Mudhakkarat Jughrafiyya
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Genres
وفي هذا لعمري عبرة للمعتبرين، لا سيما إذا قابلوا بين صغر بلاد فينيقية وسعة مستعمرات أهلها وبعدها السحيق. وليس في ذلك ما تنكر صحته أو يرد برهانه؛ لأن التاريخ قد بين مذ ذاك العهد أن الدول التي ضاقت مساحة أملاكها إذا ما كانت مجاورة للبحر في إحدى جهاتها، كانت أسرع إلى الاستعمار وأحكم فيه من الدول الكبيرة ذات التخوم الفسيحة؛ لأن هذه الدول لا يمكنها أن تستعمر في الخارج قبل أن تقوم باستعمارها الداخلي، فتحسن أملاكها وتستثمر أراضيها، وكل ذلك يقتضي زمنا مديدا، بل أجيالا طويلة، ويستفرغ قوى الأمة، ولو سهت عن ذلك وقدمت الاستعمارات الخارجية عرضت نفسها إلى التهلكة كما حدث آخرا لروسية، التي تملك في أوروبة على أنحاء متسعة وأقطار فسيحة بينها السهول القفرة، التي لم تحسن زراعتها، فأرادت أن تزيد في أملاكها الآسيوية إلى حدود الشرق الأقصى، فكان من أمرها ما كان، وأصابها من الويلات ما هو فوق نكبات حربها مع اليابان، ولنا بينة على صدق هذا القول في تاريخ البرتغال والبندقية وجنوة وهولندة، وفي أيامنا هذه في تاريخ بلجكة، فرأينا ما نالته هذه الدول الصغيرة من الفوز والتقدم في استعماراتها.
ومثل البندقية حري بالاعتبار؛ لأنها جددت بعد ألفي سنة أعمال الفينيقيين، فنالت في طرف البحر المتوسط الغربي ما ناله الفينيقيون في الطرف الشرقي، وكلا البلدين في موقع متشابه، وأهلهما مولعون على سواء بالعيشة البحرية، وإنما بينهما فرق واحد؛ وهو أن الحركة الاستعمارية للبنادقة ابتدأت من الغرب، فبلغت الأقطار الواقعة في شرقي البحر المتوسط.
14
وقد سبق السوريون وأدركوا ما لموقع بلادهم من المحاسن، وعرفوا أنهم يصيبون الهدف إذا ما عانوا الأسفار البحرية، وتكلفوا أعمال التجارة، فإن توسطهم بين الدول القديمة - أعني بابل ومصر - كان كافيا لأن يكسبهم الثروة الواسعة، فينقلون إلى أهلهم السلع المتعددة ويبتاعون منهم محصولات بلادهم المتوفرة، فيربحون على الوجهين الأرباح الطائلة؛ إذ يبيعون بالأسعار الغالية ويشترون بالأثمان المتهاودة، وفي ذلك سر غناهم العظيم، وكما أنه كان أقوى مهماز لتنشيط أعمالهم.
واليوم إن ترويت في أحوال الأمم التجارية، وجدت أن أسباب ترقيها تنوط بأحد هذه الأمور الثلاثة؛ أعني وضعها الجغرافي كاتساع سواحلها، ثم تركيب طبقاتها بتوفر مناجم فحمها الحجري، ثم أحوالها الاقتصادية الدائرة على حرية التبادل والمعاهدات التجارية المبنية على أصول قريبة وقوانين سهلة.
15
فمن هذه الأمور الثلاثة لا يسعنا الجواب على آخرها ونحن نجهل شروط التجارة بين الفينيقيين وبين غيرهم من الأمم. أما الأمر الثاني - أعني الفحم - فإنهم لم يكونوا إليه في حاجة لما أصابوا في جبالهم من ثروة الغابات التي تسد حاجاتهم في تعمير السفن، وهم لا يعرفون إذ ذاك تسيير السفن بقوة البخار، فيبقى علينا أن نبحث عن الأمر الأول، فنبين الأسباب الجغرافية التي أكسبتهم احتكار التجارة البحرية.
إن نظرت إلى لبنان رأيت سلسلته تمتد موازية للبحر، لكنها من مسافة إلى أخرى تلقي في البحر رءوسا تنتصب فوقه وتشرف عليه، أخصها الرأس الأبيض بين عكا وصور، ثم رأس نهر الكلب، ولا سيما رأس الشقعة الناطح بطرفه الهائل بين بترون وطرابلس، وليس بين هذه الرءوس الضخمة مكان إلا لأودية حرجة عميقة، أو لسهول متوسطة في سعتها، أو لشقق مستطيلة من الرمل والصلصال تخترقها الصخور على صور شتى، منها داخل في البحر، ومنها راكب بعضها على بعض، ومنها المسنن، ومنها المروس والمدرج؛ فاقتضى على الأهلين الذين قطنوا في هذه الأرض الحرجة بين البحر والجبل أن يوجهوا بنظرهم إلى مياه العرمرم، لينالوا منها ما يسد رمقهم، إما بالصيد، وإما بالمتاجرة بين مدينة وأخرى، فهكذا كانت صيداء مقاما للصيد، كما يدل عليه اسمها قبل أن تضحي مركزا بحريا عظيما.
وهذه الملحوظات عن غرائب الساحل السوري كادت اليوم تبرح عن الخواطر، بعد أن امتدت على سيف البحر طرق العربات، بل مدت الأسلاك الحديدية لقواطر البخار، فيسير المسافر على الطريق السوية الممهدة دائرا حول رءوس الساحل، وقاطعا لركام الصخور دون أن يحجزه حاجز، اللهم إلا رأس الشقعة الذي لم يتمكن المهندسون من قطعه حتى الآن، ولكن هيهات أن تجد مثل هذه الطريق السهلة في المسالك القديمة، فإنك لو نهجتها لعلمت ما يتكلفه السائر في سيره من المشقة لينتقل من واد إلى آخر، وما يحول دون مرامه من توريبات السكة، ومن المراقي الصعبة قبل أن يبلغ مكانا قريبا لو أمكنه قطعه على طريق مستقيم، فلا بدع أن الأهلين منذ نشأت التجارة فكروا في تقصير هذه الطرق بالسلوك بحرا، وربما كانت الطريق البحرية هي وحدها الممكنة.
وإن قيل إن السواحل السورية مكشوفة ليس فيها ملاجئ للسفن في وقت الأنواء، فضلا عن أن عدة مرافئ كحيفا وطرابلس ولا سيما يافا، لا يمكن الرسو قربها أياما طويلة في فصل الشتاء، فكيف كان الفينيقيون يبحرون؟ نجيب على ذلك أن الملاحة القديمة كانت تخالف ملاحتنا اليوم، فإن البحريين ما كانوا يقلعون مراكبهم إلا في فصل الهدو وصفاء الجو، فكانوا إذ ذاك يفضلون الوقوف عند الرءوس أو عند الجزر البحرية، فلا يشعرون بهبوب النسيم حتى يسرعوا إلى السير على الساحل من مدينة إلى مدينة، ومن رأس إلى رأس، وكانت السفن الفينيقية كبيرة مسطحة لا تغوص كثيرا في المياه، حتى إنها كانت تستطيع أن تصعد النيل إلى الأقصر،
Unknown page