Mudhakkarat Jughrafiyya
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Genres
فكانوا إذا أرادوا تصريف بضائعهم انتقلوا مع القوافل إلى حيث يرومون بيعها، فيدرسون كل بلد ويتعلمون لغته ويختلطون بأهله ويفقهون عجره وبجره؛ وكل ذلك لتتيسر لهم المتاجرة وتزيد أرباحهم، وذلك على خلاف ما نرى اليوم بعد اكتشاف السكك الحديدية والبواخر، فإن البضائع تصل إلى طالبيها دون أن يحتاج البائع إلى أن يرافقها.
وكان تدبير القوافل الفينيقية يقتضي دراية عظيمة وحذقا بليغا في المعاملات، ومما كان يترتب على رئيسها أن يحسن نظامها، ويؤلف قلوب أصحابها ويجمع قواهم لنجاح المشروع، كما أنه كان يسعى في طريقه بأن يكسب ثقة الأهلين، ويتقرب من أمرائهم وينتهز الفرص اللائقة لمبايعتهم، ويتعرف ما يروج عندهم من الأسواق. وخلاصة القول، كان يتخذ كل المعلومات اللازمة التي تزيد ثروته وتوفر أرباحه، وهكذا قد وصف لنا كتبة العرب تجار القريشيين في القرن السابع للميلاد،
22
وفي مقدمتهم أبو سفيان الشهير، قال ابن الأثير في أسد الغابة في تعريف الصحابة (5: 216): «كان «أبو سفيان» تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى الشام وغيرها من أرض العجم، وكان يخرج أحيانا بنفسه، وكانت إليه راية الرؤساء التي تسمى العقاب، وإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعتها بيد الرئيس.»
والإفادات السابق وصفها التي نالها الفينيقيون في رحلهم وأسفارهم البرية والبحرية، توسلوا بها لترقية تجارتهم وصناعتهم وتوسيع نطاقهما، فإنهم بصائب نظرهم وتهافتهم على الأعمال واحتكارهم للتجارة البرية والبحرية، بلغوا في آخر الطور اليوناني الروماني مبلغا راقيا، فكأني بهم جعلوا في زمانهم الطرق الجائزة في سورية الشمالية ، وفي سورية الوسطى، وفي بادية الشام نفسها بمثابة ترعة سويس في عهدنا، وكانت بورسعيدهم تدمر، إلا أن تدمر كانت وقتئذ ملكة الصحراء تميس في مبانيها الفاخرة ومحاسنها الساحرة، ليست كبورسعيدنا التي هي عبارة عن مدينة مستحدثة، لا يرى فيها غير حوانيت الباعة، ومكاتب الحسبة، ومقامات المتاجرين، بل كانت تدمر مزدانة بالهياكل، تأخذ بالأبصار أروقتها البديعة، وتماثيلها المحكمة الصنع، مما يخلب القلب ولا تجد له أثرا في بورسعيد.
فدعنا بعد هذا نمتع النظر بحسن وضع سورية وبموقعها الجغرافي الفريد، ونحن نجدها في مفرق الطرق التجارية التي كان يسلكها العالم القديم، فإنها كانت قريبة من البرزخ الذي يصل آسية بأفريقية بين وادي النيل ووادي الفرات، وهناك كانت أعظم أمم تلك الأعصار وأرقاها في التمدن، وسورية في وسطها تبعد مسافة يوم عن تخوم مصر، وتكاد تتصل بمملكة آشور عند مجرى الفرات الغربي؛ حيث يلتوي فيقترب من البحر، فإن هذا النهر متاخم لسورية عند موقع قرقميش القديمة في المقام المعد لقطع سكة بغداد؛ حيث لا يبعد عن البحر المتوسط في خط مستقيم أكثر من 150 إلى 160 كيلومترا. فما أسهل ما كان على الفينيقيين أن يتبطنوا وادي الفرات، فيتبعوا بطائحه إلى أن يبلغوا خليج العجم المتصل بها. وكانت ضفاف الفرات في تلك القرون حافلة بالسكان متوفرة المدن، التي لا تزال آثارها ظاهرة إلى يومنا، وقد شهد على عمران تلك الجهات أحد جغرافيي اللاتين، يدعى بمبونيوس ميلا
12 ؛ حيث وصف غنى الأمم التي تقطن شمالي سورية، وقد نسب ثروتها «إلى خصب مراكزها وكثرة أنهارها، التي تجري فيها السفن فتسهل بها المبادلات التجارية.»
فترى من ثم أن سورية كانت بموقعها العجيب أهلا بأن تصبح مركزا لعلائق العالم القديم، أو قل بالحري إن الله جعلها رائدا للتمدن ووصلة بين الأمم العادية؛ أي المصريين، والكلدان، والأمم الوسطى من يونان ورومان، أجداد عالمنا المستجد. ولو رقينا في سلم الأعصار إلى أوائل القرون المتوسطة، وجدنا أهل سورية يتأثرون أعقاب آبائهم، فيتوسطون بين الغرب وأواسط آسية، فهم الذين أدخلوا التمدن اليوناني في مدرستي نصيبين وجنديسابور، كما أنهم جلبوا إلى الغرب مرافق تلك البلاد.
السوريون حملة التمدن القديم
فمن كل ما سبق لا يبقى للقارئ ريب في أن أهل سورية بتفرغهم للمبايعات وبتنقلهم في أنحاء البر والبحر كانوا الرباط الوثيق بين سواحل البحر المتوسط والبلاد النازحة عنه، ومزجوا مزج الماء بالراح الشرق العتيق بالغرب المترعرع، نعم، إنهم كانوا قبل كل شيء يعملون لأغراضهم ومصالحهم الخصوصية، إلا أن عملهم هذا كان يفيد الشعوب أيضا، فيعمم ما لكل منها من المحاصيل ويخرجها من عزلتها، فينتفع كل شعب كما أصابه الآخر، سواء كان في الماديات أو في الأمور العقلية والأدبية والدينية، وفي هذا لعمري جل الفائدة، لا سيما في تلك الأزمنة التي كانت الشعوب لا تعرف بعضها إلا في ساحات القتال، فالفينيقيون نقلوا إلى الغرب تمدن واديي النيل والفرات، وعرفوا أهل تلك البلاد بمحصولات مصر وما بين النهريين وأعمالهما الصناعية بعد أن أخرجوها على هيئة جديدة توافق أحوال الغربيين وتناسب حاجاتهم، ولعلهم أثاروا في قلوب تلك الشعوب الجديدة رغبة في الترقي والنجاح، ومهدوا الطريق للفنون والآداب بين اليونان الذين ما كانوا ليبلغوا ذروة الكمال في الفنون الجميلة لولا توسط الفينيقيين، فإنه من المقرر أن التمدن اليوناني لم ينشأ بغتة على غير استعداد وبدون تمهيد، وإنما بني على أساس سابق تقدمه، نريد تمدن أمم الشرق، وفضل الفينيقيين أنهم كانوا حملة لذلك الترقي القديم إلى اليونان، فأغنوا الغرب بمحصولات الشرق وبمصنوعات الشام. فانتبهت قرائح الغربيين إلى مجاراتهم ومزاحمتهم في العمل بعد أن أعملوا النظر في نحت التماثيل والدمى، وفي حفر الحجارة الكريمة وفي صياغة الجواهر، كما استلمها الفينيقيون من أهل مصر وبابل فزادوها تحسينا، فهذه المصنوعات الفينيقية كانت للغربيين كلقاح لأذهانهم وشحذ لأفكارهم، أدى بهم بعد قليل إلى تلك العجائب الصناعية التي تفرد بها اليونان بعد زمن، وإن قيل إن الفينيقيين لم يطلبوا في ذلك غير الربح والمكسب فنجيب أن فائدتهم الخاصة لا تنفي الخدم التي أدوها لغيرهم، والخدمة خدمة ولو طلب منها منفعة
Unknown page