن تذهب علي الساعات بدادا، فأقضي الوقت في المدينة التي كرهتها ومللت ضجتها الخاوية ... ولكن عبثا كنت أدأب على المسير، فإني ما وصلت إلى محطة الترامواي حتى رأيت الجو يكفهر ويربد، ورأيت الغيوم السود تراكض من أقاصي الأفق.
أعوذ بالله من السخط والنقمة! إلى أين أنا ذاهب وهذه الطبيعة تريد أن تسكب جام غضبها على العالم في هذه العشية.
Unknown page