ذهبت ولما أصبحت بعيدا عن المدينة، وعن لاغية السابلة، وقرقعة العربات، تراءت لي البرية الساحرة الجميلة والحقول الخضراء الفاتنة. ولما اقتربت كانت المروج ساكنة هادئة تحلم بأحلام الربيع. وكان الفضاء ساجيا وادعا يشابه بحيرة هادئة تصغي لنجوى النسيم في ليلة مقمرة.
وفي وسط ذلك السكون الشامل المحفوف بالأحلام تنبعث إلى سمعك من حين لآخر أنشودة طائر أنيق يغرد فوق فرع من فروع الزعتر ذي العطر الأريج، أو تغريدة مفردة ترسلها قبرة ذاهبة في ذلك الأفق المسحور.
وكانت أزهار المروج المتناثرة بين المزارع غريرة باسمة تشعشعها الشمس وتحركها النسمات. وكانت تطرز حواشي الأفق المنير غمامات صغيرة متناثرة هنا وهناك ...
في هذا الوسط الشعري البديع جلست منفردا على ربوة صغيرة تتصل بتلال كثيرة، أفكر بأحلام الحياة، وأتملى جمال الوجود، وطافت بنفسي ذكريات كثيرة متتالية كأسراب الطيور، وغصت في عالم الذكرى البعيد.
إلى هاته الربى الجميلة، والتلال الساحرة، منذ ست سنوات، قد كنت آتي منفردا بنفسي، متتبعا هاتيك السبل الصغيرة بين المزارع، ومحاذرا أن أدوس زهرة يانعة، أو أكسر غصنا يداعبه النسيم. فقد كنت أشعر في أعماق قلبي أنني أرتكب جناية كبرى حينما أقطف زهرة ناضرة أو غصنا رطيبا.
ألست أرى تيار الحياة يتسلسل في أعماقها على مهل، وأراها ترمق الأفق الجميل؟
ألست أراها ترتعش بين أحضان النسيم ارتعاشة الغانية على صدر عاشقها السعيد؟
ألست أرى وريقاتها الصغيرة تتحرك حركة من يهم بالكلام، كأنما تحاول أن ترتل أغنية الحب والجمال؟
بلى! فكيف إذا تطاوعني نفسي على أن أقتطفها فتذوي وتموت. وأرى بعيني رفيف الحياة يغيض في أوراقها، وسحر الشباب يتلاشى من ثغرها الجميل، ووريقاتها الصغيرة الفاتنة تتناثر مضمحلة في أكف الرياح.
أجل! فقد أرى أنني أقترف جريمة تألم لها نفسي باقتطافي وردة يانعة، وأحسب أنني قتلت نفسا بريئة، وأزهقت روحا طاهرة، وقضيت على آمال فتية تحلم بفجر الربيع!
Unknown page