Mucdilat Madina Haditha
معضلات المدنية الحديثة
Genres
قد تقول غير هذا، قد تقول: إن تعليل حوادث الحياة الإنسانية إذا أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن فكرة تدخل الإرادة العلوية في جزئيات الحياة وكلياتها معا، بعد أن عمد الناس إلى تعليل الظاهرات بالأسباب الطبيعية؛ رجع العقل عن البحث وراء المصادر التي تحرك الحوادث إلى البحث في الأسباب التي كونت الجماعات الإنسانية. وهنا اتخذ التاريخ على أنه قاعدة ثابتة لا يستطيع باحث أن يلجأ إلى غيرها من ضروب المعارف الإنسانية، إذا ما أزمع أن يفقه شيئا من طبيعة الحوادث الحاضرة، أو أن يستكشف ناموسا يستهدي به إن هو أراد أن يتدبر المستقبل.
نظر في التاريخ تلك النظرة، نظر إليه بتلك العين التي ينظر بها الجيولوجي إلى بقايا الحفريات المستحجرة ليتخذ منها حلقات وسطى تربط بين الأنواع المختلفة، فإن المؤرخين طالما حاولوا باستعماقهم في دراسة الحالات العامة التي قامت في كل عصر من العصور؛ أن يستشفوا حقيقة البواعث والأسباب التي تمكنهم من اكتفاء المؤثرات أو الأسباب التي تربط بين حوادث عصر «حاضر» بأبعد الحوادث وقوعا في أحشاء التاريخ الإنساني.
استمكن هذا التصور من عقول الباحثين استمكانا، وتغلغل في معتقد الناس، حتى إن كل عقيدة، أو مذهب، أو نظام مدني أو اجتماعي، بل الفكرات الطافية على سطح الحياة اليومية؛ قد لقي جماعها من الأنصار فئة حاولت أن تستكشف في تاريخها من الحلقات ما يربطها بحادثات وقعت خلال أبعد العصور إيغالا في صميم القرون الأولى؛ أي بحادثة اجتماعية، أو تصور من التصورات، أو بمبدأ أو مذهب فلسفي، أو بأسطورة من أساطير الأولين.
في ذلك نزعة من نزعات الفكر. أما المذاهب الفلسفية، والمبادئ الدينية، فشرع في حكم تلك النزعة، فإنك إذ ترى أن أصحاب المذهب الكثلكي في أوروبا يعودون بأبحاثهم إلى مخلفات الأزمان الأولى التي أينعت فيها النصرانية، لا بل إلى عصور الوثنية؛ ليستمدوا منها براهين وأدلة تؤيد حجتهم وتنصر مذهبهم في الدين، وإذ تلفي أن البروتستانت يرجعون إلى مثاليات الإغريق، بل إلى سياسيات «بركليز» وتعاليم «أرسطو» و«سقراط» ومبادئ «سولون»؛ لينقضوا فكرة نظرائهم في العقيدة، وإذ تجد من جهة أخرى أن الراديكاليين يحاولون أن يقطعوا شوط الارتقاء قفزا، على الضد من كل تجانس في نظام الطبيعة، تأييدا لوجهة نظرهم في الحياة، وأن الرجعيين باعتقادهم أن مدنية العصور الأولى أقرب إلى مناهج الفطرة من مدنية العصور الحاضرة، يعملون جهدهم ليصدوا تيار التقدم راجعين بالأفكار والمذاهب والمعتقدات إلى أوابد العصور الغابرة، على النقيض من سنن النشوء ونواميس الارتقاء؛ لا تستطيع إلا أن تحكم بأن هؤلاء جميعا إنما يساقون في طريقهم سوقا بمقتضى حكم الطبيعة ونواميس الحياة، فيجهدون أنفسهم ويفنون عقولهم ليثبتوا أن لتصوراتهم ومعتقداتهم علاقة وصلة ب «الماضي» الذي تقدسه المشاعر وإن حكم ضده العقل، كل هذا ليبرروا ادعاءهم بأن معتقدهم وشرعتهم أحق بالحياة والبقاء في الزمان «الحاضر».
ولماذا نقصر استشهادنا على ذلك بزعماء المذهب الكثلكي أو قادة الكنيسة البروتستانتية وحدهم؟ ولأي من الأسباب نقصر الكلام على الراديكاليين أو الرجعيين أو أية فئة من فئات الفلسفة أو العقائد، ونعفي حفظة الكرسي البابوي في قصر الفاتيكان، أو جبابرة الملوك والقياصرة فوق عروشهم الرهيبة؛ من حكم تلك النزعة التي تصور أكثر ما في التاريخ من حوادث؟ ألم تر إلى بابوات روما وملوك الدولات العظمى كيف نزلوا عما كانوا يدعون من استمداد سلطاتهم وقواتهم من الله، وكيف رجعوا عن الدعوى بأن إرادتهم مستمدة من الإرادة القدسية؛ فتراهم وقد نزلوا على حكم الزمان وساووا بين أنفسهم والدهماء ، فلم يجدوا من مبرر يبررون به وجودهم بعد أن تقوضت أركان حقوقهم الموهومة إلا أن يلجئوا إلى ذكرى ما كان لوجودهم من أثر في قيام المدنيات وارتقاء الشعوب، وأنهم كانوا القوامين على الشرف الوطني من أن تعبث به الأيدي الأجنبية، وأنهم كانوا حفظة الآداب، وخزنة المصالح القومية، وأنهم كانوا أول الآخذين بيد البلاغة والفن، وأنهم أول من عمل على سعادة الجماهير، إلى غير ذلك مما يرويه التاريخ؟
تجد من هذا عامة أن الملوك ورؤساء الدين أصبح حكمهم إزاء التاريخ حكم أصحاب المذاهب والمعتقدات؛ إذ يحاولون أن يتخذوا من «الماضي» وثائق يعززون بها «الحاضر» ويزكونه بما فيها من الأدلة والبراهين.
ولقد تعجز تلك النزعة التي صورت التاريخ على هذه الصورة عن أن تجد من الفكرات والنظريات ما يؤيدها، فكما أن التقاليد التي ورثها الفرد عن آبائه الأولين، وطريقة التربية التي خضع لسلطانها، والحوادث التي انتابته في الحياة، ومجمل الظروف والمؤثرات التي كونته، لا بد من أن تترك أثرا بارزا في أخلاقه، وتتخذ دليلا على ما فيه من عزة وشرف في «حاضره»؛ كذلك الحال في السوابق التاريخية التي وقعت في الحياة العامة والأفكار، قد يمكن أن تتخذ برهانا من «الماضي» تبرر به الحالات «الحاضرة».
غير أن هذه السوابق التاريخية إذا اتخذت على أنها أسانيد موثوق بصحتها وقوتها، وأن دلالتها على الأشياء والحوادث ثابتة لا مبدل لها، فتعمد كل سابقة منها إلى أن تثبت بحكم العقل ونزعة البحث أنها ذات الأثر الأول في إبراز الأسباب التي ساقت إلى وقوع حوادث الأزمان الفارطة؛ فإنا لا نلبث أن نشعر بأن تلك الشبكة المتخالطة التي تنسجها السوابق التاريخية متنافرة الأجزاء تنافرا لا يعزز الادعاء بأن دلالتها على الأشياء والحوادث ثابتة، وأن الباطل ونزعات المشاعر لن تأتيها من بين يديها ولا من خلفها.
وقد نسوق هذا الحكم عينه على أولاء من فلاسفة المؤرخين الذين يحاولون أن يعزوا السبب في نشوء الجماعات الإنسانية إلى فعل مؤثر بعينه من المؤثرات العامة، كتأثير الطقس أو الفواعل الجوية، أو البيئة الطبيعية ، أو مبدأ بقاء القوة في نظام الكون المادي، إلى غير ذلك.
إن «كارليل» أكثر الباحثين استعماقا في حقيقة الفكر، وأشد الكاتبين تبيانا لضئولة المعرفة الإنسانية؛ قد نصح لكل المؤرخين أن ينصرفوا عن كل محاولة يراد بها إثبات أن نشوء الجماعات الإنسانية راجع إلى فعل مؤثر بذاته في مؤثرات الكون أو الحياة، وأن الأجدر بالمؤرخ أن يبرز صورة واضحة جلية للعصر أو الحادث الذي يؤرخ فيه، يستخرج منه عظة أو عبرة تنتج نفعا ماديا في العمليات؛ لأن ذلك في رأي «كارليل» أولى بالمؤرخ من أن يظن، ومن ثم يتصور أو يعتقد أنه بتعليل نشوء الاجتماع استنادا على مبدأ من مبادئ الكون قد بلغ إلى أبعد أغوار الطبيعة، من حين أن المعرفة الإنسانية، مقيسة بأسرار الغيب والمجهول، ليست إلا كفلينة طافية على وجه بحر ما تبلغ له من قرار.
Unknown page