مُذَكِرَةُ أُصُولِ اَلْفِقْهِ
المرحلة الثانوية
الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية
أصول الفقه
اعلم أن أصول الفقه مركب من مضاف وهو كلمة "أصول " ومضاف إليه وهو كلمة "الفقه" ويسمى مركبا إضافياَ وقد أخذ هذا المركب الإِضافي فوضع علمًا على العلم المعهود فينبغي تعريفه باعتبار كونه مركبًا إضافيا وباعتبار كونه علما.
أولًا تعريفه باعتبار كونه مركبًا إضافيًا
١- كلمة أصول: الأصول جمع أصل والأصل في اللغة ما انبنى عليه غيره كالأساس أصل للسقف والجدار وكعروق الشجرة الثابتة في الأرض كما في قوله تعالى: ﴿أصلها ثابت وفرعها في السماء﴾ .
وفي الاصطلاح يطلق الأصل على عدة معان منها:
١- القاعدة العامة: كقولهم الأمر يقتضي الوجوب، يوضح ذلك قوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه﴾ فهذا أمر عام يقتضي وجوب الأخذ بكل ما آتانا الرسول العظيم من غير تعرض في هذه الآية بالذات إلى فرد من أفراد الأوامر التي وجهها إلينا رسول الله ﷺ.
٢- الدليل، كقولك: أصل وجوب الصوم قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام﴾ أي دليله.
٢- كلمة الفقه: الفقه لغة الفهم ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى ﴿واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي﴾ أي يفهموه.
وفي الاصطلاح: العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية.
فأصول الفقه إذًا: قواعده التي يبنى عليها
شرح تعريف الفقه:
١- المراد بالعلم ما يشمل غلبة الظن كما في قوله تعالى ﴿فإن علمتموهن مؤمنات﴾ أي: ظننتموهن.
٢- المراد بالأحكام الشرعية: الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإِباحة فيخرج بقيد الشرعية: الأحكام العقلية كالواحد نصف الاثنين؛ والحسية مثل كون الثلج باردًا، والعادية كنزول المطر بعد الرعد والبرق.
1 / 1
٣- والمراد بالتي طريقها الاجتهاد: إخراج ما لا يصح فيه اجتهاد كمعرفة كون الصلاة والصيام واجبين، والزنا والسرقة محرمين لمعرفة ذلك من الدين بالضرورة.
ثانيًا تعريفه باعتبار كونه لقبًا لهذا الفن
هو علم يبحث عن أحوال أدلة الفقه الإِجمالية وطرق الاستفادة منها وحال المستفيد.
شرح هذا التعريف:
١- المراد بطرق الاستفادة: معرفة الترجيح عند التعارض مثلا.
٢- وبالإِجمالية: ما عدا التفصيلية، كالأمر يقتضي الوجوب والنهي يقتضي التحريم، والمطلق يحمل على المقيد والعام يخص بالمخصص، والقياس والإِجماع حجة.
موضوعه
وموضوع هذا الفن: الأدلة الموصلة إلى معرفة الفقه. وكيفية الاستدلال بها على الأحكام مع معرفة حال المستدل.
فائدته
وفائدة هذا العلم هي: العلم بأحكام الله تعالى المتضمنة للفوز بسعادة الدارين.
استمداده
ويستمد هذا العلم من ثلاثة أشياء:
١- علم أصول الدين- أي التوحيد- لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الباري جل وعلا، وصدق المبلغ عنه ﷺ وهما مبينان فيه مقررة أدلتهما في مباحثه.
٢- علم اللغة العربية: لأن فهم الكتاب والسنة والاستدلال بهما متوقفان على معرفتها إذ هما عربيان.
٣- الأحكام الشرعية من حيث تصورها؛ لأن المقصود إثباتها أو نفيها وغير المتصور لها لا يتمكن من ذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
حكمه
وحكم تعلم أصول الفقه وتعليمه فرض كفاية.
الأحكام الشرعية
تقدم لك أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية، وإليك فيما يلي بيان هذه الأحكام بإيجاز:
تعريف الحكم:
الحكم لغة: المنع، واصطلاحًا: مقتضى خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين.
أقسام الحكم الشرعي
والأحكام الشرعية على قسمين:
١- تكليفية ٢- وضعية.
فالحكم التكليفي: هو مقتضى خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء أو التخيير.
والحكم الوضعي: هو ما وضعه الشارع من أسباب وشروط وموانع تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي.
1 / 2
الفرق بين القسمين: والفرق بين التكليفية والوضعية هو: أن التكليفية كلف المخاطب بمقتضاها فعلا أو تركًا، وأما الوضعية فقد وضعت علامات للفعل أو الترك أو أوصافًا لهما.
أقسام الحكم التكليفي
ينقسم الحكم التكليفي إلى خمسة أقسام: لأنه إما أن يكون بطلب فعل أو بطلب ترك، وكلاهما إما جازم أو غير جازم وإما أن يكون فيه تخيير بين الفعل والترك، وبيانها كالآتي:
١- فالخطاب بطلب الفعل الجازم: إيجاب، ومتعلقه: واجب.
٢- والخطاب بطلب الفعل غير الجازم: ندب، ومتعلقه: مندوب.
٣- والخطاب بطلب الترك الجازم: تحريم، ومتعلقه: محرم.
٤- والخطاب بطلب الترك غير الجازم: كراهة، ومتعلقه: مكروه.
٥- والخطاب بالتخيير بين الفعل والترك: إباحة، ومتعلقه: مباح.
تنبيه: جرى الأصوليون على عد المباح من أقسام الحكم التكليفي وفي ذلك تسامح إذ المباح لا تكليف فيه لاستواء طرفيه.
الواجب
الواجب في اللغة: اللازم والثابت قال الله تعالى: ﴿فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها﴾ أي سقطت واستقرت على الأرض، وقال الشاعر:
أطاعت بنو بكر أميرًا نهاهموا عن السلم حتى كان أول واجب
وفىِ الاصطلاح: هو ما يثاب فاعله امتثالا ويستحق تاركه العقاب.
تقسيمات الواجب
ينقسم أولا بحسب فاعله إلى فرض عين وفرض كفاية لأنه:
أ- إما أن يكون مطلوبا من كل فرد بعينه كالصلوات الخمس فهو فرض عين.
ب- أو يكتفي فيه بفعل البعض كصلاة الجنازة فهو فرض كفاية.
وذلك لأن الشارع لا ينظر إلى الأخير من حيث الفاعل بل من حيث وجود الفعل ممن كان هو.
وثانيا: بحسب وقته المحدد له: إِلى مضيق وموسع لأنه:
أ- إن كان الوقت المحدد لفعله بقدره فقط فمضيق. كوقت الصيام في رمضان فإن الصوم يستغرق ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس فلا يمكن صيام نفل معه وكذلك آخر الوقت إذا لم يبق إلا ما تؤدى فيه الفريضة كقبيل طلوع الشمس بالنسبة إلى الصبح أو قبيل غرويها بالنسبة إلى العصر.
1 / 3
ب- وإن كان يسعه ويسع غيره من جنسه معه فموسع كأوقات الصلوات الخمس فإن وقت كل صلاة يسعها ويسع غيرها معها من النوافل.
وثالثًا: بحسب الفعل: إلى معين ومبهم لأنه:
أ- إن كان الفعل مطلوبًا بعينه لا يقوم غيره مقامه كالصلاة والصوم والحج ونحوها فمعين.
ب- وإن كان الفعل مبهما في أشياء محصورة يجزي واحد منها كخصال الكفارة من عتق أو إطعام أو صوم فمبهم إذ الواجب واحد لا بعينه.
المندوب
المندوب لغة: اسم مفعول من الندب وهو الدعاء إلى الفعل كما قال الشاعر:
لايسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وفي الاصطلاح: ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ويطلبه الشارع طلبا غير جازم.
وهو مرادف للسنة والمستحب والتطوع.
ومذهب الجمهور أن المندوب مأمور به، ومن أدلتهم قوله تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإِحسان وإيتاء ذي القربى﴾، وقوله: ﴿وأمر بالمعروف﴾ وقوله: ﴿وأمر بالعرف﴾ ومن هذه الأشياء المأمور بها ما هو مندوب، ومنها: أن الأمر استدعاء وطلب والمندوب مستدعي ومطلوب. فيكون مأمورًا به.
المحظور
المحظور لغة: الممنوع، واصطلاحا: ما يثاب تاركه امتثالا ويستحق فاعله العقاب، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والدخان وحلق اللحى ونحو ذلك، ويسمى محرمًا ومعصية وذنبا وحجرا.
المكروه
المكروه لغة: ضد المحبوب قال الله تعالى: ﴿ولكن الله حبب إليكمٍ الِإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان﴾، واصطلاحا هو: ما يقتضي الثواب على تركه امتثالا لا العقاب على فعله كتقديم الرجل اليسرى عند دخول المسجد، واليمنى عند الخروج منه.
المباح
المباح لغة: كل ما لا مانع دونه كما قيل:
ولقد أبحنا ما حميـ ت ولا مبيح لما حمينا
وفي الاصطلاح هو: ما كان الخطاب فيه بالتخيير بين الفعل والترك فلم يثب على فعله ولم يعاقب على تركه كالأكل والنوم والاغتسال للتبرد ومحل ذلك ما لم تدخله النية فإن نوى بالمباح خيرًا كان له به أجر.
أقسام الحكم الوضعي
1 / 4
١- السبب
السبب في اللغة ما توصل به إلى غيره، واصطلاحا: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته كزوال الشمس فإنه سبب في وجوب صلاة الظهر وكملك النصاب فإنه سبب في وجوب الزكاة وكالولاء والنسب في الميراث.
٢- الشرط
الشرط لغة: واحد الشروط مأخوذ من الشرط- بالتحريك- وواحد الأشراط والمراد به العلامة.
وفي الاصطلاح: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. كالطهارة مثلا فإنها شرط في صحة الصلاة فيلزم من عدم وجود الطهارة عدم وجود الصلاة الشرعية، ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة، إذ قد يكون الإنسان متطهرًا ويمتنع من فعل الصلاة.
٣- المانع
المانع في اللغة: الحاجز، واصطلاحًا: هو ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته، كالقتل في الميراث، والحيض في الصلاة، فإن وجد القتل امتنع الميراث، وإن وجد الحيض امتنعت الصلاة وقد ينعدمان ولا يلزم ميراث ولا صلاة، فهو بعكس الشرط إذ الشرط يتوقف وجود المشروط على وجوده، والمانع ينفى وجوده.
ولكي يتبين لك الفرق بين السبب والشرط والمانع، أنظر في زكاة المال مثلا تجد سبب وجوبها وجود النصاب ويتوقف ذلك الوجوب على حولان الحول فهو شرط فيه، وإن وجد دين منع وجوبها فهو مانع لذلك الوجوب على القول بأن الدين مانع.
الصحيح والفاسد
الصحيح لغة: ضد السقيم، وفي الاصطلاح: ما يتعلق به اعتداد في العبادات، ونفوذ في المعاملات، كأن تقع الصلاة مثلا مستوفاة شروطها تامة أركانها مع انتفاء الموانع ولو في اعتقاد الفاعل وكذلك البيع يقع من جائز التصرف على مباح مقدور على تسليمه مملوك في نفس الأمر، فلو باع ما يظن أنه ملك غيره فبان أنه ملكه صح البيع، إذ المعاملات مبناها على ما في نفس الأمر والعبادات على ما في اعتقاد الفاعل.
1 / 5
والفاسد لغة: المختل، وفي الاصطلاح: ما لا اعتداد به في العبادات كإيقاع الصلاة المفروضة قبل دخول وقتها، ولا نفوذ له في المعاملات كبيع مالا يملك مثلا.
ويرادفه الباطل إلا عند أبي حنيفة فيغاير بينهما، إذ الفاسد عنده ما شرع بأصله ومنع بوصفه كبيع مد قمح بمد قمحِ ودرهم، فبيع مد بمد صحيح مشروع بأصله فلو رفع الدرهم صح البيع نظرا إلى أصل مشروعيته.
الرخصة والعزيمة
العزيمة لغة: القصد المؤكد.
واصطلاحًا: الحكم الثابت بدليل شرعي خال من معارض راجح كتحريم الزنا في المنهيات ووجوب الصلاة في المأمورات.
والرخصة لغة: اللين والسهولة يقال شيء رخص: أي لين.
واصطلاحًا: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، كتيمم المريض لمرضه مع وجود الماء وأكل الميتة عند الاضطرار.
فالتيمم ثبت على خلاف دليل شرعي وهو قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم﴾ الآية. لمعارض راجح وهو قوله تعالى: ﴿وإن كنتم مرضى أو على سفر﴾ الآية. وكذلك أكل المضطر للميتة على خلاف دليل شرعي هو قوله تعالى: ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ وقد أجيز لدليل راجح عليه وهو قوله تعالى: ﴿فمن اضطر في مخمصة﴾ الآية. فدفعه بأكل الميتة عن نفسه الجوع المفضي إلى الهلاك أرجح بلا شك من مطلق تضرره بخبثها.
أقسام اللفظ من حيث الدلالة
اللفظ من حيث هو دال على المعنى له حالات:
١- ألا يحتمل إلا معنى واحدا كقوله تعالى: ﴿تلك عشرة كاملة﴾ .
وقوله: ﴿فتم ميقات ربه أربعين ليلة﴾ ومثل هذا يسمى "نصًا" مأخوذ من منصة العروس ومعناه في اللغة الرفع.
٢- أن يحتمل أكثر من معنى على السواء كما في "قرء وعين "ويسمى "مجملا".
٣- أن يحتمل أكثر من معنى ولكنه في أحدها أرجح منه في غيره فالراجح يسمى "ظاهرًا ". كقولك "رأيت اليوم أسدًا " فهو محتمل للحيوان المفترس وللرجل الشجاع ولكنه في الأول أرجح.
1 / 6
٤- وإن حمل على المعنى المرجوح فهو المؤول كحمل لفظ "الأسد" على الرجل الشجاع كما في المثال السابق. ولابد في حمله على المعنى المرجوح من قرينة وإلا كان باطلا.
ووجه الحصر في هذه الأقسام: أن اللفظ إما أن يحتمل معنى واحدًا فقط أو أكثر فالأول النص، والثاني إما أن يكون في أحد المعنيين أو المعاني أظهر منه في غيره أولا بأن يكون على السواء فالأول الظاهر ومقابله المؤول والثاني المجمل.
حكم هذه الأقسام
١- لا يعدل عن النص إلا بنسخ.
٢- لا يعمل بالمجمل إلا بعد البيان.
٣- لا يترك الظاهر وينتقل إلى المؤول إلا لقرينة قوية تجعل الجانب المرجوح راجحًا.
مثاله: لفظ " الجار" في حديث " الجار أحق بصقبه " فإنه راجح في المجاور مرجوح في الشريك فحمله الحنابلة على الشريك مع أنه مرجوح لقرينة قوية وهي قوله ﷺ: "فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " فقالوا: لا ضرب لحدود ولا صرف لطرق إلا في الشركة أما الجيران فكل على حدوده وطرقه، ولهذا قالوا: لا شفعة لجار.
المجمل والمبين
(١) المجمل
تعريفه: أ- لغة: هو ما جمع وجملة الشيء مجموعه كجملة الحساب.
ب- واصطلاحًا: ما احتمل معنيين أو أكثر من غير ترجح لأحدهما أو أحدها على غيره.
الأمثلة: من ذلك لفظ القرء، فهو متردد بين معنيين على السواء: الطهر والحيض بدون ترجح لأحدهما على الآخر ولهذا التردد وقع الخلاف في المراد بالقرء في قوله تعالى: ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ فحمله الشافعي ومالك على الطهر، وأبو حنيفة وأحمد حملاه على "الحيض ".
أنواع الإجمال
قد يكون الإجمال في مركب أو مفرد، والمفرد يكون اسمًا أو فعلًا أو حرفًا، وقد يكون لاختلاف في تقدير حرف محذوف.
الأمثلة: ١- الإجمال في المركب كقوله تعالى: ﴿إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح﴾ . لاحتمال أن يكون الزوج وأن يكون الولي. ولذا حمله أحمد والشافعي على الزوج؛ وحمله مالك على الولي.
1 / 7
٢- الإِجمال في المفرد:
أ- الإجمال في الاسم: تقدم منه لفظ "القرء" ومثله لفظ "العين " للجارحة والجارية والنقد.
ب- الإِجمال في الفعل: كقوله تعالى: ﴿والليل إذا عسعس﴾ لتردده بين أقبل وأدبر.
جـ- الإِجمال في الحرف: كقوله تعالى: ﴿فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه﴾ لاحتمال من للتبعيض ولابتداء الغاية ولذا حمله أحمد والشافعي على الأول، وحمله مالك وأبو حنيفة على الثاني.
٣- الإِجمال بسبب الخلاف في تقدير الحرف المحذوف كقوله تعالى: ﴿وترغبون أن تنكحوهن﴾ . لأن الحرف المقدر بعد ترغبون يحتمل أن يكون " في " أي ترغبون في نكاحهن لجمالهن، ويحتمل أن يكون "عن " أي ترغبون عن نكاحهن لفقرهن ودمامتهن.
العمل في المجمل: ينظر أولًا هل هناك قرائن أو مرجحات لأحد المعاني أولا فإن وجدت عمل بها، وإلا ترك الاستدلال به ولذا قيل: إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.
(نصوص ليست مجملة)
ا- التحريم المضاف إلى الأعيان كقوله تعالى: ﴿حرمت عليِكم أمهاتكم﴾ وقوله: ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ ليست بمجمل لظهوره عرفاَ في النكاح في الأول، وفي الأكل في الثاني.
٢- قوله تعالى: ﴿وامسحوا برؤوسكم﴾ ليس بمجمل بل هو ظاهر في مسح جميع الرأس لأن الرأس اسم للكل لا للبعض.
٣- قوله ﷺ: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " ليس بمجمل إذ المراد به رفع المؤاخذة لأن ذات اخطأ والنسيان، غير مرفوعة. وضمان المتلف خطأ أو نسيانًا غير مرفوع إجماعًا فلم يبق إلا رفع المؤاخذة.
٤- قوله ﷺ: "لا صلاة إلا بطهور"، "لا نكاح إلا بولي"، "لا صيام لمن لم يبيت الصيامِ من الليل" ونحو ذلك ليس بمجمل لأن المراد نفي الصحة والاعتداد شرعا.
٥- قوله ﷺ: "لا عمل إلا بنية" ليس بمجمل لأن العمل:
أ - إن كان عبادة فالمراد فيه الصحة والاعتداد شرعًا.
1 / 8
ب- وإن كان معاملة فهو يصح ويعتد به دون النية إجماعًا، والنفي فيه ينصب على انتفاء الأجر. فمن رد الأمانة والمغصوب مثلا لا يريد وجه الله فإن المطالبة تسقط عنه ويصح فعله ويعتد به ولكن لا أجر له، وكذلك جميع التروك.
(٢) - المبين
أ- المبين "بالفتح " بمعنى البين الواضح وهو المقابل للمجمل لأنه المتضح معناه فلا يفتقر إلى بيان من خارج. ويسمى البيان أيضًا.
ب- والمبين "بالكسر" على زنة اسم الفاعل هو الموضح لإجمال المجمل.
- وهو اصطلاحًا: الكاشف عن المراد من الخطاب، وعلى هذا درج أكثر الأصوليين فخصوا البيان بإيضاح ما فيه من خفاء. ومنهم من يطلقه على كل إيضاح سواء تقدمه خفاء أم لا.
ما يقع به البيان
يقع البيان بالقول تارة وبالفعل تارة وبهما معا وقد يكون بترك الفعل ليدل على عدم الوجوب.
البيان بالقول:
١- كتاب بكتاب قال تعالى: ﴿إلا ما يتلى عليكم﴾ فهذا مجمل بينه الله بقوله: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم﴾ الآية.
٢- كتاب بسنة قال تعالى: ﴿وآتوا حقه يوم حصاده﴾ فحقه مجمل بينه ﷺ بقوله: "فيما سقت السماء العشرة وفيما سقى بالنضح نصف العشر".
البيان بالفعل:
أ- يكون بصورة العمل كصلاته ﷺ فوق المنبر ليبين للناس ولذا قال لهم: "صلوا كما رأيتموني أصلى". وكقطعه يد السارق من الكوع.
ب- ويكون بالكتابة ككتابته ﷺ أسنان الزكاة لعماله عليها.
جـ- ويكون بالإشارة كقوله: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا". وأشار بأصابع يديه وقبض الإبهام في الثالثة يعنى تسعة وعشرين يومًا.
البيان بترك الفعل: كتركه ﷺ التراويح في رمضان بعد أن فعلها وكتركه الوضوء مما مست النار، مما دل على عدم الوجوب فيهما.
مراتب البيان:
مراتبه متفاوتة فأعلاها ما كان بالخطاب ثم بالفعل: ثم بالإشارة، ثم بالكتابة ومعلوم أن الترك قصدًا فعل.
1 / 9
تأخير البيان عن وقت الحاجة وإليه
تأخير البيان على قسمين:
١- تأخير إلى أن يأتي وقت العمل، فهذا جائز وواقع فقد فرضت الصلاة ليلة الإسراء مجملة وتأخر بيانها إلى الغد حتى جاء جبريل وبينها، وقد علم رسول الله ﷺ أن المراد بقوله تعالى في خمس الغنيمة: ﴿ولذي القربى﴾ بنو هاشم وبنو عبد المطلب دون إخوانهم من بنى نوفل وعبد شمس مع أن الكل أولاد عبد مناف فأخر بيانه حتى سأله جبير بن مطعم النوفلي وعثمان بن عفان العبشمي ﵄ فقال: أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا في إسلام، وكذا آيات الصلاة والزكاة والحج بينتها السنة بالتراخي والتدريج، ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه﴾ . وثم للتراخي إلى غير ذلك من الأدلة.
٢- تأخير عن وقت الحاجة، فهذا لا يجوز لأنه يلزمه تكليف المخاطب بما لا يطيق وهو غير جائز.
منزلة المبين من المبين
لا يشترط في المبين- باسم الفاعل- أن يكون أقوى سندًا أو دلالة من المبين- باسم المفعول- بل يجوز بيان المتواتر بأخبار الآحاد، والمنطوق بالمفهوم.
الأمثلة:
أ- بيان الكتاب بالسنة كقوله تعالى: ﴿فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره﴾، بين ﷺ نكاح الزوج الثاني بأنه الوطء بقوله لامرأة رفاعة القرظي: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " وقوله تعالى: ﴿واعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾، بينه ﷺ بقوله: "ألا إن القوة الرمي"، ويدل لبيان الكتاب بالسنة قوله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ .
ب- وبيان المنطوق بالمفهوم كبيان منطوق قوله تعالى في سورة النور: ﴿والزاني﴾، بمفهوم الموافقة في قوله تعالى: ﴿فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب﴾ فإن مفهوم موافقته أن العبد كالأمة في ذلك يجلد خمسين جلدة فبين هذا المفهوم أن المراد بالزاني في سورة النور خصوص الحر.
لا يشترط في البيان أن يعلمه كل إنسان
1 / 10
ليس من شرط البيان أن يعلمه جميع المكلفين الموجودين في وقته بل يجوز أن يكون بعضهم جاهلا به فإنه يقال بين له غير أنه لم يتبين مثال ذلك أن النبي ﷺ بين أن عمل قوله تعالى: ﴿يوصيكم الله في أولادكم﴾، لا يتناول الأنبياء بقوله: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث " فلا يقدح في هذا البيان أن فاطمة ﵂ لم تعلم به وجاءت إلى أبي بكر تطلب ميراثها منه ﷺ.
تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز
في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ثلاثة آراء
أعلم أولًا أن للناس في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ثلاثة آراء:
١- منع هذا التقسيم أصلا وأنه لا مجاز لا في القرآن ولا في اللغة العربية، ومن الذاهبين إلى ذلك أبو إسحق الإِسفرائيني وقد نصر هذا القول شيخ الإِسلام ابن تيمية في كتاب الإِيمان فقال: إن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو مثل: الخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم إلى- أن قال- وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في أصول الفقه لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز.
٢- منع وجود المجاز في القرآن دون اللغة ونسبه في كتاب الإيمان إلى أبي الحسن الجزري وابن حامد من الحنابلة ومحمد بن خويزمنداد من المالكية وإلى داود بن علي الظاهري وابنه أبي بكر.
٣- وقوع المجاز في اللغة وفي القرآن وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهم من الحنابلة ورجحه ابن قدامة في روضة الناظر ونسبه الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن إلى الجمهور وإليك كلاما موجزا يتعلق بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز عند من يرى ذلك التقسيم:
1 / 11
الحقيقة
الحقيقة لغة: مأخوذة من الحق بمعنى الثابت على أنه بمعنى فاعل أو المثبت على أنه بمعنى مفعول.
واصطلاحًا: اللفظ المستعمل فيما وضع له ابتداء في اصطلاح التخاطب، كلفظ أسد، في الحيوان المفترس. وشمس في الكوكب المضيء، وكلمة.. في اصطلاح التخاطب.. تبين لنا أصل تقسيمهم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام:
١- لغوية ... ... ٢- عرفية ... ... ... ٣- شرعية
الحقيقة اللغوية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اللغة كأسد في الحيوان المفترس.
الحقيقة العرفية: وتكون عامة وخاصة.
أ- فالعرفية العامة: ما تعارف عليه عامة أهل اللغة بغلبة استعمال اللفظ في بعض مدلوله أو بتغليب المجاز على الحقيقة.
فالأول: أن يكون اللفظ قد وضع في أصل اللغة لمعنى عام ثم خصصه العرف ببعض مسمياته كلفظ "دابة" فإن أصله لكل ما دب على وجه الأرض غير أن العرف خصصه بذوات الأربع.
والثاني: أن يكون اللفظ في أصل اللغة لمعنى ثم يشتهر في عرف الاستعمال في المعنى المجازي بحيث لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه غيره كلفظ " الغائط " فإنه في أصل الوضع للمكان المطمئن من الأرض ثم نقل عنه إلى الفضلة الخارجة من الإِنسان. وكلفظ " الراوية" فإنه في الأصل للبعير الذي يستقى عليه ثم نقل عنه إِلى المزادة.
ب- والعرفية الخاصة: ما تعارف عليه بعض الطوائف من الألفاظ التي وضعها لمعنى عندهم كتعارف أهل النحو على استعمال الرفع والنصب وأدوات الجر في معان اصطلحوا عليها: وكتعارف أهل البلاغة على المسند والمسند إليه ونحو ذلك.
الحقيقة الشرعية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في الشرع كالصلاة للعبادة المخصوصة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، وكّالإيمان، للاعتقاد والقول والعمل.
المجاز
المجاز: وهو لغة مكان الجواز أو الجواز على أنه مصدر ميمي.
وفي الاصطلاح قسمان: لغوي وعقلي.
أ- فالمجاز اللغوي هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا لعلاقة مع قرينة.
1 / 12
مثاله: لفظة "الأسد" في الرجل الشجاع فإنها استعملت في غير ما وضعت له أولًا إذا وضع الأول لها إنما هو في الحيوان المفترس واستعمالها في الرجل الشجاع بالوضع الثاني بسبب التجوز بها عن محلها الأول.
العلاقة والغرض منها: واشتراط العلاقة يخرج استعمال اللفظ في غير ما وضع له بطريق السهو أو الغلط كقولك: خذ هذا القلم وتشير إلى كتاب مثلًا، أو بطريق القصد ولكنِ لا مناسبة بين المعنيين كقولك: خذ هذا الكتاب أو اشتريت كتابًا تريد تفاحاَ أو ثوبًا إذ لا مناسبة بين الكتاب والتفاح ولا بين الكتاب والثوب.
والغرض من العلاقة: انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنىِ الثاني عن طريقها فهي كالجسر للذهن يعبر عليها كما في قولك: رأيت أسدًا يرمى، فإن جسر الانتقال من الحيوان المفترس إلى الرجل الشجاع إنما هي الشجاعة التي تربط بين المعنيين في قولك: حيوان مفترس ورجل شجاع.
أقسام العلاقة: والعلاقة إما المشابهة كمشابهة الرجل الشجاع للأسد في الشجاعة في المثال المتقدم لأنها معنى مشترك بينهما.
وإما غير المشابهة كقولهم "بث الأمير عيونًا له في المدينة" أي جواسيس. وكل مجاز علاقته المشابهة يسمى "استعارة " لأنك شبهت ثم استعرتِ لفظ المشبه به وأطلقته على المشبه وكل مجاز علاقته غير المشابهة يسمى "مجازاَ مرسلا" لأنه أرسل عن قيد المشابهة.
والعلاقات بغير المشابهة متعددة لأنها تعم كل مناسبة أو ملابسة بين المعنيين تصحح نقل اللفظ من معناه الأول إلى الثاني كالكلية والجزئية فالأولى كأن تطلق الكل وتريد الجزء كما تقول: قبضت الشرطة على اللص إذ القبض لم يحصل من جميع الشرطة وإنما حصل من بعضهم والثانية كإطلاق العين وإرادة كل الِإنسان في المثال المتقدم للجاسوس.
وكالسببية أو المسببية فالمسببية أن تطلق السبب وتريد المسبب كأن تقوله: "رعينا الغيث" والمسببية أن تطلق المسبب وتريد السبب كأن تقول: "أمطرت السماء ربيعًا".
1 / 13
وكالحالية بأن تطلق الحال وتريد المحل أو المحلية بأن تطلق المحل وتريد الحال فيه إلى غير ذلك.
والمجاز اللغوي يكون مفردًا ومركبًا:
١- فالمفرد هو: ما كان في اللفظ المفرد وتقدمت أمثلته.
٢- والمركب: ما كان في الجمل فإن كانت العلاقة فيه المشابهة سمي استعارة تمثيلية وإلا فمجاز مركب مرسل كتشبيه صورة بصورة ونقل الدال على الصورة المشبه بها وإطلاقها على الصورة المشبهة كقولك لمتردد في أمر: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
وقولك لمن جمع خصلتين ذميمتين كشرب الدخان وحلق اللحى مثلا: أَحَشَفًا وسوء كيلة.
ب- المجاز العقلي: ويكون المجاز عقليًا إذا كانت الألفاظ مستعملة في حقائقها ولكن التجوز حصل في الإِسناد كقولك: بنى الأمير القصر، فبنى والأمير والقصر مستعملة في حقائقها ولكن التجوز حصل بنسبة البناء إلى الأمير إذ الباني له حقيقة العمال.
الأمر
يطلق لفظ الأمر إطلاقين:
الأول: على طلب الفعل كقوله تعالى: ﴿وأمر أهلك بالصلاة﴾ وهذا الأمر يجمع على أوامر.
الثاني: على الفعل والحال والشأن كقوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر﴾
وهذا الأمر يجمع على أمور والمراد هنا: الأول لما فيه من الطلب.
والأمر في الاصطلاح: استدعاء فعل بالقول الدال عليه على سبيل الاستعلاء وأكثر الأصوليين لا يشترط العلو ولا الاستعلاء في الأمر واستشهدوا بقول عمرو بن العاصِ لمعاوية:
أمرتك أمرًا جازماَ فعصيتني وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وكان خارجًا على معاوية فظفر به ثم عفا عنه، فخرج عليه مرة أخرى، ومعلوم أنه ليس هناك علو ولا استعلاء من عمرو على معاوية، وكذلك قوله تعالى حكاية عن فرعون لقومه: ﴿فماذا تأمرون﴾ .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه حين منحهم سلطة إبداء الرأي كان ذلك إعلاء لهم.
صيغه
وللأمر صيغ تدل على طلب الفعل إذا تجردت عن القرائن الصارفة عنه وهي أربع:
١- فعل الأمر: مثل: أقم الصلاة، استغفروا ربكم، يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين.
1 / 14
٢- المضارع المجزوم بلام الأمر: مثل قوله تعالى: ﴿ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ .
٣- اسم فعل الأمر: مثل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم﴾ .
٤- المصدر النائب عن فعل الأمر: مثل قوله تعالى: ﴿فضرب الرقاب﴾ .
صيغ تفيد ما تفيده صيغ الأمر
تقدم ذكر صيغ الأمر الأصلية، وهناك صيغ أخرى تدل على الأمر بالشيء وطلب إيجاده ومن هذه الصيغ: التصريح بلفظ الأمر مثل: آمركم وأمرتكم أنتم مأمورون؟ وكذا التصريح بالإيجاب؛ والفرض والكتب؛ ولفظة حق على العباد وعلى المؤمنين؛ وكذا ما فيه ترتيب الذم والعقاب على الترك أو إحباط العمل بالترك ونحو ذلك.
هذا هو رأى الجمهور واستدلوا بإجماع أهل اللغة على تسمية ذلك أمرًا فإن السيد إذا قالت لعبده: "اعطني كذا " عد آمرًا وعد العبد مطيعًا إن فعل وعاصيًا إن ترك.
وذهب الأشاعرة ومن وافقهم إلى أن الأمر ليست له صيغة لفظية لأن الكلام عندهم المعنى القائم بالنفس دون اللفظ وإنما جعل اللفظ ليعبر به عن المعنى النفسي ويدل عليه. وهذا الرأي باطل لمخالفة الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى لزكريا: ﴿آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًا﴾ فإنه لم يسم المعنى الذي قام بنفس زكريا وأفهمه قومه بالإشارة إليهم: كلاما.
وأما السنة فقوله ﷺ: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمله"، ففرق بين المعنى القائم بالنفس والكلام وأخبر برفع المؤاخذةْ في الأول دون الثاني.
الحكم الذي تقتضيه صيغة الأمر عند الإِطلاق
1 / 15
إذا وردت صيغة الأمر مجردة عن القرائن الدالة على المراد بها اقتضت الوجوب وهو قول الجمهور وعليه دلت الأدلة كقوله تعالى لإِبليس: ﴿ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك﴾ وقوله: ﴿وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون﴾ وقوله: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم﴾ وقوله: ﴿أفعصيت أمري﴾ وقوله: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم﴾ إلى غير ذلك إذ لا خلاص للمأمور من الوعيد ولا نجاة له من العذاب ولا من عار العصيان إلا بالامتثال ويدل لذلك أيضًا أن الصحابة ﵃ كانوا يستدلون بالأمر على الوجوب ولم يقع بينهم خلاف في ذلك فكان إجماعًا وكذلك إطباق أهل اللغة على ذم العبد الذي لمِ يمتثل أمر سيده ووصفه بالعصيان، ولا يذم ويوصف بالعصيان إلا من كان تاركا لواجب عليه.
الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به
إذا كان الواجب المطلق يتوقف وجوده على شيء فإن الأمر يشمله أيضًا ضرورة توقف حصول الواجب عليه كالطهارة فإن الأمر بالصلاة يشملها وهذا معنى قولهم " الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به " وليس معنى ذلك أن وجوبه جاء ضمنًا بدون دليل مستقل، بل له أدلة أخرى، غير أن الأمر الخاص بذلك الواجب يقتضي وجوب ما توقف الواجب عليه.
هذا في الواجب المطلق فإن وجوب الصلاة مثلا غير مشروط بقيد فيكون الأمر بها مقتضيًا الأمر بما لا يتم إلا به وهو الطهارة.
أما في الواجب المقيد فليس كذلك كالزكاة فإن وجوبها مقيد بملك النصاب فليس الأمر بها أمرًا بتحصيل النصاب ليتم وجوب إخراجها بإمتلاكه، لأن ذلك إتمام للوجوب لا للواجب، ولذا يقولون: مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب،
ومالا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، والصلاة قد استقر وجوبها، أما الزكاة فلا تجب حتى يحصل النصاب.
استعمال صيغة الأمر في غير معناها الأصلي
1 / 16
قد تخرج صيغة الأمر عن معناها الأصلي إلى معان ترشد إليها القرائن ومن ذلك ما يأتي:
١- للإِباحة مثل قوله تعالى: ﴿كلوا واشربوا﴾ .
٢- وللتهديد مثل قوله تعالى: ﴿اعملوا ما شئتم﴾ .
٣- وللامتنان مثل قوله تعالى: ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ .
٤- وللإكرام مثل قوله تعالى: ﴿أدخلوها بسلام آمنين﴾ .
٥- وللتعجيز مثل قوله تعالى: ﴿فأتوا بسورة من مثله﴾ .
٦- وللتسوية مثل قوله تعالى: ﴿واصبروا أو لا تصبروا﴾ .
٧- وللاحتقار مثل قوله تعالى: ﴿القوا ما أنتم ملقون﴾ .
٨- وللمشورة مثل قوله تعالى: ﴿فانظر ماذا ترى﴾ .
٩- وللاعتبار مثل قوله تعالى: ﴿انظروا إلى ثمره إذا أثمر﴾ .
١٠- وللدعاء مثل قولك: ﴿رب اغفر لي﴾ .
١١- وللالتماس: مثل قولك لزميلك: ﴿ناولني القلم﴾ .
إلى غير ذلك من المعاني المتنوعة.
تكرار المأمور به أو عدم تكراره
في هذا البحث ثلاث صور: لأن الأمر إما أن يقيد بما يفيد الوحدة أو بما يفيد التكرار أو يكون خاليًا عن القيد.
فالأول: يحمل على ما قيد به، والقيد إما صفة أو شرط، فالقيد بصفة كقوله تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾ وفكلما حصلت السرقة وجب القطع ما لم يكن تكرارها قبله، والمقيد بشرط كقوله ﷺ: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ".. الخ.
والثاني: يحمل على ما قيد به أيضًا كقوله تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾ وقد سئل رسول الله-ﷺ أفي كل عام يارسول الله؟ فأجاب بما يدل على أنه في العمر مرة فيحمل في الآية على الوحدة لهذا القيد.
أما الثالث: وهو الخالي عن القيد فالأكثرون على عدم إفادته التكرار لأنه لمطلق إيجاد الماهية والمرة الواحدة تكفى فيه فمثلا لو قال الزوج لوكيله "طلق زوجتي " لم يملك إلا تطليقة واحدة ولو أمر السيد عبده بدخول الدار مثلا برأت ذمته بمرة واحدة ولم يحسن لومه ولا توبيخه.
الأمر المطلق يقتضي فعل المأمور به على الفور
1 / 17
إذا وردت صيغة الأمر خالية مما يدل على فور أو تراخ اقتضت فعل المأمور به فورا في أول زمن الإِمكان لقيام الأدلة على ذلك كقوله تعالى: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم﴾ وقوله: ﴿سابقوا إلى مغفرة من ربكم﴾ وقوله: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ وكمدحه المسارعين في قوله: ﴿أولئك يسارعون في الخيرات﴾ . ووجه دلالة هذه النصوص أن وضع الاستباق والمسابقة والمسارعة للفورية.
وكذم الله تعالى لإبليس على عدم المبادرة بالسجود بقوله تعالى: ﴿ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك﴾ أي في قوله تعالى: ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس﴾، ولو لم يكن الأمر للفور لما استحق الذم ويدل لذلك من جهة اللغة: أن السيد لو أمر عبده فلم يمتثل فعاقبه فاعتذر العبد بأن الأمر على التراخي لم يكن عذره مقبولا عندهم.
وما استدل به القائلون بأنه على التراخي من تأخير النبي ﷺ الحج إلى سنة عشر مدفوع بكون النبي ﷺ يحتمل أنه أخره، لأغراض منها: كراهيته لمشاهدة ما كان المشركون يفعلونه في الحرم مما فيه مخالفة للشريعة، فلما أذن مؤذنوه في السنة التاسعة ببراءة الله ورسوله من المشركين ومنعهم من قربان الحرم وطهر الله مكة من أدران الشرك حج ﵊.
من يدخل في خطاب التكليف ومن لا يدخل
الناس على قسمين:
١- قسم لم يكتمل إدراكه، وذلك إما لعدم البلوغ كالصغير أو لفقدان العقل كالمجنون، أو لتغطيته كالسكران أو لذهوله كالساهي.
٢- قسم مكتمل الإدراك، وهو البالغ العاقل السالم من العوارض المتقدمة فالقسم الأول لا يدخل في نطاق التكليف ولا يشمله الخطاب بدليل العقل والنقل.
أ- أما من جهة العقل فلأن الأمر يقتضي الامتثال ومن لم يدرك أمرًا لا يتأتي منه امتثاله.
ب- وأما من جهة النقل فلحديث "رفع القلم عن ثلاثة" الحديث.
1 / 18
ولا يعترض على هذا بتضمين ما أتلفه لأن ضمان حق الغير يستوي فيه العاقل ونجير العاقل حتى لو أتلفته بهيمة لزم صاحبها ضمانه.
وأما القسم الثاني: فهم إما مسلمون أو غير مسلمين، والخطاب إما بأصل كالعقائد وإما بفرع كالصلاة والصيام ونحو ذلك.
أ- فالخطاب بأصل يشملهما إتفاقا.
ب- والخطاب بفرع فيه خلاف والصحيح دخول الكفار فيه كالمسلمين، ومن أدلة ذلك قوله تعالى عن الكفار: ﴿ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين﴾ فذكروا من أسباب تعذيبهم تركهم لما أمروا به من الفروع كتركهم الصلاة والزكاة وارتكابهم لما نهوا عنه بخوضهم مع الخائضين، ولم يقتصروا على ذكر السبب الأكابر وهو تكذيبهم بيوم الدين.
ومنها رجمه ﷺ اليهوديين، وكذلك قوله تعالى: ﴿الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدنا هم عذابًا فوق العذاب﴾ . وكما أن المؤمن يثاب على إيمانه وعلى امتثاله الأوامر واجتناب النواهي فكذلك الكافر يعاقب على ترك التوحيد وعلى ارتكاب النواهي وعدم امتثال الأوامر.
النهي
تعريفه: أ - لغة المنع. ومنه سمي العقل نهية لأنه ينهى صاحبه ويمنعه من الوقوع فيما لا يليق.
ب - واصطلاحًا: طلب الكف عن فعل على سبيل الاستعلاء، بغير كف ونحوها.
مثال قوله تعالى: ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾، وقوله: ﴿لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون﴾ .
صيغته: "كل مضارع مجزوم بلا " ولا يدخل في ذلك: كف، أو خل،
أو ذر، أو دع مما جاء لطلب الكف كما في قوله تعالى: ﴿وذروا ظاهر الِإثم وباطنه﴾ ﴿ودع أذاهم﴾ ﴿فخلوا سبيلهم﴾ لأنها وإن كانت تفيد طلب الكف إلا أنها بصيغة الأمر.
مقتضى النهي: التحريم حقيقة بالاتفاق لقوله ﷺ: " وما نهيتكم عنه فاجتنبوه".
صيغ تفيد ما تفيده صيغة النهي
1 / 19
ويلتحق بصيغة النهي في إفادة التحريم: التصريح بلفظ التحريم، والنهي والحظر والوعيد على الفعل، وذم الفاعل، وإيجاب الكفارة بالفعل، وكلمة ما كان لهم كذا ولم يكن لهم. وكذا ترتيب الحد على الفعل وكلمة "لا يحل " ووصف الفعل بأنه فساد أو أنه من تزيين الشيطان وعمله. وأنه تعالى لا يرضاه لعباده، ولا يزكى فاعله، ولا يكلمه ولا ينظر إليه ونحو ذلك.
ورود صيغة النهي بغير التحريم
١- ترد للكراهية كالنهي عن الشرب من فم القربة.
٢- وترد للدعاء إن كان من أدنى لأعلى مثل: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
٣- وترد للإرشاد مثل قوله تعالى: ﴿لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم﴾ .
وعلى العموم فإنها ترد لكثير مما يرد له الأمر غير أن الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الكف.
أحوال النهي
أحوال النهي أربع وهي:
١- أن يكون النهي عن شيء واحد فقط وهو الكثير كالنهي عن الزنا مثلا.
٢- أن يكون النهي عن الجمع بين متعدد، وللمنهي أن يفعل أيها شاء على انفراده، كالجمع بين الأختين. والجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها.
٣- أن يكون النهي عن التفريق بين شيئين أو أكثر دون الجمعِ كالتفريق بين رجليه بنعل إحداهما دون الأخرى. بل على المنهي أن ينعلهما معا أو يحفيهما معًا.
٤- أن يكون النهي عن متعدد اجتماعا وافتراقًا مثل قوله تعالى: ﴿ولا تطع منهم آثمًا أو كفورا﴾ . فلا تجوز طاعتهما مجتمعين ولا مفترقين، ومن أمثلة ذلك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. على جزم الفعلين، فإن النهي منصب على الأكل والشرب اجتماعا وافتراقًا، فإذا نصب الثاني كان مثالا للحالة الثانية. وإذا رفع كان مثالا للحالة الأولى.
اقتضاء النهي فساد المنهي عنه
المنهيات على قسمين:
١- قسم منهي عنه ولم يتوجه إليه طلب قط مثل قوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا﴾ وقوله: ﴿واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا﴾ .
1 / 20