1 - امرؤ القيس‏

2 - طرفة بن العبد‏

3 - زهير بن أبي سلمى‏

4 - لبيد بن ربيعة‏

5 - عمرو بن كلثوم‏

6 - عنترة بن شداد‏

7 - الحارث بن حلزة‏

8 - الأعشى ميمون‏

9 - ترجمة النابغة الذبياني‏

10 - عبيد بن الأبرص‏

11 - المعلقات أو القصائد العشر الطوال‏

1 - امرؤ القيس‏

2 - طرفة بن العبد‏

3 - زهير بن أبي سلمى‏

4 - لبيد بن ربيعة‏

5 - عمرو بن كلثوم‏

6 - عنترة بن شداد‏

7 - الحارث بن حلزة‏

8 - الأعشى ميمون‏

9 - ترجمة النابغة الذبياني‏

10 - عبيد بن الأبرص‏

11 - المعلقات أو القصائد العشر الطوال‏

المعلقات العشر وأخبار شعرائها

المعلقات العشر وأخبار شعرائها

تأليف

أحمد بن الأمين الشنقيطي

الفصل الأول

امرؤ القيس

مات سنة 80 قبل الهجرة و565 للميلاد

نسبه وكنيته

هو امرؤ القيس بن حجر (بضم الحاء والجيم، وليس بهذا الضبط غيره) بن الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع. هكذا نسبه الأصمعي، وزاد الحارث بن معاوية: «وثور.» وقال إن ثورا هو كندة، وهكذا ساق نسبه ابن حبيب، وزاد يعرب بين الحارث بن معاوية، وثور بن مرتع بن معاوية بن كندة. وقال بعض الرواة: هو امرؤ القيس بن السمط بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن ثور وهو كندة. وقال ابن الأعرابي: ثور هو كندة بن عفير بن الحارث بن مرة بن عدي بن أدد بن زيد بن عمرو بن مسمع بن عريب ابن زيد بن كهلان بن سبأ.

ويكنى امرؤ القيس أبا وهب، وكان يقال له: الملك الضليل. وقيل له ذو القروح؛ لقوله:

وبدلت قرحا داميا بعد صحة

لعل منايانا تحولن أبؤسا

قلت: واختلف في آكل المرار، فنقل العلامة عبد القادر البغدادي عن الشريف الجواني أن في آكل المرار خلافا، هل هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، أو هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية؟ وإنما سمي الحارث بآكل المرار؛ لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم - وكان الحارث غائبا - فغنم وسبى، وكان فيمن سبى أم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني امرأة الحارث، فقالت لعمرو بن الهبولة في مسيره: لكأني برجل أدلم أسود كأن مشافره مشافر بعير آكل المرار، قد أخذ برقبتك. تعني الحارث فسمي آكل المرار (المرار: كغراب شجر إذا أكلته الإبل تقلصت مشافرها)، ثم تبعه الحارث في بكر بن وائل، فلحقه وقتله، واستنقذ امرأته وما كان أصاب. وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: آكل المرار هو جد امرئ القيس الشاعر ابن حجر. وقال الميداني عند شرحه للمثل «لا غزو إلا التعقيب»: أول من قال ذلك حجر بن الحارث بن عمرو آكل المرار. وساق حديثه مع ابن الهبولة، وقتله إياه، وذكر في آخره أنه قتل هند الهنود لما استنقذها منه.

طبقته في الشعراء

امرؤ القيس فحل من فحول أهل الجاهلية، وهو رأس الطبقة الأولى، وقرن بن ابن سلام زهيرا والنابغة وأعشى قيس، والأكثر على تقديم امرئ القيس. قال يونس بن حبيب: إن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس بن حجر، وإن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرا والنابغة. وقيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: ذو القرح. يعني امرأ القيس، وسئل لبيد: من أشعر الناس؟ فقال: الملك الضليل. قيل: ثم من؟ قال: ابن العشرين. يعني طرفة، قيل له: ثم من؟ أبو عقيل. يعني نفسه.

وليس مراد من قدم امرأ القيس أنه قال ما لم تقله العرب، ولكنه سبقهم إلى أشياء ابتدعها استحسنتها العرب، واتبعه فيها الشعراء، منها: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبيض، والخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد. ويدل على تقدمه في الشعر ما روي أنه وفد قوم من اليمن على النبي

صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: يا رسول الله، أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر. قال: وكيف ذلك؟ قالوا: أقبلنا نريدك فضللنا الطريق فبقينا ثلاثا بغير ماء، فاستظللنا بالطلح والسمر، فأقبل راكب ملتثم بعمامة، وتمثل رجل ببيتين وهما:

ولما رأت أن الشريعة همها

وأن البياض من فرائصها دامي

تيممت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر. قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم. قال: فجثونا على الركب إلى ماء كما ذكروا عليه العرمض يفيء عليه الطلح، فشربنا رينا وحملنا ما يكفينا، ويبلغنا الطريق. فقال النبي

صلى الله عليه وسلم : ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة ومعه لواء الشعراء إلى النار. وروي: يتدهدى بهم في النار. فيروى أن كلا من لبيد وحسان بن ثابت قال: ليت هذا المقال في، وأنا المدهدى في النار.

ونقل السيوطي عن ابن عساكر عن ابن الكلبي قال: أتى قوم رسول الله

صلى الله عليه وسلم

فسألوه عن أشعر الناس، فقال: ائتوا حسان. فقال: ذو القروح - يعني امرأ القيس - إلا أنه لم يعقب ولدا ذكرا بل إناثا. فرجعوا فأخبروا رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدق؛ رفيع في الدنيا، خامل في الآخرة، شريف في الدنيا، وضيع في الآخرة، هو قائد الشعراء إلى النار. ولا قول لأحد مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم

فسقطت التفاصيل الواردة عن العلماء بالشعر. ولا يحتج بقوله تعالى:

وما علمناه الشعر

لأن المراد ما علمناه قوله، وإلا فإن معرفة معاني كلام العرب مقصورة عليه

صلى الله عليه وسلم .

هاجسه ورقيه من الجن

وهاجس

1

امرئ القيس هو لافظ بن لاحظ. حدث رجل من أهل الشام أنه خرج في طلب لقاح له فحل كأنه فدن يسبق الريح حتى دفعه إلى خييمة وبفنائها شيخ كبير، قال: فسلمت فلم يرد علي، فقال: من أين؟ وإلى أين؟ قال: فاستحمقته إذ بخل برد السلام وأسرع إلى السؤال، فقلت: من ها هنا - وأشرت إلى خلفي - وإلى ها هنا - وأشرت إلى أمامي. فقال: أما من ها هنا فنعم، وأما إلى ها هنا فوالله ما أراك تبهج بذلك إلا أن يسهل عليك مداراة من ترد عليه. قلت: وكيف ذلك أيها الشيخ؟ قال: لأن الشكل غير شكلك، والزي غير زيك. فضرب قلبي أنه من الجن. وقلت: أتروي من أشعار العرب شيئا؟ قال: نعم وأقول. قلت: فأنشدني. كالمستهزئ به، فأنشدني قول امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فلما فرغ، قلت: لو أن امرأ القيس ينشر لردعك عن هذا الكلام. فقال: ماذا تقول؟ قلت: هذا لامرئ القيس. قال: لست أول من كفر نعمة أسداها. قلت: ألا تستحي أيها الشيخ؟! ألمثل امرئ القيس يقال هذا؟! قال: أنا والله منحته ما أعجبك منه. قلت: فما اسمك؟ قال: لافظ بن لاحظ. فقلت: اسمان منكران. قال: أجل. فاستحمقت نفسي له بعدما استحمقته لها، وقد عرفت أنه من الجن.

حال امرئ القيس وأوليته

ولما نشأ امرؤ القيس طرده أبوه، واختلف في سبب ذلك، فقيل إنه لما ترعرع علق النساء، وأكثر الذكر لهن والميل إليهن، فكره ذلك أبوه حجر، فقال: كيف أصنع به؟ فقالوا: اجعله في رعاء إبلك، حتى يكون في أتعب عمل. فأرسله في الإبل، فخرج بها يرعاها يومه، ثم آواها مع الليل، وجعل ينيخها ويقول: يا حبذا طويلة الأقراب، غزيرة الحلاب، كريمة الصحاب، يا حبذا شداد الأوراك، عراض الأحناك، طوال الأسماك. ثم بات ليلته يدور إلى متحدثه حيث كان يتحدث. فقال أبوه: ما شغلته بشيء. قيل له: فأرسله في الخيل. فأرسله في خيله فمكث فيها يومه، حتى آواها مع الليل، فدنا أبوه حجر يسمع، فإذا هو يقول: يا حبذا إناثها نساء، وذكورها ظباء، عدة ونساء، نعم الصحاب راجلا وراكبا، تدرك طالبا، وتفوت هاربا. قال أبوه: والله ما صنعت شيئا. فبات ليلته يدور حواليها، قيل له: اجعله في الضأن. فمكث يومه فيها، حتى إذا أمسى أراحها، فجاءت أمامه وجاء خلفها، فلما بلغت المراح، ودنا أبوه يسمع قال: أخزاها الله لا تهتدي طريقا، ولا تعرف صديقا، أخزاها الله لا تطيع راعيا، ولا تسمع داعيا. ثم سقط ليلته لا يتحرك، فلما أصبح قال أبوه: اخرج بها. فمضى حتى بعد من الحي، وأشرف على الوادي، فحثا في وجهها التراب فارتدت، وجعل يقول: حجر في حجر، حجر لا مدر، هبهاب لحم وإهاب، للطير والذئاب. فلما رأى أبوه ذلك منه، وكان يرغب به عن النساء والشعر، وأبى أن يدع ذلك، فأخرجه عنه، فخرج مراغما لأبيه.

فكان يسير في العرب يطلب الصيد والغزل حتى قتل أبوه، وقيل: إن سبب طرد أبيه إياه أنه كان يتعشق امرأته هرا، وهذا غير معروف من أخلاق العرب، وغاية ما في ذلك أن الأب بعد موته كانت امرأته يكون أكبر أولاده من غيرها وليها، فإن شاء تزوجها، وإن شاء منعها حتى تموت، وإن شاء زوجها من غيره.

خبره بعد مقتل أبيه

قيل إن حجرا والد امرئ القيس لما قتله بنو أسد في قصة طويلة - وكان طعنه أحدهم ولم يجهز عليه - أوصى، ودفع كتابه إلى رجل، وقال له: انطلق إلى ابني نافع - وكان أكبر ولده - فإن بكى وجزع فاله عنه، واستقرهم واحدا واحدا، حتى تأتي امرأ القيس - وكان أصغرهم - فأيهم لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي وقدوري ووصيتي. وقد كان بين في وصيته من قتله، وكيف كان خبره، فانطلق الرجل بوصيته إلى نافع ابنه، فأخذ التراب فوضعه على رأسه، ثم استقراهم واحدا واحدا، فكلهم فعل ذلك، حتى أتى امرأ القيس، فوجده مع نديم له يشرب الخمر، ويلاعبه بالنرد، فقال له: قتل حجر. فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه فقال له امرؤ القيس: اضرب. فضرب، حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك. ثم سأل الرسول عن أمر أبيه فأخبره فقال: الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة، وأجز نواصي مائة. وقيل: إنه لما خرج مراغما له كان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذهم من طيئ وكلب وبكر بن وائل، فإذا صادف غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكل وأكلوا عنه وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير، ثم ينتقل معه إلى غيره، فأتاه خبر أبيه ومقتله وهو بدمون أتاه به رجل من بني عجل يقال له: عامر الأعور، فلما أتاه بذلك قال:

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا معشر يمانون

وإننا لأهلنا محبون

ثم قال: ضيعني صغيرا، وحملني ثأره كبيرا. لأصحو اليوم، ولأسكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر. فذهبت مثلا؛ أي يشغلنا اليوم خمر، وغدا يشغلنا أمر يعني أمر الحرب، وهذا المثل يضرب للدول الجالبة للمحبوب والمكروه، ثم شرب سبعة أيام ثم قال:

أتاني وأصحابي على رأس صيلع

حديث أطار النوم عني وأنعما

وقلت لعجلي بعيد مآبه

تبين وبين لي الحديث المعجما

فقال أبيت اللعن عمرو وكاهل

أباحوا حمى حجر فأصبح مسلما

وله في ذلك أشعار كثيرة منها:

والله لا يذهب شيخي باطلا

حتى أبير مالكا وكاهلا

القاتلين الملك الحلاحلا

خير معد حسبا ونائلا

يا لهف هند إذ خطئن كاهلا

نحن جلبنا القرح القوافلا

يحملنا والأسل النواهلا

مستفرمات بالحصى جوافلا

خبره مع بني أسد

ثم أخذ امرؤ القيس يستعد لبني أسد، فبلغهم ذلك، فأوفدوا إليه رجالا من ساداتهم فأكرم منزلهم، واحتجب عنهم ثلاثة أيام، ثم خرج عليهم في قباء وخف وعمامة سوداء إشعارا بأنه طالب بثأر أبيه، فلما لقيهم بدروه بالثناء عليه وعلى أبيه، وقالوا له: إن الواجب عليك أن ترضى منا بإحدى خلال نسميها لك: إما أن اخترت من بني أسد أشرفها بيتا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتا فقدناه إليك بنسعه فتذبحه، أو ترضى منا بفداء بالغ ما بلغ، فأديناه إليك من نعمنا، فترد القضب إلى أجفانها، وإما أن توادعنا حتى تضع الحوامل، وتتأهب للحرب. فبكى امرؤ القيس ساعة، ثم رفع رأسه، وقال: لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر، وأني لن أعتاض به جملا أو ناقة فأكتسب بذلك مسبة. وكانت العرب تتذمم من ذلك، قال شاعرهم يخاطب امرأته:

أكلت دما إن لم أرعك بضرة

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

ثم قال لهم: وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك. ثم ارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكرا وتغلب عليهم أخواه شرحبيل وسلمة ، فاستنصرهما على بني أسد فنصراه، فنذر بنو أسد بما جمع لهم فرحلوا فأوقع امرؤ القيس ببني كنانة وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم، وقال: يا لثارات الملك يا لثارات الهمام! فخرجت إليه عجوز من بني كنانة، فقالت: أبيت اللعن لسنا لك بثأر، نحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم؛ فإن القوم قد ساروا بالأمس. فتبع بني أسد ففاتوه فقال:

ألا يا لهف هند إثر قوم

هم كانوا الشفاء فلم يصابوا

وقاهم جدهم ببني أبيهم

وبالأشقين ما كان العقاب

وأفلتهن علباء جريضا

ولو أدركنه صفر الوطاب

ثم إنه اتبع بني أسد حتى لحقهم وقد استراحوا ونزلوا على الماء وهو ومن معه في غاية التعب والعطش، فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى كثرت القتلى والجرحى، وحجز بينهم الليل، فهربت بنو أسد، فلما أسفر الصبح أراد أن يتبعهم، فامتنعت بكر وتغلب، وقالوا له: قد أصبت ثأرك. فقال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل أحدا، وكان قد قال:

والله لا يذهب شيخي باطلا

حتى أبير مالكا وكاهلا

فلما امتنعوا من المسير معه استنصر مرثد الخير وهو من أقيال حمير، فأمده بخمسمائة رجل من حمير، ومات مرثد قبل رحيل امرئ القيس، فأنفذ له ذلك قرمل الذي جلس في مكان مرثد، واستأجر كثيرا من صعاليك العرب، فسار إلى بني أسد، ومر على ذي الخلصة، وهو صنم كانت العرب تعظمه فاستقسم عنده بقداحه وهي ثلاثة الآمر والناهي والمتربص، فأجالها فخرج الناهي ثلاث مرات، وكلما أجالها يخرج الناهي. فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم، وقال: لو كان المقتول أباك ما عقتني. ثم خرج فظفر ببني أسد.

مطاردة المنذر له وخبر موته

ثم إن المنذر حارب امرأ القيس، وألب العرب عليه، وأمده أنوشروان بجيش من الأساورة، فسرحهم في طلبه، فانفضت جموعه فنجا مع عصبة من بني آكل المرار، حتى نزل بالحارث بن شهاب من بني يربوع بن حنظلة ومعه أدرعه الخمس، وهي الفضفاضة والضيافة والمحصنة والخريق وأم الذيول، وكانت هذه الأدرع يتوارثها بنو آكل المرار ملكا عن ملك، فلما بلغ المنذر أن امرأ القيس استقر عند الحارث المذكور، بعث إليه يتهدده إن لم يسلم إليه بني آكل المرار فسلمهم إليه، ونجا امرؤ القيس بما قدر على أخذه معه من المال والسلاح والأدرع المذكورة، فلجأ إلى السموأل بن عادياء الغساني ثم اليهودي مذهبا، وكان معه فزاري يدعى الربيع، فقال له: امدح السموأل فإن الشعر يعجبه. فنزل به وأنشده مديحه فيه، فأكرم مثواه، وترك عنده ابنته هند، وكتب له كتابا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وأمره أن يوصله إلى قيصر ففعل، ولما وصل إلى قيصر قبله وأكرمه وأمده بجيش كثيف، وفيهم جماعة من أبناء الملوك، وكان رجل يقال له الطماح من بني أسد واجدا على امرئ القيس؛ لأنه قتل أخاه فيمن قتل، فاندس إلى قيصر وقال له: إن امرأ القيس عاهر، وإنه لما انصرف عنك ذكر أن ابنتك عشقته، وأنه كان يواصلها، وهو قائل في ذلك شعرا يشهرها به في العرب ويفضحها. فبعث إليه حينئذ بحلة منسوجة بالذهب، وأودعها سما قاتلا، وكتب إليه: «إني أرسلت إليك حلتي التي كنت ألبسها تكرمة لك، فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة، واكتب إلي بخبرك من منزل منزل.» فلما وصلت إليه لبسها واشتد سروره بها، فأسرع فيه السم وسقط جلده؛ فلذلك سمي «ذا القروح»، وعلم أن الطماح هو سبب ذلك، فقال سينيته التي منها:

لقد طمح الطماح من بعد أرضه

ليلبسني من دائه ما تلبسا

ومنها:

وبدلت قرحا داميا بعد صحة

لعل منايانا تحولن أبؤسا

فلما وصل إلى بلدة من بلاد الروم يقال لها أنقرة، احتضر بها وقال: «رب طعنة مثعنجره، وخطبة مسحنفره، تبقى غدا بأنقره.» ويروى في هذه الكلمات غير ذلك. وقال ابن الكلبي: هذا آخر شيء تكلم به ثم مات، قيل: رأى قبر امرأة ماتت هناك وهي غريبة، فدفنت في سفح جبل يقال له: عسيب، فسأل عنها وأخبر بقصتها فقال:

أجارتنا إن المزار قريب

وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان ها هنا

وكل غريب للغريب نسيب

ثم مات ودفن إلى جنب المرأة فقبره هناك. كذا قال أبو الفرج الأصبهاني وهو غلط محض؛ لأن عسيبا جبل بعالية نجد، وأنقرة من بلاد الروم، ولا يدل ضربه المثل بإقامة عسيب على أنه دفن به.

شيء من سيرته

وروي أن امرأ القيس آلى أن لا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنتين، فجعل يخطب النساء، فإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر، فبينا هو يسير في جوف الليل إذ هو برجل يحمل له ابنة صغيرة كأنها البدر في ليلة تمامه، فأعجبته فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنتان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنتان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها فزوجه إياها، وشرطت عليه أن تسأله ليلة بنائه بها عن ثلاث خصال، فجعل لها ذلك على أن يسوق إليها مائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشر وصائف، وثلاثة أفراس، ففعل ذلك. ثم إنه بعث عبدا له إلى المرأة، وأهدى إليها نحيا من سمن، ونحيا من عسل، وحلة من عصب، فنزل العبد ببعض المياه فنشر الحلة ولبسها، فتعلقت بشعرة، فانشقت وفتح النحيين فأطعم أهل الماء منهما فنقصا، ثم قدم على حي المرأة وهم خلوف، فسألها عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع إليها هديتها، فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا، وأن أمي ذهبت تشق النفس نفسين، وأن أخي يراعي الشمس، وأن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكما نضبا. فقدم الغلام على مولاه فأخبره فقال: أما قولها: «إن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا.» فإن أباها ذهب يحالف قوما على قومه، وأما قولها: «ذهبت أمي تشق النفس نفسين.» فإن أمها ذهبت تقبل امرأة نفساء، وأما قولها: «إن أخي يراعي الشمس.» فإن أخاها في سرح له.

وكان امرؤ القيس مفركا لا تحبه النساء، ولا تكاد امرأة تصبر معه، فتزوج امرأة من طيئ فابتنى بها فأبغضته من ليلتها، وكرهت مكانها معه، فجعلت تقول: يا خير الفتيان أصبحت. فيرفع رأسه، فينظر فإذا الليل كما هو، فتقول: أصبح ليل. قال لها: قد علمت ما صنعت الليلة، وقد علمت أن ما صنعت من كراهية مكاني في نفسك، فما الذي كرهت مني؟ فقالت: ما كرهتك. فلم يزل بها حتى قالت: كرهت منك أنك خفيف العزلة ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة. وذهب قولها: «أصبح ليل.» مثلا يضرب في الليلة الشديدة التي يطول فيها الشر. حكى هذه القصة الميداني. وروي من غير هذا الوجه أنه لما جاور في طيئ نزل به علقمة الفحل التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أشعر منك فتحاكما إليها، فأنشد امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها:

خليلي مرا بي على أم جندب

نقض لبانات الفؤاد المعذب

حتى مر بقوله:

فللسوط ألهوب وللساق درة

وللزجر منه وقع أهوج منعب

وأنشد علقمة قوله:

ذهبت من الهجران في غير مذهب

ولم يك حقا كل هذا التجنب

حتى انتهى إلى قوله:

فأدركهن ثانيا من عنانه

يمر كغيث رائح متحلب

فقالت له: علقمة أشعر منك. فقال: وكيف؟ فقالت: لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك، وضربته بسوطك، وإنه أدرك الصيد ثانيا من عنان فرسه. فغضب امرؤ القيس وقال: ليس كما قلت، ولكنك هويته، فطلقها فتزوجها علقمة، وبهذا لقب علقمة الفحل.

مماتنته الشعراء

وكان امرؤ القيس ينازع من يدعي الشعر، فنازع الحارث بن التوءم اليشكري، فقال: إن كنت شاعرا فأجز أنصاف ما أقول. فقال الحارث: قل ما شئت.

فقال امرؤ القيس:

أحار ترى بريقا هب وهنا

فقال الحارث:

كنار مجوس تستعر استعارا

فقال امرؤ القيس:

أرقت له ونام أبو شريح

فقال الحارث:

إذا ما قلت قد هدأ استطارا

فقال امرؤ القيس:

كأن هزيزه بوراء غيب

فقال الحارث:

عشار واله لاقت عشارا

فقال امرؤ القيس:

فلما أن دنا لقفا أضاخ

فقال الحارث:

وهت أعجاز ريقه فحارا

فقال امرؤ القيس:

فلم يترك بذات السر ظبيا

فقال الحارث:

ولم يترك بجلتها حمارا

قال أبو حيان في شرح التسهيل: هذه القصة رد على من شرط في الكلام صدوره من شخص واحد، يعني أن النحاة يقولون: إذا قال شخص: زيد، وقال آخر: قائم، لا يسمى هذا كلاما عندهم. وما قاله أبو حيان واضح في بعض هذا الرجز.

ولقي عبيد بن الأبرص الأسدي امرأ القيس يوما فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال له: ألق ما شئت، فقال عبيد:

ما حية ميتة أحيت بميتتها

درداء ما أنبتت سنا وأضراسا

وروي: ما حية ميتة قامت ... فقال امرؤ القيس:

تلك الشعيرة تسقى في سنابلها

فأخرجت بعد طول المكث أكداسا

في عدة أبيات، إلى أن قال عبيد:

ما القاطعات لأرض الجو في طلق

قبل الصباح وما يسرين قرطاسا

فقال امرؤ القيس:

تلك الأماني تتركن الفتى ملكا

دون السماء ولم ترفع به راسا

فقال عبيد:

ما الحاكمون بلا سمع ولا بصر

ولا لسان فصيح يعجب الناسا

فقال امرؤ القيس:

تلك الموازين والرحمن أنزلها

رب البرية بين الناس مقياسا

وهذه الحكاية رواها علي بن ظافر في كتاب «بدائع البدائه» وفي النفس منها شيء؛ لأن امرأ القيس يبعد تصديقه بالموازين، أما حكاية ابن التوءم فقد نقلها الأعلم وغيره صحيحة.

الفصل الثاني

طرفة بن العبد

مات سنة 70 قبل الهجرة و550 أو 552 للميلاد

نسبه ومكانه في الشعراء

هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. وطرفة - بالتحريك - في الأصل واحدة الطرفاء وهو الأثل، وبها لقب طرفة، واسمه عمرو. وهو أشعر الشعراء بعد امرئ القيس ومرتبته ثاني مرتبة؛ ولهذا ثني بمعلقته. قال عبد القادر البغدادي: ولا يعارض هذا ما تقدم في ترجمة امرئ القيس من الخلاف في الأربعة: امرئ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى؛ لأن المراد معلقته فقط إذ ليس له فيما عداها ما يوازن حوليات زهير.

قال ابن قتيبة: هو أجود الشعراء قصيدة، وله بعد المعلقة شعر حسن، وليس عند الرواة من شعره وشعر عبيد إلا القليل، وهذا الكلام وقفت عليه في بعض كتب الجاحظ، قال: وإلا لكانت منزلتهما دون ما يقال، وهذا يستقيم في عبيد؛ لأنه عمر كثيرا، أما طرفة فإنه قتل وهو ابن ست وعشرين سنة كما قالت أخته:

عددنا له ستا وعشرين حجة

فلما توافاها استوى سيدا ضخما

فجعنا به لما رجونا إيابه

على خير حال لا وليدا ولا قحما

وقول عبد القادر البغدادي إنه في الرتبة الثانية من الشعر مخالف لقول ابن سلام فيه؛ فإنه عده في الطبقة الرابعة وقرنه بعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل التميمي، وعدي بن زيد العبادي. قال: فأما طرفة فأشعرهم واحدة وهي قوله:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

ويليها أخرى مثلها وهي:

أصحوت اليوم أم شاقتك هر

ومن الحب جنون مستعر

ثم من بعد له قصائد حسان جياد، قال محمد بن خطاب: قال الذين قدموا طرفة هو أشعرهم إذ بلغ بحداثة سنه ما بلغ القوم في طول أعمارهم، وإنما بلغ نيفا وعشرين سنة، وقيل: بل عشرين سنة، فخب وركض معهم.

ذكاؤه وشيء من خبره

وكان طرفة في صغره ذكيا حديد الذهن، حضر يوما مجلس عمرو بن هند، فأنشد المسيب بن علس قصيدته التي يقول فيها:

وقد تلاقى الهم عند احتضاره

بناج عليه الصيعرية مكدم

فقال طرفة: استنوق الجمل. وذلك أن الصيعرية من سمات النوق دون الفحول، فغضب المسيب، وقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: طرفة بن العبد. فقال: ليقتلنه لسانه. فكان كما تفرس فيه.

ومات أبو طرفة وهو صغير، فأبى أعمامه أن يقسموا ماله، وكانت أم طرفة من بني تغلب واسمها وردة فقال:

ما تنظرون بحق وردة فيكم

صغر البنون ورهط وردة غيب

قد يبعث الأمر العظيم صغيره

حتى تظل له الدماء تصبب

والظلم فرق بين حيي وائل

بكر تساقيها المنايا تغلب

في أبيات. ويقال: إن أول شعر قاله أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخا فلما أراد الرحيل قال:

يا لك من قبرة بمعمر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري

قد رفع الفخ فماذا تحذري

لا بد يوما أن تصادي فاحذري

والأشطار الثلاثة الأولى مذكورة في قصة كليب، وهو أقدم من طرفة. ويروى أن النبي

صلى الله عليه وسلم

تمثل بقوله: «بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد.» ولعل المراد أنه تمثل به مقلوبا أو نحو ذلك؛ لأن الله ما علمه الشعر وما ينبغي له.

خبر مقتله

وسبب قتله أنه هجا عمرو بن هند وقابوس أخاه بقصيدته التي منها:

فليت لنا مكان الملك عمرو

رغوثا حول قبتنا تخور

ومنها:

لعمرك أن قابوس بن هند

ليخلط ملكه نوك كبير

فلم تبلغ عمرا لأنه كان لا يجسر أحد أن يخبره لشدة بأسه، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة؛ لشدة بأسه. فاتفق أن عمرو بن هند هذا خرج يوما للصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفر من أصحابه، حتى أصاب طريدته، فنزل وقال لأصحابه: اجمعوا حطبا. وفيهم عبد عمرو بن مرثد أحد أقارب طرفة، فقال لهم عمرو: أوقدوا. فأوقدوا وشووا، فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو يقدم إليه إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقا، فأبصر كشحه، وكان من أحسن أهل زمانه جسما، وقد كان بينه وبين طرفة أمر وقع بينهما منه شر، فهجاه طرفة بقصيدته التي يقول فيها:

ولا خير فيه غير أن له غنى

وأن له كشحا إذا قام أهضما

فقال له عمرو بن هند: يا عبد عمرو لقد أبصر طرفة كشحك حيث يقول: «ولا خير فيه غير أن له غنى ...» البيت، فغضب عبد عمرو وقال: لقد قال في الملك أقبح من هذا. فقال عمرو بن هند: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو على الذي سبق منه وأبى أن يسمعه ما قال، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن. فأسمعه القصيدة، فسكت عمرو على ما وقر في نفسه، وكره أن يعجل عليه لمكان قومه، فلما طالت المدة ظن طرفة أنه قد رضي عنه، وكان المتلمس - وهو جرير بن عبد المسيح - هجا عمرو بن هند أيضا، فقدما إليه فجعل يريهما المحبة ليأنسا به، فلما طال مقامهما عنده قال لهما: لعلكما اشتقتما إلى أهلكما. قالا: نعم. فكتب لهما إلى عامله بالبحرين وهجر واسمه ربيعة بن الحارث العبدي - وقيل: اسمه المعكبر - فلما هبط النجف - وقيل: أرضا قريبة من الحيرة - إذا هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقتل القمل، فقال له المتلمس: بالله ما رأيت شيخا أحمق منك، ولا أقل عقلا. فقال له الشيخ: وما الذي أنكرت علي؟ فقال: تتبرز وتأكل وتقتل القمل! قال: إني أخرج خبيثا، وأدخل طيبا، وأقتل عدوا، ولكن أحمق مني من يجعل حتفه بيمينه وهو لا يدري. فتنبه المتلمس، فإذا هو بغلام من أهل الحيرة، فقال له: يا غلام أتقرأ؟ قال: نعم. ففتح كتابه ودفعه إليه، فلما نظر إليه، قال: ثكلت المتلمس أمه. وإذا في الكتاب: «إذا أتاك المتلمس، فاقطع يديه ورجليه، وادفنه حيا.» فرمى المتلمس صحيفته في نهر يقال له: كافر، وفي ذلك يقول:

وألقينها بالثنى من بطن كافر

كذلك أقنو كل قط مضلل

وضرب بصحيفته المثل، ثم تبع طرفة ليرده فلم يدركه، وقيل بل أدركه، وقال له: تعلم أن ما كتب فيك إلا بمثل ما كتب في، فقال طرفة: إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ علي. فهرب المتلمس إلى الشام، وانطلق طرفة إلى العامل المذكور، حتى قدم عليه بالبحرين وهو بهجر، فدفع إليه كتاب عمرو بن هند فقرأه، فقال: تعلم ما أمرت به فيك؟ قال: نعم أمرت أن تجيزني وتحسن إلي. فقال له العامل: إن بيني وبينك خئولة أنا لها راع، فاهرب من ليلتك هذه، فإني قد أمرت بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال له طرفة: اشتدت عليك جائزتي، وأحببت أن أهرب، وأجعل لعمرو بن هند علي سبيلا، كأني أذنبت ذنبا، والله لا أفعل ذلك أبدا، فلما أصبح أمر بحبسه، وجاءت بكر بن وائل فقالت: قدم طرفة فدعا به صاحب البحرين، فقرأ عليهم كتاب الملك، ثم أمر بطرفة فحبس وتكرم عن قتله، وكتب إلى عمرو بن هند أن ابعث إلى عملك فإني غير قاتل الرجل. فبعث إليه عمرو بن هند رجلا من بني تغلب يقال له عبد هند، واستعمله على البحرين، وكان رجلا شجاعا، وأمره بقتل طرفة وقتل ربيعة بن الحارث العبدي فقدمها عبد هند، فقرأ عهده على أهل البحرين، ولبث أياما، واجتمعت بكر بن وائل فهمت به، وكان طرفة يحضهم وانتدب له رجل من عبد القيس، ثم من الحواثر يقال له أبو ريشة فقتله، فقبره معروف بهجر بأرض منها لقيس بن ثعلبة. ويزعمون أن الحواثر ردته إلى أبيه وقومه لما كان من قتل صاحبهم إياه كذا قال ابن السكيت: ويعارضه ما تقدم من أن أباه مات وهو صغير. ولما حبسه العبدي المتقدم بعث إليه بجارية اسمها خولة فلم يقبلها، وفي ذلك يقول:

ألا اعتزليني اليوم يا خول أو غضي

فقد نزلت حدباء محكمة العض

ومنها البيت المشهور يخاطب به عمرو بن هند:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشر أهون من بعض

الفصل الثالث

زهير بن أبي سلمى

مات سنة 14 قبل الهجرة و608 للميلاد

نسبته وكنيته

هو زهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني، من مزينة بن أدبن طابخة بن إلياس بن مضر، وكانت محلتهم في بلاد غطفان: «وسلمى بضيم السين، وليس في العرب سلمى بضم السين غيره، ورياح بكسر الراء، وبعدها مثناة تحتية.»

طبقته في الشعراء

وزهير أحد الشعراء الثلاثة المتقدمين على الشعراء بالاتفاق، وإنما اختلفوا في تعيين أيهم أشعر على الآخر، وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني. كذا قال عبد القادر البغدادي، وتقدم في ترجمة امرئ القيس أن الأعشى داخل في ذلك الخلاف، وأهل الكوفة يقدمونه. وفي الجمهرة لابن خطاب باب ذكر طبقة من سمينا منهم، قال أبو عبيدة: أشعر الناس أهل الوبر خاصة وهم امرؤ القيس وزهير والنابغة. ولم يذكر صاحب الأغاني الأعشى مع هؤلاء. وقال عمر بن الخطاب لابن عباس رضي الله عنهم: هل تروي لشاعر الشعراء؟ قال: ومن هو؟ قال: الذي يقول:

ولو أن حمدا يخلد الناس خلدوا

ولكن حمد الناس ليس بمخلد

قال ابن عباس: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قال ابن عباس: وبم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدا إلا بما فيه . وفي رواية أنه قال له: أنشدني له. قال ابن عباس: فأنشدته حتى برق الفجر، فقال: حسبك الآن، اقرأ. قال: قلت: فما أقرأ؟ قال: اقرأ الواقعة. قال: فقرأتها فنزل فأذن وصلى.

وسمر بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري وهو والي البصرة ليلة، فقال لأهل سمره: أخبروني بالسابق والمصلي. فقالوا: أخبرنا أنت أيها الأمير. وكان أعلم العرب بالشعر، فقال: السابق الذي سبق بالمدح فقال:

وما يك من خير أتوه فإنما

توارثه آباء آبائهم قبل

وأما المصلي - يعني النابغة - فهو الذي يقول:

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

وسأل عكرمة بن جرير أباه: من أشعر الناس؟ قال: أعن الجاهلية تسألني أم عن الإسلام؟ قال: قلت: ما أردت إلا الإسلام، فإذا ذكرت الجاهلية فأخبرني عن أهلها. قال: زهير أشعر أهلها. قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق نبغة الشعر. قلت: فالأخطل؟ قال: يجيد مدح الملوك، ويصيب وصف الخمر. قلت: فما تركت لنفسك؟ قال: نحرت الشعر نحرا.

وسأل معاوية الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، فقال: زهير. قال: وكيف ذاك؟ قال: كف عن المادحين فضول الكلام. قال: بماذا؟ قال: بقوله: «وما يك من خير أتوه ...» البيت المتقدم.

اختصاص زهير بهرم بن سنان

وعن الأصمعي، قال: قال عمر - رضي الله عنه - لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني مدح زهير أباك. فأنشده فقال عمر: إن كان ليحسن القول فيكم، فقال: ونحن - والله - إن كنا لنحسن له العطاء. فقال: ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم. قال: وبلغني أن هرم بن سنان كان قد حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدا أو وليدة أو فرسا، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: انعموا صباحا غير هرم وخيركم استثنيت. وعطايا هرم لزهير مشهورة، قال محمد البوصيري - رحمه الله - يخاطب رسول الله

صلى الله عليه وسلم :

ولم أرد زهرة الدنيا التي اقتطفت

يدا زهير بما أثنى على هرم

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض ولد زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لا يبليها الدهر. وروي أن عائشة - رضي الله عنها - خاطبت إحدى بنات زهير بهذه المقالة.

إجادته في الشعر وحولياته

وكان زهيرا حكيما في شعره، ويكفي من ذلك ما في معلقته قال:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

وشبه امرأة بثلاثة أوصاف في بيت واحد فقال:

تنازعها المها شبها ودر ال

بحور وشاكهت فيها الظباء

وروي «النحور» موضع «البحور»، و«شابهت» موضع «شاكهت». ثم قال ففسر:

فأما ما فويق العقد منها

فمن أدماء مرتعها الخلاء

وأما المقلتان فمن مهاة

وللدر الملاحة والصفاء

وروي أن زهيرا كان ينظم القصيدة في شهر، وينقحها ويهذبها في سنة، ثم يعرضها على خواصه، ثم يذيعها بعد ذلك، وكانت تسمى قصائده الحوليات، قالوا: وهي أربع:

قف بالديار التي لم يعفها القدم

بلى وغيرها الأرواح والديم •••

إن الخليط أجد البين فانفرقا

وعلق القلب من أسماء ما علقا •••

بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا

وزودوك اشتياقا أية سلكوا •••

لمن طل بريمة لا يريم

عفا وخلاله حقب قديم

عقيدته

قال ابن قتيبة: وكان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ويدل على إيمانه بالبعث قوله:

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجل فينقم

وروي أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

نظر إلى زهير وله مائة سنة، فقال: «اللهم أعذني من شيطانه.» فما لاك بعد ذلك بيتا حتى مات. وكان زهير رأى في منامه في آخر عمره أن آتيا أتاه فحمله إلى السماء، حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتضر قص رؤياه على ولده كعب، ثم قال: إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه. ثم مات قبل المبعث بسنة، وقصة ابنه بجير لما أسلم، وتخويفه لأخيه كعب من رسول الله

صلى الله عليه وسلم

إن لم يؤمن ويجئ طائعا، ومجيء كعب وإنشاده بردته بين يدي رسول الله

صلى الله عليه وسلم

معلومة.

الفصل الرابع

لبيد بن ربيعة

مات سنة 40 للهجرة و660 للميلاد

نسبه

هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر. وكان يقال لأبيه: ربيعة المقترين لجوده. ومات أبوه وهو صغير في حرب كانت بين بني عامر وبني لبيد، وأم لبيد عبسية اسمها تامرة بنت زنباع.

طبقته في الشعراء

ولبيد معدود من الشعراء المجيدين والفرسان المشهورين ومن المعمرين، وعده ابن سلام في الطبقة الثالثة، وقرنه بنابغة بني جعدة وأبي ذؤيب الهذلي والشماخ. قال ابن سلام: فأما الشماخ فكان شديد متون الشعر أشد أسر كلام من لبيد، وفيه كزازة، ولبيد أسهل منه منطقا. وسئل هو: من أشعر العرب؟ فقال: الملك الضليل. يعني امرأ القيس، فقال له السائل: ثم من؟ فقال: الغلام القتيل. يعني طرفة، فقال له السائل: ثم من؟ فقال: الشيخ أبو عقيل. يعني نفسه، وروي أن النابغة استنشده وهو شاب عند باب النعمان بن المنذر، فأنشده قصيدته التي أولها:

ألم تلمم على الدمن الخوالي

لسلمى بالمذانب فالقفال

فقال له النابغة: أنت أشعر بني عامر، زدني. فأنشده:

طلل لخولة بالرسيس قديم

بمعاقل فالأنعمين وشوم

فقال له: أنت أشعر هوازن، زدني. فأنشده قوله:

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأبد غولها فرجامها

المعلقة. فقال له النابغة: اذهب فأنت أشعر العرب. وروي أن الفرزدق مر بمسجد بني أقيصر بالكوفة، وعليه رجل ينشد قول لبيد:

وجلا السيول عن الطلول كأنها

زبر تجد متونها أقلامها

فسجد فقيل له: ولم يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر.

وبالجملة فمحل لبيد في الشعر مشهور، وقال من قدمه على غيره: إنه أقل الشعراء لغوا في شعره، وحكمه في شعر كثيرة، ولم يصح أنه قال بعد إسلامه إلا قوله:

ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه القرين الصالح

خبره مع الربيع بن زياد

وكان لبيد في صغره تلوح عليه مخايل النجابة، ومات أبوه وهو صغير، وكانت بين بني عبس وبني عامر عداوة، فوفد بنو زياد المشهورون، وهم: عمارة وأنس وقيس والربيع العبسيون على النعمان بن المنذر، ووفد عليه العامريون بنو أم البنين، وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب ملاعب الأسنة، وكان العامريون ثلاثين رجلا، وفيهم لبيد بن ربيعة وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان، وكان النعمان يقدمه على من سواه، وكان يدعى الكامل سمته أمه بذلك لقصة مشهورة استشارت فيها إخوته فلم يشيروا عليها بالصواب، فأشار هو به، وكان أصغرهم.

فضرب النعمان قبة على أبي براء، وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، وكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فتفاخر يوما العبسيون والعامريون عند النعمان، فكاد العبسيون يغلبون العامريين، وكان الربيع إذا خلا بالنعمان يطعن فيهم، ويذكر معايبهم، ففعل ذلك مرارا، فنزع النعمان القبة التي كان ضربها على أبي براء وقومه، وقطع النزل، ودخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء، وقد كان قبل ذلك يكرمهم ويقدم مجلسهم فخرجوا من عنده غضابا، وهموا بالانصراف، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم ويرعاها، فإذا أمسى انصرف بها فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم: ما لكم تتناجون؟ فكتموه، وقالوا له: إليك عنا. فقال لهم: أخبروني فلعل لكم عندي فرجا. فزجروه، فقال: لا والله لا أحفظ لكم، ولا أسرح لكم بعيرا أو تخبروني.

وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع، فقالوا له: إن خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه، فقال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدا حين يقعد الملك، فأرجز به رجزا ممضا مؤلما لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدا؟ فقالوا له: وهل عندك ذلك؟ قال: نعم. قالوا: إنا نبلوك بشتم هذه البقلة. وقدامهم بقلة دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض تدعى التربة، فاقتلعها من الأرض وأخذ بيده، وقال: هذه التربة التفلة الرذلة التي لا تذكي نارا ولا تسر جارا عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعا، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعا، فحربا لجارها وجدعا. القوا بي أخا عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس. فقالوا له: نصبح ونرى فيك رأينا.

فقال لهم عامر: انظروا إلى غلامكم هذا فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء إنما تكلم بما جرى على لسانه، وإن رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم. فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلا يكدم واسطته حتى أصبح، فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبه. فحلقوا رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع، وليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفود، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترضهم الربيع في كلامهم، فقام لبيد وقد دهن إحدى شقي رأسه، وأرخى مئزره، وانتعل نعلا واحدة، وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء فمثل بين يديه، ثم قال:

يا رب هيجا هي خير من دعه

إذ لا تزال هامتي مقزعه

نحن بني أم البنين الأربعه

ونحن خير عامر بن صعصعه

المطعمون الجفنة المدعدعه

والضاربون الهام تحت الخيضعه

مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه

إن استه من برص ملمعه

وإنه يدخل فيها إصبعه

يدخله حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئا أودعه

فلما فرغ لبيد التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزرا، وقال: كذلك أنت يا ربيع! فقال: كذب - والله - ابن الحمق اللئيم. فقال النعمان: أف لهذا الغلام لقد خبث علي طعامي! فقال الربيع: أبيت اللعن أما إني قد فعلت بأمه. لا يكنى، وكانت في حجره، فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أما إنها من نسوة غير فعل، وأنت المرء. قال هذا في يتيمته، وروي أنه قال له: أما إنها من نسوة غير فعل. وإنما قال له ذلك تبكيتا له وتنديدا على قومه؛ لأنها عبسية فنسبها إلى القبيح، وصدقه عليه تهجينا له ولقومه، فأمر الملك بهم جميعا، فأخرجوا، وأعاد على أبي براء القبة، وقضى حوائج الجعفريين من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحا حتى تبعث إلي من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعا باتقائك مما قال لبيد شيئا، ولا قادرا على ما زلت به الألسن، فالحق بأهلك. فلحق بأهله، وأرسل إلى النعمان بأبيات، فأجابه بأبيات من بحرها ورويها منها:

قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا

فما اعتذارك من قول إذا قيلا

وقطعه من ذلك الوقت.

شيء من سيرته

وكان لبيد من فرسان هوازن، وكان الحارث الغساني - وهو الأعرج - وجه إلى المنذر بن ماء السماء مائة فارس، وأمر عليهم لبيدا، فساروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنهم أتوه داخلين عليه في طاعته، فلما تمكنوا منه قتلوه، وركبوا خيلهم، فقتل أكثرهم، ونجا لبيد، فأتى ملك غسان، فأخبره فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم، فكان ذلك يوم حليمة الذي يقول فيه الشاعر:

تخيرن من أزمان يوم حليمة

إلى اليوم قد جربن كل التجارب

وحليمة هي بنت ملك غسان، وكان أربد بن قيس المشهور أخا لبيد من أمه، وكان يحبه، وأربد هذا خرج مع عامر بن الطفيل ليغدرا برسول الله

صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليهما في قصة مشهورة، فمات عامر قبل أن يصل إلى أهله، ومات أربد بعد وصوله بقليل بسبب صاعقة أنزلها الله عليه، ورثاه لبيد بقصائد مشهورة تركناها خوف الإطالة، ومنها بيته المشهور:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

حدث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تنشد بيت لبيد هذا، وتقول: رحم الله لبيدا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ فقال عروة: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت من نحن بين ظهرانيهم؟ وقال هشام بن عروة: رحم الله أبي، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ وقال أبو السائب: رحم الله وكيعا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ وقال أبو جعفر: رحم الله أبا السائب، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟ قال أبو الفرج الأصبهاني: ونحن نقول: الله المستعان، فالقصة أعظم من أن توصف.

ومر لبيد بمكة في أول ظهور الإسلام بها، وكان عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، فرده عليه قبل ذلك، فاتفق أنه مر بنادي قريش ومعهم لبيد ينشدهم شعره، فلما أنشدهم قوله:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

قال عثمان: صدقت، فلما قال:

وكل نعيم لا محالة زائل

قال: كذبت. فلم يدر القوم ما عنى به عثمان، فأشار بعضهم إلى لبيد أن يعيد، فأعاد فصدقه في النصف الأول، وكذبه في النصف الآخر؛ لأن نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش ما كان مثل هذا يكون في مجالسكم، فقام أبي بن خلف أو ابنه فلطم عين عثمان في قصة مشهورة.

حاله في الإسلام

وأسلم لبيد - رضي الله عنه - وحسن إسلامه، وكان من المؤلفة قلوبهم هو وعلقمة بن علاثة، قال ابن عبد البر: وروى صاحب الأغاني بسنده إلى ابن الكلبي والأصمعي أنه قدم في وفد بني جعفر بن كلاب على رسول الله

صلى الله عليه وسلم

بعد موت أخيه أربد، فأسلم وحسن إسلامه وهاجر، وهذا يقتضي أن إسلامه قبل الفتح، ونزل الكوفة في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وروي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام، فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي، فقال له أنشدني فقال:

أرجزا تريد أم قصيدا

لقد طلبت هينا موجودا

ثم أرسل إلى لبيد، فقال: أنشدني. فقال: إن شئت ما عفي عنه. يعني شعره في الجاهلية، فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة، ثم أتى بها، وقال: أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر، فكتب بذلك المغيرة إلى عمر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة، وجعلها في عطاء لبيد، فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة، فكتب الأغلب إلى عمر يا أمير المؤمنين: أتنقص عطائي إن أطعتك؟ فرد عليه خمسمائة، ولما صار الأمر إلى معاوية أراد أن ينقص عطاءه، فقال: هذان الفودان - يعني الألفين - فما بال العلاوة - يعني الخمسمائة. يريد أنه ترك عطاءه ألفين فقط، فقال لبيد: إنما أنا هامة اليوم أو غد، فأعدني اسمها فلعلي لا أقبضها. فرق له معاوية، فترك عطاءه على حاله، فمات لبيد ولم يقبضه.

جوده وكرمه

وكان لبيد من الأجواد المشهورين نذر في الجاهلية أن لا تهب الصبا إلا أطعم، وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم، فهبت الصبا يوما والوليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر، فخطب الناس، ثم قال: إن أخاكم لبيدا قد نذر في الجاهلية أن لا تهب الصبا إلا أطعم، وهذا اليوم من أيامه، وقد هبت الصبا فأعينوه، وأنا أول من فعل. ثم نزل عن المنبر، فأرسل إليه مائة بكرة وكتب إليه بأبيات قالها وهي:

أرى الجزار يشحذ شفرتيه

إذا هبضت رياح أبي عقيل

أشم الأنف أصيد عامري

طويل الباع كالسيف الصقيل

وفي ابن الجعفري بحلفتيه

على العلات والمال القليل

بنحر الكوم إذ سحبت عليه

ذيول صبا تجاوب بالأصيل

فلما أتاه الشعر وكان ترك قول الشعر قال لابنة له خماسية: أجيبيه فلقد رأيتني وما أعيى بجواب شاعر. فقالت:

إذا هبت رياح أبي عقيل

ذكرنا عند هبتها الوليدا

أشم الأنف أصيد عبشميا

أعان على مروءته لبيدا

بأمثال الهضاب كأن ركبا

عليها من بني حام قعودا

أبا وهب جزاك الله خيرا

نحرناها فأطعمنا الثريدا

فعد إن الكريم له معاد

وظني بابن أروى أن يعودا

فقال لها لبيد: أحسنت لولا أنك استزدتيه. فقالت: والله ما استزدته إلا أنه ملك، ولو كان سوقة لم أفعل.

مدة عمره ووفاته

وروي أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

قال: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكان لبيد من المعمرين، روي أن الشعبي قال لعبد الملك بن مروان: تعيش يا أمير المؤمنين ما عاش لبيد بن ربيعة. وذلك أنه لما بلغ سبعا وسبعين سنة أنشأ يقول:

باتت تشكي إلي النفس مجهشة

وقد حملتك سبعا بعد سبعينا

فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا

وفي الثلاث وفاء للثمانينا

ثم عاش حتى بلغ تسعين سنة فأنشأ يقول:

كأني وقد جاوزت تسعين حجة

خلعت بها عن منكبي ردائيا

ثم عاش حتى بلغ مائة حجة وعشرا، فأنشأ يقول:

أليس في مائة قد عاشها رجل

وفي تكامل عشر بعدها عمر

ثم عاش حتى بلغ مائة وعشرين سنة فأنشأ يقول:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس كيف لبيد

وقال الإمام مالك بن أنس: بلغني أن لبيدا مات وهو ابن مائة وأربعين سنة، وقيل: إنه مات وهو ابن سبع وخمسين سنة ومائة في أول خلافة معاوية، وقال ابن عفير: مات لبيد سنة إحدى وأربعين من الهجرة يوم دخل معاوية الكوفة، ونزل بالنخيلة، وروي أن عائشة قالت: رويت للبيد اثني عشر ألف بيت.

وصيته

وروي أنه لما حضرته الوفاة قال مخاطبا لابنتيه:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

إذا حان يوما أن يموت أبوكما

فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر

وقولا هو المرء الذي ليس جاره

مضاعا ولا خان الصديق ولا غدر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

روي أنهما كانتا تذهبان إلى قبره كل يوم، ويترحمان عليه، ويبكيان من غير صياح ولا لطم، ثم يمران بنادي بني كلاب يذكران مآثره وينصرفان إلى أن تم الحول.

وقال لابن أخيه لما حضره الموت: إذا قبض أبوك فأقبله القبلة، وسجه بثوبه ولا تصرخن عليه صارخة، وانظر جفنتي اللتين كنت أصنعهما فاصنعهما، ثم احملهما إلى المسجد، فإذا سلم الإمام فقدمهما لهم، فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم. ففعل ذلك.

الفصل الخامس

عمرو بن كلثوم

توفي سنة 52 قبل الهجرة و570 للميلاد

نسبه وخبر ولادته

هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم من تغلب بن وائل. وكان عمرو بن كلثوم شاعرا فارسا، وهو أحد فتاك العرب، وهو الذي فتك بعمرو بن هند كما يأتي، وكنيته أبو الأسود، وأخوه مرة هو الذي قتل المنذر بن النعمان، وأمه أسماء بنت مهلهل بن ربيعة أخي كليب الذي يضرب به المثل في العز. ولما تزوج مهلهل هند بن عتيبة ولدت له جارية، فقال لأمها: اقتليها وغيبيها، فلما نام هتف به هاتف يقول:

كم من فتى مؤمل

وسيد شمردل

وعدد لا يجهل

في بطن بنت مهلهل

فاستيقظ، فقال: أين بنتي؟ فقال: قتلتها. فقال: لا وإله ربيعة. وكان أول من حلف بها، ثم رباها، وسماها أسماء - وقيل ليلى - وتزوجها كلثوم بن مالك، فلما حملت بعمرو أتاها آت في المنام، فقال:

يا لك ليلى من ولد

يقدم إقدام الأسد

من جشم فيه العدد

أقول قولا لا فند

فلما ولدت عمرا أتاها ذلك الآتي فقال:

أنا زعيم لك أم عمرو

بما جد الجد كريم النجر

أشجع من ذي لبد هزبر

وقاص أقران شديد الأسر

يسودهم في خمسة وعشر

وكان كما قال سادهم وهو ابن خمس عشرة سنة، ومات وهو ابن مائة وخمسين سنة.

شجاعته وفتكه

وكان شجاعا مظفرا مقداما، وبه يضرب المثل في الفتك، فيقال: أفتك من عمرو بن كلثوم لفتكه بعمرو بن هند؛ وذلك أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟ فقالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم. قالوا: لأن أباها مهلهل بن ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب وابنها عمرو وهو سيد قومه. فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، ويسأله أن يزير أمه، فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت أمه في ظعن من بني تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه، فضرب فيما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا، فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه، ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب الرواق، وكانت هند عمة امرئ القيس بن حجر، وكانت أم بنت مهلهل بنت أخي فاطمة بنت ربيعة التي هي أم امرئ القيس، وبينهما هذا النسب، وقد كان عمرو بن هند أمر أمه أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف، وتستخدم ليلى [فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطرف. فقالت هند: ناوليني يا ليلى ذلك الطبق. فقالت ليلى]: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها. فأعادت عليها وألحت، فصاحت ليلى: وا ذلاه! يا لتغلب! فسمعها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، فنظر إليه عمرو بن هند فعرف الشر في وجهه فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره، فضرب رأس عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، فانتهبوا ما في الرواق، وساقوا نجائبه، وساروا نحو الجزيرة. وزادت شهرته بعد قتل عمرو بن هند، ودخله زهو عظيم إلى أن تناضل هو ويزيد بن عمرو السحيمي، فصرعه السحيمي عن فرسه وأسره، فشده في القيد، وقال له أنت الذي تقول:

متى نعقد قرينتنا بحبل

نجد الحبل أو نقص القرينا

أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه، فأطردكما جميعا. فنادى عمرو بن كلثوم: يا لربيعة أمثلة! فاجتمعت بنو لجيم، فنهوا يزيد، ولم يكن يريد ذلك به، إنما كان يبكته، فسار به حتى أتى قصرا بحجر من قصورهم، فضرب عليه قبة، ونحر له، وكساه، وحمله على نجيبة.

السبب في قول معلقته

ولما فتك عمرو بن هند قال معلقته، وخطب بها في سوق عكاظ وفي موسم مكة وبنو تغلب يعظمونها جدا، ويرويها صغارهم وكبارهم، حتى هجاهم بذلك بعض بني بكر بن وائل، فقال:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يروونها أبدا مذ كان أولهم

يا للرجال لشعر غير مشئوم

خبر موته

وعمرو بن كلثوم معدود في المعمرين، روي أنه عاش مائة وخمسين سنة، ولما حضره الموت جمع بنيه، وقال: يا بني قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت، وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله إن كان حقا فحقا، وإن كان باطلا فباطلا، من سب سب، فكفوا عن الشتم إنه أسلم لكم، وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم، وامنعوا من ضيم الغريب، فرب رجل خير من ألف، ورد خير من خلف، وإذا حدثتم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا؛ فإن مع الإكثار يكون الإهذار، وأشجع القوم العطوف بعد الكرة، كما أن أكرم المنايا القتل، ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا إذا عوتب لم يعتب، ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكؤه خر من دره، وعقوقه خير من بره، ولا تتزوجوا في حيكم، فإنه يؤدي إلى قبيح البغض.

الفصل السادس

عنترة بن شداد

توفي سنة 22 قبل الهجرة و600 للميلاد

نسبه ولقبه

هو عنترة بن شداد، وقيل: ابن عمرو بن شداد، وقيل: عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد، وقال عبد القادر البغدادي: ابن قرادة بن مخزوم ربيعة، وقيل: مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. ويلقب بعنترة الفلحاء «ذهبوا به إلى تأنيث الشفة، مأخوذ من الفلح، وهو انشقاق الشفة السفلى كما أن الأعلم مأخوذ من العلمة، وهي انشقاق الشفة العليا».

مكانته وشهرته

وهو أحد فرسان العرب المشهورين وأجوادهم المعروفين وأحد الأغربة الجاهليين. قال صاحب الأغاني: وهم عنترة وأمه زبيبة، وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة، والسليك بن عمير السعدي وأمه السلكة، وإليهن ينسبون. وكذا اقتصر عبد القادر البغدادي على هؤلاء الثلاثة، وفي القاموس: وأغربة العرب سودانهم، والأغربة في الجاهلية عنترة وخفاف بن ندبة وعمير بن الحباب وسليك بن السلكة وهشام بن عقبة بن أبي معيط إلا أنه مخضرم قد ولد في الإسلام، ومن الإسلاميين عبد الله بن خازم وعمير بن أبي عمير وهمام بن مطرف ومنتشر بن وهب ومطر بن أوفى وتأبط شرا والشنفرى وحاجز غير منسوب. وكذا عدهم صاحب اللسان.

وكان أبوه نفاه واستعبده على عادة العرب مع أبناء الإماء؛ فإنهم يستعبدونهم إلا إذا ظهرت عليهم النجابة، وكان إخوته من أمه عبيدا، وكانت امرأة أبيه واسمها سمية - وقيل: سمينة، وقيل: سهية - حرشت عليه أباه، وادعت أنه راودها عن نفسها، فغضب أبوه وضربه ضربا شديدا، فوقعت عليه سمية المذكورة، وكان أبوه يريد أن يقتله، فقال فائيته التي أولها:

أمن سمية دمع العين مذروف

لو أن ذا منك قبل اليوم معروف

القصيدة.

أول ما ظهر من أمره

وسبب اعتراف أبيه به أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس، فأصابوا منهم، واستاقوا إبلا لهم، فلحقوا بهم، فقاتلوهم عما معهم، وعنترة يومئذ فيهم، فقال أبوه: كر يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وهو يقول:

أنا الهجين عنتره

كل امرئ يحمي حره

أسوده وأحمره

والواردات مسفره

فادعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه، وقيل إن السبب في استلحاقه إياه أن عبسا أغاروا على طيئ أصابوه نعما، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا تقسم لك نصيبا مثل أنصبائنا لأنك عبد. فلما طال الخطب بينهم كرت عليهم طيئ، فاعتزلهم عنترة، وقال: دونكم القول فإنكم عددهم. واستنقذت طيئ الإبل، فقال له أبوه: كر يا عنترة. فقال: أويحسن العبد الكر؟ فقال له أبوه: العبد غيرك. فاعترف به فكر، واستنقذ الإبل من طيئ، وجعل يرتجز بالرجز المتقدم.

شجاعته

وشجاعة عنترة أشهر من نار على علم، وروي أن عمرو بن معدي كرب - وكان معاصرا له - قال: لو سرت بظعينة وحدي على مياه معد كلها ما خفت أن أغلب عليها ما لم يلقني حراها أو عبداها، فأما الحران فعامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأما العبدان فأسود بني عبس - يعني عنترة - والسليك بن السلكة، وكلهم قد لقيت، فأما عامر بن الطفيل فسريع الطعن على الصوت، وأما عتيبة فأول الخيل إذا أغارت وآخرها إذا آبت، وأما عنترة فقليل الكبوة، شديد الجلب، وأما السليك فبعيد الغارة كالليث الضاري.

وقيل لعنترة: أنت أشعر العرب وأشدها. قال: لا. قيل له: فبم شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الأحجام حزما، ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنا ألف فارس حازم. قال: وكيف يكون ذلك؟ قال: كان فينا قيس بن زهير، وكان حازما، فكنا لا نعصيه، وكان فارسنا عنترة، فكنا نحمل إذا حمل، ونحجم إذا حجم، وكان فينا الربيع بن زياد، وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه، وكان فينا عروة بن الورد، فكنا نأتم بشعره، فكنا كما وصفت لك. فقال عمر: صدقت، وروي أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

قال: «ما وصف لي أعرابي فأحببت أن أراه إلا عنترة.»

سبب موته

واختلف في سبب موته، فقيل إنه أغار على بني نبهان من طيئ، فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير، فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول:

آثار ظلمان بقاع مجدب

وكان وزر بن جابر النبهاني في فتوته، فرماه، وقال: خذها وأنا ابن سلمي فقطع معطاه، فتحامل بالرمية حتى أتى أهله، فقال وهو مجروح:

وإن ابن سلمى عنده فاعلموا دمي

وهيهات لا يرجى ابن سلمي ولا دمي

إذا ما تمشى بين أجبال طيئ

مكان الثريا ليس بالمتهضم

رماني ولم يدهش بأزرق لهذم

عشية حلوا بين نعف ومخرم

وقيل: إنه في غزوته إلى طيئ هذه كان مع قومه فانهزموا عنه فخر عن فرسه، ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلا وأبصره ربيئة طيئ فنزل إليه، وهاب أن يأخذه أسيرا، فرماه فقتله، وقيل: إنه كان قد أسن وافتقر وعجز عن الغارات، وكان له على رجل من غطفان بكر، فخرج يتقاضاه فهاجت عليه ريح شديدة في يوم صائف بين شرج وناظرة فقتلته.

وكان العرب تسمي معلقته المذهبة لحسنها، ومواقفه في حرب عبس وذبيان مشهورة في أيام العرب، أما الذي في سيرته فلا يلتفت إليه؛ لأن أكثره موضوع لا يخفى على الصبيان.

الفصل السابع

الحارث بن حلزة

مات سنة 52 قبل الهجرة و570 للميلاد

نسبه وخبر ولادته

هو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبيد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وحلزة بكسر الحاء المهملة وكسر اللام المشددة، وهو في اللغة اسم دويبة، واسم البومة، والذكر بدون هاء، ويقال: امرأة حلزة للقصيرة والبخيلة والحلز السيئ الخلق، وقال قطرب: حكي لنا أن الحلزة ضرب من النبات ولم نسمع فيه غير ذلك.

طبقته في الشعراء وحديثه مع عمرو بن هند

قال أبو عبيدة: أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد. وزعم الأصمعي أن الحارث قال قصيدته هذه وهو ابن مائة وخمس وثلاثين سنة. وكان من حديثه أن عمرو بن هند لما ملك الحيرة، وكان جبارا جمع بكرا وتغلب فأصلح بينهم، وأخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض، وكان أولئك الرهن يسيرون ويغزون مع الملك، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون، فقالت تغلب لبكر بن وائل: أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لازم لكم فأنت بكر، فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم، فقال عمرو بن كلثوم: بمن ترون بكرا تغصب أمرها اليوم؟ قالوا: بمن عسى إلا برجل من بني ثعلبة. قال عمرو: أرى الأمر والله سينجلي عن أحمر أصلع أصم من بني يشكر، فجاءت بكر بالنعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر، وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم، فلما اجتمعوا عند الملك، قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصم، جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم، وقد يفخرون عليك! فقال النعمان: وعلى من أظلت السماء يفخرون. قال عمرو بن كلثوم: والله إني لو لطمتك لطمة ما أخذوا بها. قال: والله إن لو فعلت ما أفلت بها قيس أير أبيك. فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا، وكان يؤثر بني تغلب على بكر، فقال: يا حارثة أعطه لحنا بلسان أنثى أي شبيه بلسانك. فقال: أيها الملك أعط ذلك لأحب أهلك إليك. فقال: يا نعمان أيسرك أني أبوك؟ قال: لا، ولكن وددت أنك أمي، فغضب عمرو بن هند غضبا شديدا حتى هم بالنعمان، وقام الحارث بن حلزة فارتجل معلقته هذه ارتجالا، وتوكأ على قوسه، وأنشدها، واقتطم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها.

قال ابن الكلبي: أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة، وكان به وضح، فقيل لعمرو بن هند: إن به وضحا، فأمر أن يجعل بينه وبينه ستر، فلما تكلم أعجب بمنطقه، فلم يزل عمرو يقول: أدنوه أدنوه. حتى أمر بوضع الستر وأقعده معه، ثم أطعمه من جفنته، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء، ثم جز نواصي السبعين رجلا الذين كانوا رهنا في يده من بكر، ودفعهم إلى الحارث، ثم أمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضئا، ولم تزل تلك النواصي في بني بكر يفتخرون بها وبشاعرهم.

وضرب بالحارث المثل في الفخر، فقيل: أفخر من الحارث بن حلزة، وكان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجال هذه القصيدة في موقف واحد، ويقول: لو قالها في حول لم يلم، وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير ببعضها بني تغلب تصريحا، وعرض بعضها لعمرو بن هند، وعاش بعد ذلك مدة، وهو معدود من المعمرين، ومات وله من السنين مائة وخمسون سنة.

الفصل الثامن

الأعشى ميمون

توفي سنة 7 للهجرة و629 للميلاد

نسبه وكنيته

هو الأعشى ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. ويكنى أبا بصير، وكانوا يسمونه صناجة العرب لجودة شعره، وكان يقال لأبيه: قتيل الجوع؛ سمي بذلك لأنه دخل غارا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل، فسدت فم الغار، فمات فيه جوعا، وهجاه بعض بني عمه، فقال:

أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل

وخالك عبد من خماعة راضع

طبقته في الشعراء

وهو أحد فحول أهل الجاهلية، عده ابن سلام في الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وقرنه بامرئ القيس وزهير والنابغة، وكان أهل الكوفة يقدمونه عليهم، وسئل يونس بن حبيب النحوي: من أشعر الناس؟ فقال: لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكن أقول: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب. وهو أول من سأل بشعره، وكان أبو عمرو بن العلاء يعظم محله، ويقول: شاعر مجيد كثير الأعاريض والافتتان. وإذا سئل عنه وعن لبيد قال: لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر. وروي أن عبد الملك قال لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى؛ فإنه - قاتله الله - ما كان أعذب بحره وأصلب صخره! وقال المفضل: من زعم أن أحدا أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر. وقال أبو عبيد: الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين: امرئ القيس والنابغة وزهير. قال: كان الأعشى يقدمه على طرفة؛ لأنه أكثر عدد طوال جياد، وأوصف للخمر وأمدح وأهجى وأكثر أعاريض، وطرفة يوضع مع أصحابه وهم أصحاب الواحدات، فمنهم الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم التغلبي وسويد بن أبي كاهل اليشكري، قال: وإنما فضل الأعشى على هؤلاء؛ لأنه سلك أساليب لم يسلكوها، فجعله الناس رابعا للأوائل بآخرة، واتفقوا على أن أشعر الشعراء واحدة في الجاهلية طرفة والحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم، ثم اختلفوا فيهم، ونظيرهم في الإسلام سويد بن أبي كاهل اليشكري.

وروي أن أبا عمرو قال: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى؛ فامرؤ القيس من اليمن والنابغة وزهير من مضر والأعشى من ربيعة. وبعث أبو جعفر المنصور يحيى بن سليم الكاتب إلى حماد الراوية بالكوفة يسأله: من أشعر الناس؟ فقال له: ذاك الأعشى صناجها. وروي أن الأخطل قدم الكوفة، فأتاه الشعبي يسمع من شعره، قال: فوجدته يتغدى فدعاني إلى الغداء فأبيت، فقال: ما حاجتك؟ قلت: أحب أن أسمع من شعرك. فأنشدني:

وإذا تعاورت الأكف ختامها

نفحت فنال رياحها المزكوم

قال لي: يا شعبي، ناك الأخطل أمهات الشعراء بهذا البيت. فقلت: الأعشى في هذا أشعر منك يا أبا مالك. قال: وكيف؟ قلت: لأنه قال:

من خمر عانة قد أتى لختامه

حول تسل غمامة المزكوم

فقال وضرب بالكأس الأرض: هو - والمسيح - أشعر مني، ناك الأعشى أمهات الشعراء إلا أنا.

وقال أبو عبيدة: من قدم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره، وسئل مروان بن أبي حفصة: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:

كلا أبويكم كان فرع دعامة

ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصا

وهذا البيت من مقطعة للأعشى يهجو بها علقمة بن علاثة، وسيأتي سبب ذلك.

خبر هاجسه من الجن

وهاجس الأعشى اسمه مسحل بن أثاثة. روي عن الأعشى أنه قال: خرجت أريد قيس بن معدي كرب بحضرموت فضللت في أوائل أرض اليمن؛ لأني لم أكن سلكت ذلك قبل، فأصابني مطر، فرميت ببصري أطلب مكانا ألجأ إليه، فوقعت عيني على خباء من شعر، فقصدت نحوه، وإذا بشيخ على باب الخباء، فسلمت عليه، فرد السلام، وأدخل ناقتي خباء آخر كان بجانب البيت، فحططت رحلي وجلست، فقال: من أنت؟ وأين تقصد؟ قلت: أنا الأعشى أقصد قيس بن معدي كرب، فقال: حياك الله، أظنك امتدحته بشعر. قلت: نعم. قال: فأنشدنيه. فابتدأت مطلع القصيدة:

رحلت سمية غدوة إجمالها

غضبا عليك فما تقول بدالها

فلما أنشدته هذا المطلع منها، قال: حسبك، أهذه القصيدة لك؟ قلت: نعم. قال: من سمية التي نسبت بها ؟ قلت: لا أعرفها، وإنما هو اسم ألقي في روعي. فنادى: يا سمية اخرجي. وإذا جارية خماسية قد خرجت، فوقفت وقالت: ما تريد يا أبت؟ قال: أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معدي كرب، ونسبت بك في أولها. فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفا، فلما أتمتها قال: انصرفي، ثم هل قلت شيئا غير ذلك؟ قلت: نعم، كان بيني وبين ابن عم لي - يقال له يزيد بن مسهر يكنى أبا ثابت - ما يكون بين بني العم فهجاني وهجوته فأفحمته. قال: ماذا قلت فيه؟ قلت: قلت:

ودع هريرة إن الركب مرتحل ... ... ... ...

فلما أنشدته البيت الأول قال: حسبك من هريرة هذه التي نسبت فيها. قلت: لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها. فنادى: يا هريرة! فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجت، فقال: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها أبا ثابت يزيد بن مسهر. فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفا، فسقط في يدي، وتحيرت وتغشتني رعدة، فلما رأى ما نزل بي قال: ليفرج روعك أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر. فسكنت نفسي ورجعت إلي، وسكن المطر، فدلني على الطريق، وأراني سمت مقصدي، وقال: لا تعج يمينا ولا شمالا حتى تقع ببلاد قيس.

وروي عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي - رضي الله عنه - أنه قال: سافرت في الجاهلية، فأقبلت ليلة على بعير أريد أن أسقيه، فلما قربته من الماء تأخر، فعقلته ودنوت من الماء، فإذا قوم مشوهون عند الماء فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشد تشويها منهم، فقالوا: هذا شاعر. فقالوا: يا أبا فلان أنشد هذا فإنه ضيف. فأنشد:

ودع هريرة إن الركب مرتحل ... ... ... ...

فوالله ما خرم منها بيتا حتى أتى على آخرها، فقلت: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا أقولها. قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى قيس بن ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران. قال: إنك صادق أنا الذي ألقيتها على لسانه وأنا مسحل، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس.

وقيل: إن هريرة وخليدة أختان كانتا قينتين لبشر بن عمرو وكانتا تغنيانه وقدم بهما إلى اليمامة لما هرب من النعمان بن المنذر، وقيل: إن هريرة كانت أمة سوداء لحسان بن عمرو، وكان الأعشى يشبب بها. وروي أن رجلا من أهل البصرة خرج منها حاجا، فقال: إني لأسير في ليلة أضحيانة إذ نظرت إلى شاب راكب على ظليم قد زمه بخطامه وهو يذهب عليه ويجيء ويرتجز ويقول:

هل يبلغنيهم إلى الصباح

هقل كأن رأسه جماح

فعلمت أنه ليس بإنسي فاستوحشت منه فترددت ذاهبا حتى آنست به، فقلت: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي

بسهميك في أعشار قلب مقتل

فعرفت أنه يريد امرأ القيس قال: ثم ذهب وأقبل، قلت: ثم من؟ قال: الذي يقول:

وتبرد برد رداء العروس

في الصيف رقرقت فيه العبيرا

وتسخن ليلة لا تستطيع

نباحا بها الكلب إلا هريرا

يريد الأعشى، ثم ذهب وأقبل، قلت: ثم من؟ قال: الذي يقول:

تطرد القر بحر صادق

وعليك القيظ إن جاء بقر

يريد طرفة.

شيء من سيرته وأخباره

وقال يحيى بن الجون راوية بشار: أعشى بني قيس أستاذ الشعراء في الجاهلية، وجرير بن الخطفى أستاذهم في الإسلام، وما مدح الأعشى أحدا في الجاهلية إلا رفعه ولا هجا أحدا إلا وضعه. وكان الذي يريد أن يذكره منهم يستميله لعله أن يمدحه فيرفعه ذلك، فمن ذلك قصة المحلق الكلابي، وكان ذا بنات قد عنسن عليه، فقالت له امرأته: ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر، فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا أكسبه خيرا؟ قال: ويحك! ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل، قالت: الله يخلفها عليك. فتلقاه المحلق من بعيد خوفا أن يسبقه إليه أحد، فوجد ابنه يقود به، فأخذ الخطام، فقال الأعشى: من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟ قال: المحلق. قال: شريف كريم. فأنزله ونحر له ناقته، وكشط له عن سنامها وكبدها، ثم أحاطت به بناته، فجعلن يغمزنه ويمسحنه، فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك. فلما رحل من عنده ووافى سوق عكاظ جعل ينشد قافيته التي مدح بها المحلق ومطلعها:

لعمري لقد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار في يفاع يحرق

تشرب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

رضيعي لبان ثدي أن تحالفا

بأسحم داج عوض لا تتفرق

فتسابق الناس إليهن حتى تزوجن عن آخرهن واستغنى بعد فقره.

خبره مع ذي فائش الخميري

ولما رجع من عند سلامة ذي فائس الحميري وكان مدحه بقصيدته التي منها:

الشعر قلدته سلامة ذا

فائش والشيء حيثما جعلا

فلما أنشده إياها قال: صدقت «الشيء حيثما جعل» فأعطاه مائة من الإبل، وكساه حللا، وأعطاه كرشا مدبوغة مملوءة عنبرا، وقال له: إياك أن تخدع عنها. فأتى الحيرة فباعها بثلاثمائة ناقة حمراء، فخاف أن ينتهب ماله فاستجار بعلقمة بن علاثة العامري، فقال له: أجيرك من الأسود والأحمر. قال: ومن الموت؟ قال: لا. فأتى عامر بن الطفيل العامري أيضا، فقال له مثل مقالة علقمة، فقال له الأعشى: ومن الموت؟ قال: نعم. قال: وكيف؟ قال: إن مت في جواري وديتك. فقال علقمة: لو علمت أن ذلك مراده لهان علي، وكان ذلك في أوان منافرة عامر وعلقمة المشهورة، وكانت العرب تهاب أن تنفر أحدهما على الآخر، ثم إن الأعشى ركب ناقته، ونفر عامرا بقصيدته المشهورة التي يقول فيها:

حكمتموه فقضى بينكم

أبلج مثل القمر الزاهر

لا يأخذ الرشوة في حكمه

ولا يبالي غبن الخاسر

فهدر علقمة دمه، وجعل له على كل طريق رصدا، فقال الأعشى قصيدته التي مطلعها:

لعمري لئن أمسى عن الحي شاخصا

لقد نال حيصا من عفيرة حائصا

يقول فيها:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم

وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا

وقد كذب في هجوه لعلقمة فإنه كان من أجود العرب، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه، ثم إنه اتفق أن الأعشى سافر ومعه دليل، فأخطأ به الطريق فألقاه في ديار بني عامر بن صعصعة فأخذه رهط علقمة بن علاثة، فأتوه به، فقال علقمة: الحمد لله الذي أمكنني منك. فقال:

أعلقم قد صيرتني الأمو

ر إليك وما أنت لي منقص

فهب لي نفسي فدتك النفو

س ولا زلت تنمو ولا تنقص

فقال قوم علقمة: اقتله وأرحنا والعرب من شر لسانه. فقال علقمه: إذن تطلبوا بدمه ولا ينغسل عني ما قاله، ولا يعرف فضلي عند القدرة. فأمر به فحل وثاقه وألقى عليه حلة وحمله على ناقة وأحسن عطاءه، وقال له: انج حيث شئت. وأخرج معه من بني كلاب من يبلغه مأمنها، فجعل بعد ذلك يمدحه. وهجا رجلا من كلب فاتفق أن الكلبي أغار على حي من العرب، وكان الأعشى ضيفا عندهم، فأسره فيمن أسر، وهو لا يعرفه، فمر بتيماء، ونزل قريبا من شريح بن السموأل الذي يضرب به المثل في الوفاء، وتقدم بعض قصته في ترجمة امرئ القيس، فمر شريح بالأعشى فناداه الأعشى وأنشد قصيدة ارتجلها مطلعها:

شريح لا تتركني بعدما علقت

حبالك اليوم بعد القد أظفار

وقال منها في قصة السموأل:

كن كالسموأل إذ طاف الهمام به

في جحفل كسواد الليل جرار

فجاء شريح إلى الكلبي، فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور. فقال: هو لك. فأطلقه، وقال: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك. فقال له الأعشى: إن من تمام صنيعتك أن تعطيني ناقة نجيبة، وتخليني الساعة. فأعطاه ناقة فركبها، ومضى من ساعته، وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه، فقال: قد مضى. فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.

خبره في الإسلام

وكان الأعشى جاهليا قديما، وأدرك الإسلام في آخر عمره، ورحل إلى النبي

صلى الله عليه وسلم

في صلح الحديبية، فبلغ قريشا خبره فرصدوه على طريقه، وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحدا قط إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم، قالوا: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم، قالوا: إنه ينهاك عن خلال، ويحرمها عليك، وكلها لك موافق. قال: وما هن؟ قال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وما تركته، ثم ماذا ؟ قال: القمار. قال: لعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار، ثم ماذا؟ قال: الربا. قال: ما دنت ولا ادنت. قال: ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال: أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ فقال: وما هو؟ قال: نحن وما هو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا وإن ظهر علينا أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فقتله، وكان قد قال قصيدة يمدح بها النبي

صلى الله عليه وسلم

مطلعها:

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وبت كما بات السليم مسهدا

وروي أن النبي

صلى الله عليه وسلم

قال في حقه: «كاد ينجو ولما.»

مفردات أبياته المشهورة

روي عن الشعبي أنه قال: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت، فأما أغزل بيت فقوله:

غراء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل

وأما أخنث بيت فقوله:

قالت هريرة لما جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

وأما أشجع بيت فقوله:

قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

وفادته على الملوك

قالوا: وكان الأعشى قدريا، وكان لبيد مثبتا، قال لبيد:

من هداه سبل الخير اهتدى

ناعم البال ومن شاء أضل

وقال الأعشى:

استأثر الله بالوفاء وبالعد

ل وولى الملامة الرجلا

قالوا إن العباديين لقنوه ذلك بالحيرة؛ لأنهم كانوا نصارى، وكان يشتري منهم الخمر، وكان الأعشى يفد على ملوك العرب وملوك فارس، فلذلك كثرت الفارسية في شعره، وكان أبو كلبة هجا الأعشى، وهجا الأصم بن معبد، فقال فيهما:

قبحتما شاعري حي ذوي حسب

وحز أنفاكما حزا بمنشار

أعني الأصم وأعشانا فما ابتدرا

إلا استعانا على سمع وأبصار

فأمسك عنه الأعشى فلم يجبه بشيء. وقال للأصم: أنت من بيت مشهور وأبو كلبة رجل مرذول فلا تجبه فترفع من قدره. قالوا: والأعشى ممن أقر بالملكين الكاتبين في شعره، فقال في قصيدة يمدح بها النعمان:

فلا تحسبني كافرا لك نعمة

على شاهدي يشهد الله فاشهد

وقد كانت العرب ممن أقام على دين إسماعيل والقول بالأنبياء، قالوا: والأعشى ممن اعتزل، وقال بالعدل في الجاهلية، ومن ذلك قوله: استأثر الله بالوفاء وبالعدل (البيت).

وسلك الأعشى في شعره كل مسلك، وقال في أكثر أعاريض كلام العرب، وليس ممن تقدم من فحول الشعراء أحد أكثر شعرا منه، وكانت العرب لا تعد الشاعر فحلا، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلم يعدوا امرأ القيس فحلا حتى قال:

والله أنجح ما طلبت به

والبر خير حقيبة الرحل

وكانوا لا يعدون النابغة فحلا حتى قال:

نبئت أن أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

وكانوا لا يعدون زهيرا فحلا حتى قال:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

ولو خالها تخفى على الناس تعلم

وكانوا لا يعدون الأعشى فحلا حتى قال:

قلدتك الشعر يا سلامة ذا

فائش والشيء حيثما جعلا

الفصل التاسع

ترجمة النابغة الذبياني

توفي سنة 18 قبل الهجرة و604 للمسيح

نسبه وكنيته

هو النابغة واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن ريث بن غطفان بن قيس عيلان بن مضر، ويكنى أبا أمامة، قيل: إنه إنما لقب النابغة لقوله:

وحدث في بني القين بن جسر

فقد نبغت لهم منا شئون

وقيل: لقب النابغة؛ لأنه كبر ولم يقل شعرا، فنبغ فيه بغتة، وقيل: هو مشتق من نبغت الحمامة إذا تغنت. وحكى ابن ولاد أنه يقال: نبغ الماء، ونبغ بالشعر كمادة الماء النابغ، قال ابن قتيبة في طبقات الشعراء ونبغ بالشعر بعدما احتنك وهلك قبل أن يهتر.

طبقته في الشعراء

هو أحد فحول أهل الجاهلية، عده ابن سلام في الطبقة الأولى، وقرنه بامرئ القيس والأعشى وزهير، وتقدم الخلاف في أيهم أشعر، وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم، وهو أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتا. كأن شعره كلام ليس فيه تكلف. قال الأصمعي: سألت بشارا عن أشعر الناس؟ فقال: أجمع أهل البصرة على تقدم امرئ القيس وطرفة، وأهل الكوفة على بشر بن أبي خازم والأعشى، وأهل الحجاز على النابغة وزهير، وأهل الشام على جرير والفرزدق والأخطل، وتقدم ما فيه بعض مخالفة لما هنا بحسب اختلاف الآراء.

أول نبوغه في الشعر

روي عن الأصمعي أنه قال: أول ما تكلم به النابغة من الشعر أنه حضر مع عمه عند رجل، وكان عمه يشاهد به الناس ويخاف أن يكون عيبا، فوضع الرجل كأسا في يده وقال:

تطيب كئوسنا لولا قذاها

وتحتمل الجليس على أذاها

فقال النابغة وحمي لذلك:

قذاها أن صاحبها بخيل

يحاسب نفسه بكم اشتراها

وهذا يعارضه ما قيل إنما لقب النابغة لأنه كبر ولم يقل شعرا. وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: يا معشر غطفان من الذي يقول:

أتيتك عاريا خلقا ثيابي

على خوف تظن بي الظنون

قالوا: النابغة. قال: ذاك أشعر شعرائكم. وروي من وجه آخر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لجلسائه يوما: من أشعر الناس؟ قالوا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين، قال: من الذي يقول:

إلا سليمان إذا قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول: «أتيتك عاريا خلقا ثيابي ...» إلخ؟ قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

لئن كنت قد بلغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغش وأكذب

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

قالوا: النابغة. قال: فهو أشعر العرب.

خبر هاجسه وشيء من سيرته

واسم هاجس النابغة هاذر، قال رجل من أهل الشام في قصة تقدم بعضها في ترجمة امرئ القيس مع جني اجتمع به ، فسأله من أشعر العرب؟ فأنشأ يقول:

ذهب ابن حجر بالقريض وقوله

ولقد أجاد فما يعاب زياد

لله هاذر إذ يجود بقوله

إن ابن ماهر بعدها لجواد

فقال له الشامي: من هاذر؟ قال: صاحب زياد الذبياني، وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره، فالعجب له كيف سلسل لأخي ذبيان، ولقد علم بنية لي قصيدة له من فيه إلى أذنها، ثم صرخ بها: اخرجي فدى لك من ولدت حواء. فقلت له: ما أنصفت أيها الشيخ. فقال: ما قلت بأسا. ثم رجعت إلى نفسي، فعرفت ما أراد، فسكت ثم أنشدتني الجارية:

نأت بسعاد عنك نوى شطون

فبانت والفؤاد بها حزين

حتى أتت على قوله منها:

فألفيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

فقال: لو كان رأي قوم نوح فيه كرأي هاذر ما أصابهم الغرق. وكانوا يقولون: إن النابغة أشعر العرب إذا خاف؛ وذلك لجودة قصائده التي اعتذر فيها إلى النعمان، وهذا غير صحيح؛ لأن النعمان ما كان يقدر عليه وهو عند آل جفنة، وقد سئل أبو عمرو بن العلاء، فقيل له: أمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك؟ فقال: لا لعمر الله لا لمخافته فعل إن كان لآمنا من أن يوجه إليه جيشا، وما كان النابغة يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وأبيه وجده ولا يستعمل غير ذلك.

وروي أن عبد الملك بن مروان أرسل إلى الحجاج أن ابعث إلي عامرا الشعبي، وكان الشعبي من أمثل أهل وقته، فلما وصل إليه أمره بالجلوس. فجلس فالتفت عبد الملك إلى رجل كان عنده قبل مجيء الشعبي، فقال: ويحك! من أشعر الناس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين. قال الشعبي: فأظلم ما بيني وبين عبد الملك من البيت، ولم أصبر أن قلت: من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس؟ فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني، وقال: هذا الأخطل. قلت: بل أشعر منك يا أخطل الذي يقول :

هذا غلام حسن وجهه

مستقبل الخير سريع التمام

للحارث الأكبر والحارث الأع

رج والأصغر خير الأنام

ثم لهند ولهند قد

أسرع في الخيرات منهم إمام

فستة آباؤهم ما هم

أكرم من يشرب صوب الغمام

قال: فرددتها حتى حفظها عبد الملك، فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الشعبي. قال الأخطل: والإنجيل هذا ما استعذت بالله من شره، صدق والله، النابغة أشعر مني. فالتفت إلي عبد الملك، فقال: ما تقول يا شعبي؟ قلت: قدمه عمر بن الخطاب في غير موضع على جميع الشعراء. وكان مهيبا وقدم المدينة، فأنشد الناس قصيدته الذي سيأتي سببها وهي:

من آل مية رائح أو مغتد

عجلان ذا زاد وغير مزود

وكان أقوى فيها فما تجاسر أحد أن يقول له، فأتوه بقينة فغنت منها:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

بمخضب رخص كأن بنانه

عنم يكاد من اللطافة يعقد

فمدت القينة صوتها باليد، فصارت الكسرة ياء ومدت يعقد، فصارت الضمة واوا فانتبه، ولم يعد إلى الإقواء وغير قوله: «يكاد من اللطافة يعقد» وجعله «عنم على أغصانه لم يعقد»، وقال: دخلت يثرب وفي شعري بعض العاهة فخرجت منها وأنا أشعر الناس.

تحاكم الشعراء إليه

وكانت تضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، ففي إحدى السنين فعل به ذلك، فأول من أنشده الأعشى، ثم حسان بن ثابت، ثم أنشدته الشعراء، ثم أنشدته الخنساء بنت عمرو بن الشريد قصيدتها التي تقول فيها ترثي صخرا:

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فقال: والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنك أشعر الجن والإنس. فقام حسان وقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك، وفي رواية فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومنها ومن أبيك. فقال النابغة: حيث تقول ماذا؟ قال: حيث أقول:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ولدنا بني العنقاء وابني محرق

فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

فقال له: إنك شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك - يعني أن الجفنات لأدنى العدد والكثير جفان، وكذلك أسياف لأدنى العدد والكثير سيوف - وقلت: بالضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح؛ لأن الضيف في الليل أكثر. وقلت: يقطرن من نجدة دما فدللت على قلة القتل، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم. ولن تستطيع أن تقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمد بها أيد إليك نوازع

خبره مع النعمان بن المنذر

وروي أن حسان بن ثابت - رضي الله عنه - حدث أنه وفد في الجاهلية على النعمان بن المنذر، فلما دخل بلاده لقيه رجل، قال: فسألني عن وجهي وما أقدمني، فأنزلني، فإذا هو صائغ، وقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الحجاز ... إلى أن قال في حديث طويل أخبره فيه بكيفية وصوله إليه، وكيف يعامله، إلى أن قال حسان: فوجدته كما قال لي وجعلت أخبر صاحبي بما صنع، ويقول إنه لا يزال هكذا حتى يأتيه أبو أمامة - يعني النابغة - فإذا قدم فلا حظ فيه لأحد من الشعراء. قال حسان: فأقمت كذلك إلى أن دخلت عليه ليلة، فدعا بالعشاء، فأتي بطبيخ فأكل منه بعض جلسائه إلى أن قال حسان: فوالله إني لجالس عنده إذا بصوت خلف قبته، وكان يوم ترد فيه النعم السود، ولم يكن للعرب نعم سود إلا للنعمان، فأقبل النابغة فاستأذن فقدم وهو يقول:

أنام أم يسمع رب القبه

يا أوهب الناس لعنس صلبه

ضرابة بالمشفر إلا ذبه

ذات تجاف في يديها حدبه

قال أبو إمامة: أدخلوه، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث أي الرجال المهذب

فأمر له بمائة ناقة فيها رعاؤها ومطافيلها وكلابها من السود، قال حسان: فخرجت من عنده لا أدري أكنت له أحسد على شعره، أم على ما نال من جزيل عطائه، فرجعت إلى صاحبي، فأخبرته خبره، فقال: انصرف فلا شيء لك عندي سوى ما أخذت.

وكان النابغة من أخصاء النعمان، فدخل عليه يوما فجأة ومعه امرأته المتجردة ، فالتفتت إليه مذعورة، فسقط نصيفها فاستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لغلظها وكثرة لحمها، فأمره النعمان أن يقول قصيدة يصفها فيها، فقال قصيدته التي يقول فيها:

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتقتنا باليد

فوصف منها مواضع لا يليق ذكرها، وكان المنخل اليشكري من ندماء النعمان، وكان فاسقا، وأما النابغة فكان عفيفا نقيا، فغار من وصف النابغة لها، فقال: والله لا يقول هذا إلا من جرب. فغضب النعمان، وأراد أن يبطش بالنابغة، وكان للنعمان بواب يقال له عصام بن بشير الذي يقول في نفسه:

نفس عصام سودت عصاما

وصيرته ملكا هماما

فصار مثلا يضرب لمن شرف بنفسه، فقال النابغة وكان صديقا له: إن النعمان موقع بك. فهرب إلى ملوك غسان بالشام، فكان يمدحهم، ثم إن النعمان اطلع على ما بين المتجردة امرأته والمنخل من الريبة، فقتلهما في قصة طويلة، فكتب إلى النابغة إنك لم تعتذر من سخطة إن كانت بلغتك، ولكنا تغيرنا لك عن شيء مما كنا لك عليه، ولقد كان في قومك ممتنع وحصن فتركته، ثم انطلقت إلى قوم، فقتلوا جدي وبيني وبينهم ما قد علمت. فقدم إليه فوجده محمولا على سرير، وكانت العرب تحمل ملوكها على السرير إذا مرض أحدهم، فقال أبياته التي مطلعها:

ألم أقسم عليك لتخبرني

أمحمول على النعش الهمام

وقيل: إن النابغة قدم في جوار رجلين من فزارة لهما منزلة عند النعمان، فرأى إحدى قيان النعمان فلقنها قصيدته التي اعتذر إليه فيها وهي:

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

فشرب النعمان، فلما سكر غنته إياها فطرب، وقال: هذا شعر علوي هذا شعر أبي أمامة. فرضي عنه.

الفصل العاشر

عبيد بن الأبرص

توفي سنة 565، قيل 605 للميلاد

هو عبيد (بفتح العين وكسر الموحدة) بن الأبرص بن عوف بن جشم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر الأسدي الشاعر من فحول شعراء الجاهلية.

مكانته في الشعراء

عده ابن سلام في الطبقة الرابعة وقرنه بطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة التميمي وعدي بن زيد العبادي، قال: وعبيد بن الأبرص قديم عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب لا أعرف له إلا قوله:

أقفر من أهله ملحوب

فالقطبيات فالذنوب

قال: ولا أدري ما بعد ذلك. وقال الجاحظ: إن عبيدا وطرفة دون ما يقال عنهما إن كان شعرهما ما في يد الناس فقط، وقد أشار أبو العلاء المعري إلى اختلال بائيته بقوله:

وقد يخطئ الرأي امرؤ وهو حازم

كما اختل في وزن القريض عبيد

شيء من أخباره

وسبب قوله للشعر أنه كان محتاجا، ولم يكن له مال فأقبل ذات يوم ومعه غنيمة له، ومعه أخته مأوية ليوردا غنمهما، فمنعه رجل من بني مالك بن ثعلبة وجبهه أي قابله بما يكره، فانطلق حزينا مهموما للذي صنع به المالكي حتى أتى شجرات، فاستظل تحتهن فنام هو وأخته، فزعموا أن المالكي نظر إليه وأخته إلى جنبه فقال:

ذاك عبيد قد أصاب ميا

يا ليته ألقحها صبيا

فحملت فولدت ضاويا

ضاويا أي ضعيفا، والعرب تزعم أن نكاح القرائب مثل بنات العم والخال ونحوها يضعف الابن، فكيف بالأخت! فسمعه عبيد فرفع يديه، ثم ابتهل فقال: اللهم إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه - أي اجعل لي منه دولة - وانصرني عليه. ووضع رأسه فنام، ولم يكن قبل ذلك يقول فأتاه آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه، ثم قال: قم. فقام وهو يرتجز ويتغنى ببني مالك، وكان يقال لهم بنو الزنية:

أيا بني الزنية ما غركم

فلكم الويل بسربال حجر

ثم استمر بعد ذلك في الشعر، وكان شاعر بني أسد غير مدافع، وأدرك حجر أبا امرئ القيس.

الفصل الحادي عشر

المعلقات أو القصائد العشر الطوال

مع بيان أنساب قائليها واختلاف الروايات ونسبتها لرواتها والكلام على غريب ما في ذلك من اللغة وما يحتاجه القارئون من المسائل النحوية من صنيع الأديب الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي رحمه الله.

المعلقة الأولى

لامرئ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو وهو المقصور ابن حجر، وهو آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندي، وهي:

قفا نبك

1

من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل

ترى بعر الأرآم في عرصاتها

وقيعانها كأنه حب فلفل

كأني غداة البين

2

يوم تحملوا

لدى سمرات الحي ناقف حنظل

وقوفا بها صحبى

3

علي مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وإن شفائي عبرة

4

مهراقة

فهل عند رسم دارس من معول

كدأبك

5

من أم الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل

إذا قامتا تضوع المسك منهما

نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل

ففاضت دموع العين مني صبابة

على النحر حتى بل دمعي محملي

ألا

6

رب يوم لك منهن صالح

ولا سيما يوم بدارة جلجل

ويوم عقرت للعذارى مطيتي

فيا عجبا من كورها المتحمل

فظل العذارى يرتمين بلحمها

وشحم كهداب الدمقس المفتل

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه

ولا تبعديني من جناك المعلل

فمثلك حبلى

7

قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول

إذا ما بكى

8

من خلفها انصرفت له

بشق وتحتي شقها لم يحول

ويوما على ظهر الكثيب تعذرت

علي وآلت حلفة لم تحلل

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

وإن تك

9

قد ساءتك مني خليقة

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

أغرك مني أن حبك قاتلي

وأنك مهما تأمري القلب يفعل

وما ذرفت عيناك

10

إلا لتضربي

بسهميك في أعشار قلب مقتل

وبيضة خدر

11

لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

تجاوزت أحراسا إليها

12

ومعشرا

علي حراصا لو يسرون مقتلي

إذا ما الثريا في السماء تعرضت

تعرض أثناء الوشاح المفصل

13

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها

لدى الستر إلا لبسة المتفضل

14

فقالت يمين الله ما لك حيلة

وما إن أرى عنك الغواية تنجلي

15

خرجت بها تمشي تجر وراءنا

على أثرينا ذيل مرط مرحل

16

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

17

هصرت بفودي رأسها فتمايلت

علي هضيم الكشح ريا المخلخل

18

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسجنجل

19

كبكر المقاناة البياض بصفرة

غذاها نمير الماء غير المحلل

20

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي

بناظرة من وحش وجرة مطفل

21

وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش

إذا هي نصته ولا بمعطل

وفرع يزين المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النخلة المتعثكل

غدائره مستشزرات إلى العلا

تضل العقاص في مثنى ومرسل

22

وكشح لطيف كالجديل مخصر

وساق كأنبوب السقي المذلل

وتضحي فتيت المسلك فوق فراشها

نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

23

وتعطو برخص غير شثن كأنه

أساريع ظبي أو مساويك إسحل

تضيء الظلام بالعشاء كأنها

منارة ممسى راهب متبتل

إلى مثلها يرنو الحليم صبابة

إذا ما اسبكرت بين درع ومجول

تسلت عمايات الرجال عن الصبا

وليس فؤادي عن هواك بمنسل

24

ألا رب خصم فيك ألوى رددته

نصيح على تعذاله غير مؤتل

وليل كموج البحر أرخى سدوله

علي بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

25

فيا لك من ليل كأن نجومه

بكل مغار الفتل شدت بيذبل

كأن الثريا علقت في مصامها

بأمراس كتان إلى صم جندل

وقربة أقوام جعلت عصامها

على كاهل مني ذلول مرحل

26

وواد كجوف العير قفر قطعته

به الذئب يعوي كالخليع المعيل

فقلت له لما عوى إن شأننا

قليل الغنى إن كنت لما تمول

كلانا إذا ما نال شيئا أفاته

ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

27

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السيل من عل

28

كميت يزل اللبد عن حال متنه

كما زلت الصفواء بالمتنزل

29

على الذبل جياش كأن اهتزامه

إذا جاش فيه حميه غلي مرجل

30

مسح إذا ما السابحات على الونى

أثرن الغبار بالكديد المركل

31

يزل الغلام الخف عن صهواته

ويلوي بأثواب العنيف المثقل

درير كخذروف الوليد أمره

تتابع كفيه بخيط موصل

له أيطلا ظبي وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

ضليع إذا استدبرته سد فرجه

بضاف فويق الأرض ليس بأعزل

32

كأن على المتنين منه إذا انتحى

مداك عروس أو صلاية حنظل

33

كأن دماء الهاديات بنحره

عصارة حناء بشيب مرجل

فعن لنا سرب كأن نعاجه

عذارى دوار في ملاء مذيل

34

فأدبرن كالجزع المفصل بينه

بجيد معم في العشيرة مخول

35

فألحقنا بالهاديات ودونه

جواحرها في صرة لم تزيل

36

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا ولم ينضح بماء فيغسل

فظل طهاة اللحم من بين منضج

صفيف شواء أو قدير معجل

37

ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه

متى ما ترق العين فيه تسفل

38

فبات عليه سرجه ولجامه

وبات بعيني قائما غير مرسل

أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حبي مكلل

39

يضيء سناه أو مصابيح راهب

أمال السليط بالذبال المفتل

40

قعدت له وصحبتي بين ضارج

وبين العذيب بعد ما متأملي

41

على قطن بالشيم أيمن صوبه

وأيسره على الستار فيذبل

42

فأضحى يسح الماء حول كتيفة

يكب على الأذقان دوح الكنهبل

43

ومر على القنان من نفيانه

فأنزل منه العصم من كل منزل

44

وتيماء لم يترك بها جذع نخلة

ولا أطما إلا مشيدا بجندل

45

كأن ثبيرا في عرانين وبله

كبير أناس في بجاد مزمل

46

كأن ذرى رأس المجيمر غدوة

من السيل والغثاء فلكة مغزل

47

وألقى بصحراء الغبيط بعاعه

نزول اليماني ذي العياب المحمل

48

كأن مكاكي الجواء غدية

صبحن سلافا من رحيق مفلفل

49

كأن السباع فيه غرقى عشية

بأرجائه القصوى أنابيش عنصل

50

المعلقة الثانية

لطرفة بن العبد البكري، وهو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة وهو الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وهي:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

51

وقوفا بها صحبى علي مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد

كأن حدوج المالكية عدوة

خلايا سفين بالنواصف من دد

عدولية أو من سفين ابن يامن

يجور بها الملاح طورا ويهتدي

52

يشق حباب الماء حيزومها بها

كما قسم الترب المفايل باليد

وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن

مظاهر سمطى لؤلؤ وزبرجد

خذول تراعي ربربا بخميلة

تناول أطراف البرير وترتدي

وتبسم عن ألمى كأن منورا

تخلل حر الرمل دعص له ند

سقته إياة الشمس إلا لثاته

أسف ولم تكدم عليه بإثمد

53

ووجه كأن الشمس ألقت رداءها

عليه نقي اللون لم يتخدد

54

وإني لأمضي الهم عند احتضاره

بعوجاء مرقال تروح وتغتدي

أمون كألواح الإران نصأتها

على لاحب كأنه ظهر برجد

55

جمالية وجناء تردي كأنها

سفنجة تبري لأزعر أربد

56

تباري عتاقا ناجيات وأتبعت

وظيفا وطيفا فوق مور معبد

تربعت القفين في الشول ترتعي

حدائق مولي الأسرة أغيد

تريع إلى صوت المهيب وتتقي

بذي خصل روعات أكلف ملبد

57

كأن جناحي مضرحي تكنفا

حفافيه شكا في العسيب بمسرد

فطورا به خلف الزميل وتارة

على حشف كالشن ذاو مجدد

لها فخذان أكمل النحض فيهما

كأنهما بابا منيف ممرد

58

وطي محال كالحني خلوفه

وأجرنة لزت بدأي منضد

كان كناسي ضالة يكنفانها

وأطر قسي تحت صلب مؤيد

لها مرفقان أفتلان كأنها

تمر بسلمى دالج متشدد

59

كقنطرة الرومي أقسم ربها

لتكتنفن حتى تساد بقرمد

60

صهابية العثنون موجدة القرا

بعيدة وخد الرجل موارة اليد

أمرت يداها فتل شزر وأجنحت

لها عضداها في سقيف مسند

جنوح دقاق عندل ثم أفرعت

لها كتفاها في معالي مصعد

كأن علوت النسع في دأياتها

موارد من خلقاء في ظهر قردد

تلاقى وأحيانا تبين كأنها

بنائق غر في قميص مقدد

وأتلع نهاض إذا صعدت به

كسكان بوصي بدجلة مصعد

61

وجمجمة مثل العلاة كأنما

وعى الملتقى منها إلى حرف مبرد

62

وخد كقرطاس الشآمي ومشفر

كسبت اليماني قده لم يجرد

63

وعينان كالماويتين استكنتا

بكهفي حجاجي صخرة قلت مورد

طحوران عوار القذى فتراهما

كمكحولتي مذعورة أم فرقد

وصادقتا سمع التوجس للسرى

لهجس حفي أو لصوت مندد

64

مؤللتان تعرف العتق فيهما

كسامعتي شاة بحومل مفرد

وأروع نباض أحذ ململم

كمرداة صخر في صفيح مصمد

65

وأعلم مخروت من الأنف مارن

عتيق متى ترجم به الأرض تزدد

وإن شئت لم ترفل وإن شئت أرفلت

مخافة ملوي من القد محصد

وإن شئت سامى واسط الكور رأسها

وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد

على مثلها أمضى إذا قال صاحبي

ألا ليتني أفديك منها وأفتدي

66

وجاشت إليه النفس خوفا وخاله

مصابا ولو أمسى على غير مرصد

67

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني

عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

أحلت عليها بالقطيع فأجذمت

وقد خب آل الأمعز المتوقد

فذالت كما ذالت وليدة مجلس

ترى ربها أذيال سحل ممدد

ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

68

فإن تبغني في حلقة القوم تلقني

وإن تلتمسني في الحوانيت تصطد

69

متى تأتني أصبحت كأسا روية

وإن كنت عنها ذا غنى فاغن واردد

70

وإن يلتقي الحي الجميع تلاقني

إلى ذروة البيت الشريف المصمد

71

نداماي بيض كالنجوم وقينة

تروح إلينا بين برد ومجسد

72

رحيب قطاب الجيب منها رفيقة

بجس الندامى بضة المتجرد

73

إذا نحن قلنا أسمعينا انبرت لنا

على رسلها مطروفة لم تشدد

74

إذا رجعت في صوتها خلت صوتها

تجاوب أظآر على ربع رد

75

وما زال تشرابي الخمور ولذتي

وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي

إلى أن تحامتني العشيرة كلها

وأفردت إفراد البعير المعبد

رأيت بني غبراء لا ينكرونني

ولا أهل هذاك الطراف الممدد

76

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

77

فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي

فدعني أبادرها بما ملكت يدي

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى

وجدك لم أحفل متى قام عودي

78

فمنهن سبقي العاذلات بشربة

كميت متى ما تعل بالماء تزبد

79

وكري إذا نادى المضاف مجنبا

كسيد الغضا نبهته المتورد

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب

ببهكنة تحت الخباء المعمد

80

كأن البرين والدماليج علقت

على عشر أو خروع لم يخضد

كريم يروي نفسه في حياته

ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي

81

أرى قبر نحام بخيل بماله

كقبر عوي في البطالة مفسد

ترى جثوتين من تراب عليهما

صفائح صم من صفيح منضد

82

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقيلة مال الفاحش المتشدد

أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة

وما تنقص الأيام والدهر ينفد

83

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى

لكالطول المرخى وثنياه باليد

متى ما يشأ يوما يقده لحتفه

ومن يك في حبل المنية ينقد

84

فما لي أراني وابن عمي مالكا

متى أدن منه ينأ عني ويبعد

يلوم وما أدري علام يلومني

كما لامني في الحي قرط بن أعبد

وأيأسني من كل خير طلبته

كأنا وضعناه إلى رمس ملحد

على غير شيء قلته غير أنني

نشدت فلم أغفل حمولة معبد

85

وقربت بالقربى وجدك إنه

متى يك أمر للنكيثة أشهد

86

وإن أدع للجلى أكن من حماتها

وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد

وإن يقذفوا بالقذع عرضك أسقهم

بشرب حياض الموت قبل التهدد

87

بلا حدث أحدثته وكمحدث

هجائي وقذفي بالشكاة ومطردي

88

فلو كان مولاي امرأ هو غيره

لفرج كربي أو لأنظرني غدي

89

ولكن مولاي امرؤ هو خانقي

على الشكر والتسآل وأنا مفتد

90

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

فذرني وخلقي إنني لك شاكر

ولو حل بيتي نائيا عند ضرغد

91

فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد

ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

92

فأصبحت ذا مال كثير وزارني

بنون كرام سادة لمسود

93

أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه

خشاش كراس الحية المتوقد

94

فآليت لا ينفك كشحي بطانة

لعضب رقيق الشفرتين مهند

95

حسام إذا ما قمت منتصرا به

كفى العود منه البدء ليس بمعضد

أخي ثقة لا ينثني عن ضريبة

إذا قيل مهلا قال حاجزه قدي

إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني

منيعا إذا بلت بقائمه يدي

وبرك هجود قد أثارت مخافتي

نواديها أمشي بعضب مجرد

96

فمرت كهاة ذات خيف جلالة

عقلية شيخ كالوبيل يلندد

يقول وقد تر الوظيف وساقها

ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد

وقال ألا ماذا ترون بشارب

شديد علينا بغيه متعمد

97

وقال ذروه إنما نفعها له

وإلا تكفوا قاصي البرك يزدد

فظل الإماء يمتللن حوارها

ويسعى علينا بالسديف المسرهد

فإن مت فانعيني بما أنا أهله

وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

ولا تجعليني كامرئ ليس همه

كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي

بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا

ذلول بأجماع الرجال ملهد

98

فلو كنت وغلا في الرجال لضرني

عداوة ذي الأصحاب والمتوحد

ولكن نفى عني الرجال جراءتي

عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي

99

لعمرك ما أمري علي بغمة

نهاري ولا ليلي علي بسرمد

ويوم حبست النفس عند عراكه

حفاظا على عوراته والتهدد

100

على موطن يخشى الفتى عنده الردى

متى تعترك فيه الفرائص ترعد

وأصفر مضبوح نظرت حواره

على النار واستودعته كف مجمد

101

أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى

بعيدا غدا ما أقرب اليوم من غد

102

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له

بتاتا ولم تضرب له وقت موعد

المعلقة الثالثة

وهي لزهير بن أبي سلمى المزني، واسم أبي سلمى: ربيعة بن رياح بن قرط بن الحارث بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس.

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

103

ودار لها بالرقمتين كأنها

مراجيع وشم في نواشر معصم

بها العين والأرآم يمشين خلفة

وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

وقفت بها من بعد عشرين حجة

فلأيا عرفت الدار بعد توهم

104

أنا في سفعا في معرس مرجل

ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم

105

فلما عرفت الدار قلت لربعها

ألا انعم صباحا أيها الربع واسلم

106

تبصر خليلي هل ترى من ظعائن

تحملن بالعلياء من فوق جرثم

جعلن القنان عن يمين وحزنه

وكم بالقنان من محل ومحرم

علون بأنطاكية فوق عقمة

وراد حواشيها مشاكهة الدم

107

ظهرن من السوبان ثم جزعنه

على كل قيني قشيب ومفأم

108

ووركن في السوبان يعلون متنه

عليهن دل الناعم المتنعم

109

بكرن بكورا واستحرن بسحرة

فهن ووادي الرس كاليد للفم

110

وفيهن ملهى للصديق ومنظر

أنيق لعين الناظر المتوسم

كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به حب الفنا لم يحطم

111

فلما وردن الماء زرقا جمامه

وضعن عصي الحاضر المتخيم

112

سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما

تبزل ما بين العشيرة بالدم

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم

يمينا لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سجيل ومبرم

تداركتما عبسا وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

113

وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا

بمال ومعروف من القول نسلم

114

فأصبحتما منها على خير موطن

بعيدين فيها من عقوق ومأثم

عظيمين في عليا معد هديتما

ومن يستبح كنزا من المجد يعظم

115

تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت

ينجمها من ليس فيها بمجرم

ينجمها قوم لقوم غرامة

ولم يهريقوا بينهم ملء محجم

فأصبح يجري فيهم من تلادكم

مغانم شتى من إفال مزنم

116

ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة

وذبيان هل أقسمتم كل مقسم

117

فلا تكتمن الله ما في نفوسكم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

118

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم الحساب أو يعجل فينقم

119

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم

120

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

وتضر إذا ضريتموها فتضرم

121

فتعرككم عرك الرحى بثفالها

وتلقح كشافا ثم تنتج فتتئم

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم

كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم

122

فتغلل لكم مالا تغل لأهلها

قرى بالعراق من فقير ودرهم

لعمري لنعم الحي جر عليهم

بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم

وكان طوى كشحا على مستكنة

فلا هو أبداها ولم يتقدم

123

وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي

عدوي بألف من ورائي ملجم

124

فشد ولم يفزع بيوتا كثيرة

لدي حيث ألقت رحلها أم قشعم

125

لدي أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

126

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه

سريعا وإلا يبد بالظلم يظلم

127

رعوا ظمأهم حتى إذا تم أوردوا

غمارا تفرى بالسلاح وبالدم

128

فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا

إلى كلأ مستوبل متوخم

لعمرك ما جرت عليهم رماحهم

دم ابن نهيك أو قتيل المثلم

129

ولا شاركت في الموت في دم نوفل

ولا وهب منهم ولا ابن المخزم

130

فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه

صحيحات مال طالعات بمخرم

131

لحي حلال يعصم الناس أمرهم

إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم

كرام فلا ذو الضغن يدرك تبله

ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم

132

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

133

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

ومن لم يصانع في أمور كثيرة

يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم

134

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه ويذمم

ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه

إلى مطمئن البر لا يتجمجم

135

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلم

136

ومن يجعل المعروف في غير أهله

يكن حمده ذما عليه ويندم

137

ومن يعص أطراف الزجاج فإنه

يطيع العوالي ركبت كل لهذم

138

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

139

ومن يغترب يحسب عدوا صديقه

ومن لا يكرم نفسه لا يكرم

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

140

وكائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التكلم

141

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده

وإن الفتى بعد السفاهة يحلم

سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم

ومن أكثر التسآل يوما سيحرم

المعلقة الرابعة

للبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري الصحابي رضي الله عنه، وهي:

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأبد غولها فرجامها

فمدافع الريان عري رسمها

خلقا كما ضمن الوحي سلامها

142

دمن تجرم بعد عهد أنيسها

حجج خلون حلالها وحرامها

143

رزقت مرابيع النجوم وصابها

ودق الرواعد جودها فرهامها

من كل سارية وغاد مدجن

وعشية متجاوب إرزامها

144

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت

بالجلهتين ظباؤها ونعامها

145

والعين عاكفة على أطلائها

عوذا تأجل بالفضاء بهامها

146

وجلا السيول عن الطلول كأنها

زبر تجد مثونها أقلامها

أو رجع واشمه أسف نئورها

كففا تعرض فوقهن وشامها

147

فوقفت أسألها وكيف سؤالنا

صما خوالد ما يبين كلامها

148

عريت وكان بها الجميع فأبكروا

منها وغودر نؤيها وثمامها

149

شاقتك طغن الحي حين تحملوا

فتكنسوا قطنا تصر خيامها

من كل محفوف يظل عصيه

زوج عليه كله وقرامها

زجلا كأن نعاج توضح فوقها

وظباء وجرة عطفا أرآمها

حفزت وزيلها السراب كأنها

أجزاع بيشة أثلها ورضامها

150

بل ما تذكر من نوار وقد نأت

وتقطعت أسبابها ورمامها

مرية حلت بفيد وجاورت

أهل الحجاز فأين منك مرامها

151

بمشارق الجبلين أو بمحجر

فتضمنتها فردة فرخامها

فصوائق إن أيمنت فمظنة

منها وحاف القهر أو طلخامها

152

فاقطع لبانة من تعرض وصله

ولشر واصل خلة صرامها

153

واحب المجامل بالجزيل وصرمه

باق إذا طلعت وزاغ قوامها

154

بطليح أسفار تركن بقية

منها فأحنق صلبها وسنامها

فإذا تغالى لحمها وتحسرت

وتقطعت بعد الكلال خدامها

155

فلها هباب في الزمام كأنها

صهباء خف مع الجنوب جهامها

أو ملمع وسقت لأحقب لاحه

طرد الفحول وضربها وكدامها

156

يعلو بها حدب الإكام مسحج

قد رابه عصيانها ووجامها

157

بأحزة الثلبوت يربأ فوقها

قفر المراقب خوفها أرآمها

حتى إذا سلخا جمادى ستة

جزأ فطال صيامه وصيامها

158

رجعا بأمرهما إلى ذي مرة

حصد ونجح صريمة إبرامها

ورمى دوابرها السفا وتهيجت

ريح المصايف سومها وسهامها

فتنازعا سبطا يطير ظلاله

كدخان مشعلة يشب ضرامها

مشمولة علثت بنابت عرفج

كدخان نار ساطع أسنامها

159

فمضى وقدمها وكانت عادة

منه إذا هي عردت إقدامها

160

فتوسطا عرض السري وصدعا

مسجورة متجاورا قلامها

محفوفة وسط اليراع يظلها

منه مصرع غابة وقيامها

161

أفتلك أم وحشية مسبوعة

خذلت وهادية الصوار قوامها

خنساء ضيعت الفرير فلم يرم

عرض الشقائق طوفها وبغامها

لمعفر قهد تنازع شلوه

غبس كواسب لا يمن طعامها

162

صادفن منها غرة فأصبنها

إن المنايا لا تطيش سهامها

163

باتت وأسبل واكف من ديمة

يروي الخمائل دائما تسجامها

يعلو طريقة متنها متواتر

في ليلة كفر النجوم ظلامها

164

تجتاف أصلا قالصا متنبذا

بعجوب أنقاء يميل هيامها

وتضيء في وجه الظلام منيرة

كجمانة البحري سل نظامها

حتى إذا حسر الظلام وأسفرت

بكرت تزل عن الثرى أزلامها

165

علهت تردد في نهاء صعائد

سبعا تؤاما كاملا أيامها

166

حتى إذا يبست وأسحق حالق

لم يبله إرضاعها وفطامها

167

فتوجست زر الأنيس فراعها

عن ظهر غيب والأنيس سقامها

168

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه

مولى المخافة خلفها وأمامها

169

حتى إذا بئس الرماة وأرسلوا

عضفا دواجن قافلا أعصامها

فلحقن واعتكرت لها مدرية

كالسمهرية حدها وتمامها

لتذودهن وأيقنت إن لم تذد

أن قد أحم من الحتوف حمامها

170

فتقصدت منها كساب فضرجت

بدم وغودر في المكر سخامها

فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى

واجتاب أردية السراب إكامها

أقضي اللبانة لا أفرط ريبة

أو أن يلوم بحاجة لوامها

171

أو لم تكن تدري نوار بأنني

وصال عقد حبائل جذامها

تراك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق بعض النفوس حمامها

172

بل أنت لا تدرين كم من ليلة

طلق لذيذ لهوها وندامها

قد بت سامرها وغاية تاجر

وافيت إذ رفعت وعز مدامها

173

أغلي السباء بكل أدكن عائق

أو جونة قدحت وفض ختامها

174

وغداة ريح قد وزعت وقرة

قد أصبحت بيد الشمال زمامها

175

بصبوح صافية وجذب كرينة

بموتر تأتاله إبهامها

176

بادرت حاجتها الدجاج بسحرة

لأعل منها حين هب نيامها

177

ولقد حميت الحي تحمل شكتي

فرط وشاحي إذ غذوت لجامها

178

فعلوت مرتقيا على ذي هبوة

حرج إلى أعلامهن قتامها

179

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجن عورات الثغور ظلامها

أسهلت وانتصبت كجذع منيفة

جرداء يحصر دونها جرامها

180

رفعتها طرد النعام وشله

حتى إذا سخنت وخف عظامها

181

قلقت رحالتها وأسبل نحرها

وابتل من زبد الحميم حزامها

ترقى وتطعن في العنان وتنتحي

ورد الحماة إذ أجد حمامها

وكثيرة غرباؤها مجهولة

ترجى نوافلها ويخشى ذامها

غلب تشذر بالدخول كأنها

جن البدي رواسيا أقدامها

182

أنكرت باطلها وبؤت بحقها

عندي ولم يفخر علي كرامها

183

وجزور أيسار دعوت لحتفها

بمغالق متشابه أجسامها

184

أدعو بهن لعاقر أو مطفل

بذلت لجيران الجميع لحامها

185

فالضيف والجار الجنيب كأنما

هبطا تبالة مخصبا أهضامها

186

تأوي إلى الأطناب كل رذية

مثل البلية قالص أهدامها

187

ويكللون إذا الرياح تناوحت

خلجا تمد شوارعا أيتامها

إنا إذا التقت المجامع لم يزل

منا لزاز عظيمة جشامها

188

ومقسم يعطي العشيرة حقها

ومغذمر لحقوقها هضامها

فضلا وذو كرم يعين على الندى

سمح كسوب رغائب غنامها

189

من معشر سنت لهم آباؤهم

ولكل قوم سنة وإمامها

190

لا يطبعون ولا يبور فعالهم

إذ لا يميل مع الهوى أحلامها

191

فاقنع بما قسم المليك فإنما

قسم الخلائق بيننا علامها

192

وإذا الأمانة قسمت في معشر

أوفى بأوفر حظنا قسامها

193

فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه

فسما إليه كهلها وغلامها

194

وهم السعاة إذا العشيرة أفظعت

وهم فوارسها وهم حكامها

195

وهم ربيع للمجاور فيهم

والمرملات إذا تطاول عامها

وهم العشيرة أن يبطئ حاسد

أو أن يميل مع العدو لئامها

196

المعلقة الخامسة

لعمرو بن كلثوم التغلبي، يذكر أيام بني تغلب ويفخر بهم، وهو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. وأم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل أخي كليب، وأمها بنت بعج بن عتبة بن سعد بن زهير، وهي:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا

ولا تبقي خمور الأندرينا

197

مشعشة كأن الحص فيها

إذا ما الماء خالطها سخينا

198

تجور بذي اللبانة عن هواه

إذا ما ذاقها حتى يلينا

ترى اللحز الشحيح إذا أمرت

عليه لماله فيها مهينا

صبنت الكأس عنا أم عمرو

وكان الكأس مجراها اليمينا

199

وما شر الثلاثة أم عمرو

بصاحبك الذي لا تصبحينا

وكأس قد شربت ببعلبك

وأخرى في دمشق وقاصرينا

وإنا سوف تدركنا المنايا

مقدرة لنا ومقدرينا

ففي قبل التفرق يا ظعينا

نخبرك اليقين وتخبرينا

قفي نسألك هل أحدثت صرما

لوشك البين أم خنت الأمينا

200

بيوم كريهة ضربا وطعنا

أقر به مواليك العيونا

وإن غدا وإن اليوم رهن

وبعد غد بما لا تعلمينا

تريك إذا دخلت على خلاء

وقد أمنت عيون الكاشحينا

ذراعي عيطل أدماء بكر

هجان اللون لم تقرأ جنينا

201

وثديا مثل حق العاج رخصا

حصانا من أكف اللامسينا

ومتني لدنة سمقت وطالت

روادفها تنوء بما ولينا

202

ومأكمة يضيق الباب عنها

وكشحا قد جننت به جنونا

وساريتي بلنط أو رخام

يرن خشاش حليهما رنينا

203

فما وجدت كوجدي أم سقب

أضلته فرجعت الحنينا

ولا شمطاء لم يترك شقاها

لها من تسعة إلا جنينا

تذكرت الصبا واشتقت لما

رايت حمولها أصلا حدينا

204

فأعرضت اليمامة واشمخرت

كأسياف بأيدي مصلتينا

205

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبرك اليقينا

بأنا نورد الرايات بيضا

ونصدرهن حمرا قد روينا

وأيام لنا غر طوال

عصينا الملك فيها أن ندينا

206

وسيد معشر قد توجوه

بتاج الملك يحمي المحجرينا

تركنا الخيل عاكفة عليه

مقلدة أعنتها صفونا

207

وأنزلنا البيوت بذي طلوح

إلى الشامات تنقي الموعدينا

208

وقد هرت كلاب الحي منا

وشذ بنا قتادة من يلينا

209

متى ننقل إلى قوم رحانا

يكونوا في اللقاء لها طحينا

210

يكون ثفالها شرقي نجد

ولهوتها قصاعة أجمعينا

211

نزلتم منزل الأضياف منا

فأعجلنا القرى أن تشتمونا

قريناكم فعجلنا قراكم

قبيل الصبح مرداة طحونا

نعم أناسنا ونعف عنهم

ونحمل عنهم ما حملونا

212

نطاعن ما تراخى الناس عنا

ونضرب بالسيوف إذا غشينا

213

بسمر من قنا الخطي لدن

ذوابل أو ببيض يختلينا

214

نشق بها رءوس القوم شقا

ونخليها الرقاب فتختلينا

215

كأن جماجم الأبطال فيها

وسوق بالأماعز يرتمينا

216

وإن الضغن بعد الضغن يبدو

عليك ويخرج الداء الدفينا

217

ورثنا المجد قد علمت معد

نطاعن دونه حتى يبينا

218

ونحن إذا عماد الحي خرت

عن الأحفاض نمنع من يلينا

219

نجذ رءوسهم في غير بر

فما يدرون ماذا يتقونا

220

كأن سيوفنا فينا وفيهم

مخاريق بأيدي لاعبينا

كأن ثيابنا منا ومنهم

خضبت بأرجوان أو طلينا

إذا ما عي بالإسناف حي

من الهول المشبه أن يكونا

نصبنا مثل رهوة ذات حد

محافظة وكنا السابقينا

221

بشبان يرون القتل مجدا

وشيب في الحروب مجربينا

222

حديا الناس كلهم جميعا

مقارعة بنيهم عن بنينا

فأما يوم خشيتنا عليهم

فتصبح خيلنا عصبا ثبينا

223

وأما يوم لا نخشى عليهم

فنمعن غارة متلببينا

224

برأس من بني جشم بن بكر

ندق به السهولة والحزونا

ألا لا يعلم الأقوام أنا

تضعضعنا وأنا قد ونينا

225

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

بأي مشيئة عمرو بن هند

نكون لقيلكم فيها قطينا

بأي مشيئة عمرو بن هند

تطيع بنا الوشاة وتزدرينا

226

تهددنا وأوعدنا رويدا

متى كنا لأمك مقتوينا

227

فإن قناتنا يا عمرو أعيت

على الأعداء قبلك أن تلينا

228

إذا عض الثقاف بها اشمأزت

وولتهم عشوزنة زبونا

229

عشوزنة إذا انقلبت أرنت

تشج قفا المثقف والجبينا

230

فهل حدثت في جشم بن بكر

بنقص في خطوب الأولينا

231

ورثنا مجد علقمة بن سيف

أباح لنا حصون المجد دينا

232

ورثت مهلهلا والخير منهم

زهيرا نعم ذخر الذاخرينا

233

وعتابا وكلثوما جميعا

بهم نلنا تراث الأكرمينا

234

وذا البرة الذي حدثت عنه

به نحمى ونحمي المحجرينا

235

ومنا قبله الساعي كليب

فأي المجد إلا قد ولينا

236

متى نعقد قرينتنا بحبل

نجذ الحبل أو نقص القرينا

237

ونوجد نحن أمنعهم ذمارا

وأوفاهم إذا عقدوا يمينا

238

ونحن غداة أوقد في خزازى

رفدنا فوق رفد الرافدينا

239

ونحن الحابسون بذي أراطى

تشف الجلة الخور الدرينا

240

ونحن الحاكمون إذا أطعنا

ونحن العازمون إذا عصينا

241

ونحن التاركون لما سخطنا

ونحن الآخذون لما رضينا

وكنا الأيمنين إذا التقينا

وكان الأيسرين بنو أبينا

242

فصالوا صولة فيمن يليهم

وصلنا صولة فيمن يلينا

فآبوا بالنهاب وبالسبايا

وأبنا بالملوك مصفدينا

إليكم يا بني بكر إليكم

ألما تعرفوا منا اليقينا

243

ألما تعرفوا منا ومنكم

كتائب يطعن ويرتمينا

علينا البيض واليلب اليماني

وأسياف يقمن وينحنينا

244

علينا كل سابغة دلاص

ترى فوق النطاق لها غصونا

245

إذا وضعت عن الأبطال يوما

رأيت لها جلود القوم جونا

246

كأن غضونهن متون غدر

تصفقها الرياح إذا جرينا

247

وتحمينا غداة الروع جرد

عرفن لنا نقائذ وافتلينا

وردن دوارعا وخرجن شعثا

كأمثال الرصائع قد بلينا

248

ورثناهن عن آباء صدق

ونورثها إذا متنا بنينا

على آثارنا بيض حسان

نحاذر أن تقسم أو تهونا

249

أخذن على بعولتهن عهدا

إذا لاقوا كتائب معلمينا

250

لتستلبن أفراسا وبيضا

وأسرى في الحديد مقرنينا

251

ترانا بارزين وكل حي

قد اتخذوا مخافتنا قرينا

إذا مارحن يمشين الهوينى

كما اضطربت متون الشاربينا

يقتن جيادنا ويقلن لستم

بعولتنا إذا لم تمنعونا

252

إذا لم نحمهن فلا بقينا

لشيء بعدهن ولا حيينا

253

ظعائن من بني جشم بن بكر

خلطن بميسم حسبا ودينا

وما منع الظعائن مثل ضرب

ترى منه السواعد كالقلينا

254

كأنا والسيوف مسللات

ولدنا الناس طرا أجمعينا

255

يدهدون الرءوس كما تدهدي

حزاورة بأبطحها الكرينا

وقد علم القبائل من معد

إذا قبب بأبطحها بنينا

256

بأنا المطمعون إذا قدرنا

وأنا المهلكون إذا ابتلينا

257

وأنا المانعون لما أردنا

وأنا النازلون بحيث شينا

258

وأنا التاركون إذا سخطنا

وأنا الآخذون إذا رضينا

259

وأنا العاصمون إذا أطعنا

وأنا العارمون إذا عصينا

260

ونشرب إذا وردنا الماء صفوا

ويشرب غيرنا كدرا وطينا

261

ألا أبلغ بني الطماح عنا

ودعميا فكيف وجدتمونا

262

إذا ما الملك سام الناس خسفا

أبينا أن نقر الذل فينا

263

لنا الدنيا ومن أمسى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

264

بغاة ظالمين وما ظلمنا

ولكنا سنبدأ ظالمينا

265

ملانا البر حتى ضاق عنا

ونحن البحر نملؤه سفينا

266

إذا بلغ الرضيع لنا فطاما

تخر له الجبابر ساجدينا

267

المعلقة السادسة

لعنترة بن شداد العبسي، وهو عنترة بن شداد، وقيل: ابن عمرو بن شداد، وقيل: عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة، وقيل: مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعيد بن قيس بن عيلان مضر، وهي:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

أعياك رسم الدار لم يتكلم

حتى تكلم كالأصم الأعجم

268

ولقد حبست بها طويلا ناقتي

أشكو إلى سفع رواكد جنم

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

دار لآنسة غضيض طرفها

طوع العناق لذيذة المتبسم

269

فوقفت فيها ناقتي وكأنها

فدن لأقضي حاجة المتلوم

وتحل عبلة بالجواء وأهلنا

بالحزن فالصمان فالمتثلم

270

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

حلت بأرض الزائرين فأصبحت

عسرا علي طلابك ابنة مخرم

271

علقتها عرضا وأقتل قومها

زعما لعمر أبيك ليس بمزعم

272

ولقد نزلت فلا تظني غيره

مني بمنزلة المحب المكرم

273

كيف المزار وقد تربع أهلها

بعنيزتين وأهلنا بالغيلم

274

إن كنت أزمعت الفراق فإنما

زمت ركابكم بليل مظلم

ما راعني إلا حمولة أهلها

وسط الديار تسف حب الخمخم

275

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسحم

276

إذ تستبيك بذي غروب واضح

عذب مقبلة لذيذ المطعم

277

وكأن فأرة تاجر بقسيمة

سبقت عوارضها إليك من الفم

أو روضة أنفا تضمن نبتها

غيث قليل الدمن ليس بمعلم

278

جادت عليه كل بكر حرة

فتركن كل قرارة كالدرهم

279

سحا وتسكابا فكل عشية

يجري عليها الماء لم يتصرم

وخلا الذباب بها فليس ببارح

غردا كفعل الشارب المترنم

280

هزجا يحك ذراعه بذراعه

قدح المكب على الزناد الأجذم

281

تمسي وتصبح فوق ظهر حشية

وأبيت فوق سراة أدهم ملجم

282

وحشيتي سرج على عبل الشوى

نهد مراكله نبيل المحزم

هل تبلغني دارها شدنية

لعنت بمحروم الشراب مصرم

خطارة غب السرى زيافة

تطس الأكام بوخد خف ميثم

283

فكأنما أقص الإكام عشية

بقريب بين المنسمين مصلم

284

تأوي له قلص النعام كما أوت

حزق يمانية لأعجم طمطم

285

يتبعن قلة رأسه وكأنه

حرج على نعش لهن مخيم

286

صعل يعود بذي العشيرة بيضه

كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم

شربت بماء الدحرضين فأصبحت

زوراء تنفر عن حياض الديلم

287

وكأنما تنأى بجانب دفها ال

وحشي من هزج العشي مؤوم

288

هر جنيب كلما عطفت له

غضبى اتقاها باليدين وبالفم

289

أبقى لها طول السفار مقرمدا

سندا ومثل دعائم المتخيم

290

بركت على جنب الرداع كأنما

بركت على قصب أجش مهضم

291

وكأن ربا أو كحيلا معقد

حش الوقود به جوانب قمقم

292

ينباع من ذفري عضوب جسرة

زيافة مثل الفنيق المكدم

293

إن تغدفي جوني القناع فإنني

طب بأخذ الفارس المستلثم

أثني علي بما علمت فإنني

سمح مخالطتي إذا لم أظلم

294

فإذا ظلمت فإن ظلمى باسل

مر مذاقته كطعم العلقم

ولقد شربت من المدامة بعدما

ركد الهواجر بالمشوف المعلم

بزجاجة صفراء ذات أسرة

قرنت بأزهر في الشمال مقدم

فإذا شربت فإنني مستهلك

مالي وعرضي وافر لم يكلم

وإذا صحوت فما أقصر عن ندى

وكما علمت شمائلي وتكرمي

وحليل غانية تركت مجدلا

تمكو فرصته كشدق الأعلم

سبقت يداي له بعاجل طعنة

ورشاش نافذة كلون العندم

295

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

296

إذ لا أزال على رحالة سابح

نهد تعاوره الكماة مكلم

297

طورا يجرد للطعان وتارة

يأوي إلى حصد القسي عرمرم

298

يخبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوعى وأعف عند المغنم

فأرى مغانم لو أشاء حويتها

فيصدني عنها الحيا وتكرمي

299

ومدجج كره الكماة نزاله

لا ممعن هربا ولا مستسلم

300

جادت له كفي بعاجل طعنة

بمثقف صدق الكعوب مقوم

301

برحيبة الفرغين يهدي جرسها

بالليل معتس الذئاب الضرم

302

فشككت بالرمح الأصم ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرم

303

فتركته جزر السباع ينشنه

يقضمن حسن بنانه والمعصم

304

ومشك سابغة هتكت فروجها

بالسيف عن حامي الحقيقة معلم

زبذ يداه بالقداح إذا شتا

هتاك غايات التجار ملوم

لما رآني قد نزلت أريده

أبدى نواجذه لغير تبسم

فطعنته بالرمح ثم علوته

بمهند صافي الحديدة مخذم

عهدي به مد النهار كأنما

خضب اللبان ورأسه بالعظلم

305

بطل كأن ثيابه في سرحة

يحذى نعال السبت ليس بتوأم

306

يا شاة ما قنص لمن حلت له

حرمت علي وليتها لم تحرم

307

فبعثت جاريتي وقلت لها اذهبي

فتجسسي أخبارها لي واعلمي

308

قالت رأيت من الأعادي غرة

والشاة ممكنة لمن هو مرتم

وكأنما التفتت بجيد جداية

رشأ من الغزلان حر أرثم

309

نبئت عمرا غير شاكر نعمتي

والكفر مخبثة لنفس المنعم

ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى

إذا تقلص الشفتان عن وضح الفم

في حومة الحرب التي لا تشتكي

عمراتها الأبطال غير تغمغم

310

إذ يتقون بي الأسنة لم أخم

عنها ولكني تضايق مقدمي

311

لما رأيت القوم أقبل جمعهم

يتذامرون كررت غير مذمم

يدعون عنتر والرماح كأنها

أشطان بئر في لبان الأدهم

312

ما زلت أرميهم بثغرة نحره

ولبانه حتى تسربل بالدم

313

فازور من وقع القنا بلبانه

وشكى إلي بعبرة وتحمحم

314

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلمي

315

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

والخيل تقتحم الخبار عوابسا

من بين شيظمة وأجرد شيظم

ذلل ركابي حيث شئت مشايعي

لبى وأحفزه بأمر مبرم

316

إني عداني أن أزورك فاعلمي

ما قد علمت وبعض ما لم تعلمي

317

حالت رماح ابني بغيض دونكم

وزوت جواني الحرب من لم يجرم

ولقد كررت المهر يدمي نحره

حتى اتقتني الحيل بابني حذيم

318

ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر

للحرب دائرة على ابني ضمضم

الشاتمي عرضي ولم أشتمهما

والناذرين إذا لم ألقهما دمي

إن يفعلا فلقد تركت أباهما

جزر الشباع وكل نسر قشعم

319

المعلقة السابعة

للحارث بن حلزة اليشكري، وهو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وهي:

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاو يمل منه الثواء

320

بعد عهد لنا ببرقة شماء

فأذنى ديارها الخلصاء

321

فالمحياة فالصفاح فأعناق

فتاق فعاذب فالوفاء

322

فرياض القطا فأودية الشر

بب فالشعبتان فالأبلاء

لا أرى من عهدت فيها فأبكى ال

يوم دلها وما يحير البكاء

323

وبعينيك أوقدت هند النا

ر أحيرا تلوي بها العلياء

324

فتنورت نارها من بعيد

بخزازى هيهات منك الصلاء

أوقدتها بين العقيق فشخصي

ن بعود كما يلوح الضياء

غير أني قد أستعين على الهم

إذا خف بالثوي النجاء

325

بزفوف كأنها هقلة أم

رئال دوية سقفاء

أنست نبأة وأفزعها القنا

ص عصرا وقددنا الإمساء

326

فترى خلفها من الرجع والوق

ع منينا كأنه إهباء

327

وطراقا من خلفهن طراق

ساقطات ألوت بها الصحراء

328

أتلهى بها الهواجر إذ كل

ابن هم بلية عمياء

329

وأتانا من الحوادث والأنبا

ء خطب نعنى به ونساء

أن إخواننا الأراقم يغلو

ن علينا في قيلهم إحفاء

330

يخلطون البريء منا بذي الذن

ب ولا ينفع الخلي الخلاء

331

زعموا أن كل من ضرب العي

ر موال لنا وأنا الولاء

أجمعوا أمرهم عشاء فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

332

من مناد ومن مجيب ومن تص

هال خيل خلال ذاك رغاء

أيها الناطق المرقش عنا

عند عمرو وهل لذاك بقاء

لا تخلنا على غراتك إنا

قبل ما قد وشى بنا الأعداء

333

فبقينا على الشناءة تنمي

نا حصون وعزة قعساء

334

قبل ما اليوم بيضت بعيون النا

س فيها تعيط وإباء

وكأن المنون تردى بنا أر

عن جونا ينجاب عنه العماء

335

مكفهرا على الحوادث لا تر

توه للدهر مؤيد صماء

336

إرمي بمثله جالت الجن

فآبت لخصمها الأجلاء

ملك مقسط وأفضل من يم

شي ومن دون ما لديه الثناء

337

أيما خطة أردتم فأدو

ها إلينا تمشي بها الأملاء

338

إن نبشتم ما بين ملحة فالصا

قب فيه الأموات والأحياء

أو نقشتم فالنقش يجشمه النا

س وفيه الصلاح والأبراء

339

أو سكتم عنا فكنا كمن أغ

مض عينا في جفنها أقذاء

340

أو منعتم ما تسألون فمن حد

ثتموه له علينا العلاء

341

هل علمتم أيام ينتهب النا

س غوارا لكل حي عواء

إذ ركبنا الجمال من سعف البح

رين سيرا حتى نهاها الحساء

342

ثم ملنا على تميم فأحرم

نا وفينا بنات مر إماء

لا يقيم العزيز بالبلد السه

ل ولا ينفع الذليل النجاء

343

ليس ينجى موائلا من حذار

رأس طود وحرة رجلاء

فملكنا بذلك الناس حتى

ملك المنذر بن ماء السماء

ملك أضرع البرية لا يو

جد فيها لما لديه كفاء

344

ما أصابوا من تغلبي فمطلو

ل عليه إذا أصيب العفاء

345

كتكاليف قومنا إذ غزا المنذ

ر هل نحن لابن هند رعاء

إذا أحل العلياء قبة ميسو

ن فأدنى ديارها العوصاء

346

فتأوت له قراضبة من

كل حي كأنهم ألقاء

347

فهداهم بالأسودين وأمر الله

بلغ تشقى به الأشقياء

348

إذا تمنونهم غرورا فسا

قتهم إليكم أمنية أشراء

لم يغروكم غرورا ولكن

رفع الآل شخصهم والضحاء

349

أيها الناطق المبلغ عنا

عند عمرو وهل لذاك انتهاء

350

من لنا عنده من الخير آيا

ت ثلاث في كلهن القضاء

351

آية شارق الشقيقة إذ جا

ءوا جميعا لكل حي لواء

حول قيس مستلئمين بكبش

قرظي كأنه عبلاء

وصتيت من العواتك لا تنها

ه إن مبيضة رعلاء

352

فرددناهم بطعن كما يخر

ج من خربة المزاد الماء

353

وحملناهم على حزم ثهلا

ن شلالا ودمى الأنساء

354

وجبهناهم بطعن كما تنهز

في جمة الطوي الدلاء

355

وفعلنا بهم كما علم الله

وما إن للحائنين دماء

356

ثم حجرا اعنى ابن أم قطام

وله فارسية خضراء

أسد في اللقاء ورد هموس

وربيع إن شمرت غبراء

357

وفككنا غل امرئ القيس عنه

بعدما طال حبسه والعناء

ومع الجون جون آل بني الأو

س عنود كأنها دفواء

ما جزعنا تحت العجاجة إذ ولوا

شلالا وإذ تلظى الصلاء

358

وأوقدناه رب غسان بالمنذ

ر كرها إذ لا تكال الدماء

وأتيناهم بتسعة أملاك

كرام أسلابهم أغلاء

359

وولدنا عمرو بن أم أناس

من قريب لما أتانا الحباء

مثلها يخرج النصيحة للقو

م فلاة من دونها أفلاء

360

فاتركوا الطيخ والتعاشي وإما

تتعاشوا ففي التعاشي الداء

361

واذكروا حلف ذي المجاز وما

قدم فيه العهود والكفلاء

حذر الجور والتعدي وهل ين

قض ما في المهارق والأهواء

362

واعلموا أننا وإياكم فيما

اشترطنا يوم اختلفنا سواء

عننا باطلا وظلما كما تعتر

عن حجرة الربيض الظباء

أعلينا جناح كندة أن

يغنم غازيهم ومنا الجزاء

أم علينا جرى إياد كما

قيل لطسم أخوكم الأباء

ليس منا المضربون ولا قيس

ولا جندل ولا الحداء

أم جنايا بني عتيق فمن يغ

در فإنا من حربهم برآء

363

أم علينا جرى العباد كما

نيط بجوز المحمل الأعباء

وثمانون من تميم بأيد

يهم رماح صدورهن القضاء

تركوهم ملحبين وآبوا

بنهاب يصم منها الحداء

364

أم علينا جرى حنيفة أو ما

جعت من محارب غبراء

أم علينا جرى قضاعة أم

ليس علينا فيما جنوا أنداء

ثم جاءوا يسترجعون فلم تر

جع لهم شامة ولا زهراء

لم يخلوا بني رزاح ببرقا

ء نطاع لهم عليهم دعاء

ثم فاءوا منهم بقاصمة الظه

ر ولا يبرد الغليل الماء

ثم خيل من بعد ذلك مع الغلا

ق لا رأفة ولا إبقاء

وهو الرب والشهيد على يو

م الحيارين والبلاء بلاء

365

المعلقة الثامنة

قال الأعشى أبو بصير، واسمه ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وهي:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل

366

غراء فرعاء مصقول عوارضها

تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل

367

كأن مشيتها من بيت جارتها

مر السحابة لا ريث ولا عجل

368

تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت

كما استعان بريح عشرق زجل

369

ليست كمن يكره الجيران طلعتها

ولا تراها لسر الجار تختتل

370

يكاد يصرعها لولا تشددها

إذا تقوم إلى جاراتها الكسل

371

إذا تلاعب قرنا ساعة فترت

وارتج منها ذنوب المتن والكفل

372

صفر الوشاح وملء الدرع بهكنة

إذا تأتى يكاد الخصر ينخزل

373

نعم الضجيع غذاة الدجن يصرعها

للذة المرء لا جاف ولا تفل

374

هركولة فنق درم مرافقها

كأن أخمصها بالشوك منتعل

375

إذا تقوم يضوع المسك أصورة

والزنبق الورد من أردانها شمل

376

ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل

377

يضاحك الشمس منها كوكب شرق

مؤزر بعميم النبت مكتهل

378

يوما بأطيب منها نشر رائحة

ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

379

علقتها عرضا وعلقت رجلا

غيري وعلق أخرى غيرها الرجل

380

وعلقته فتاة ما يحاولها

ومن بني عمها ميت بها وهل

381

وعلقتني أخيرى ما تلائمني

فاجتمع الحب حب كله تبل

382

فكلنا مغرم يهذي بصاحبه

ناء ودان ومخبول ومختبل

383

صدت هريرة عنا ما تكلمنا

جهلا بأم خليد حبل من تصل

384

أأن رأت رجلا أعشى أضر به

ريب المنون ودهر مفند خبل

385

قالت هريرة لما جئت زائرها

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

386

إما ترينا حفاة لا نعال لنا

إنا كذلك ما نحفى وننتعل

387

وقد أخالس رب البيت غفلته

وقد يحاذر مني ثم ما يئل

388

وقد أقود الصبا يوما فيتبعني

وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل

389

وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني

شاو مشل شلول شلشل شول

390

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن هالك كل من يحفى وينتعل

391

نازعتهم قضب الريحان متكئا

وقهوة مزة راووقها خضل

392

لا يستفيقون منها وهي راهنة

إلا بهات وإن غلوا وإن نهلوا

393

يسعى بها ذو زجاجات له نطف

مقلص أسفل السربال معتمل

394

ومستجيب تخال الصنج يسمعه

إذا ترجع فيه القينة الفضل

395

والساحبات ذيول الريط آونة

والرافعات على أعجازها العجل

396

من كل ذلك يوم قد لهوت به

وفي التجارب طول اللهو والغزل

397

وبلدة مثل ظهر الترس موحشة

للجن بالليل في حافاتها زجل

398

لا يتنمى لها بالقيظ يركبها

إلا الذين لهم فيما أتوا مهل

399

جاوزتها بطليح جسرة سرح

في مرفقيها إذا استعرضها فتل

400

بل هل ترى عارضا قد بت أرمقه

كأنما البرق في حافاته شعل

401

له رداف وجوز مفأم عمل

منطق بسجال الماء متصل

402

لم يلهني اللهو عنه حين أرقبه

ولا اللذاذة في كأس ولا شغل

403

فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا

شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل

404

قالوا نمار فبطن الخال جادهما

فالعسجدية فالأبلاء فالرجل

405

فالسفح يجري فخنزير فبرقته

حتى تدافع منه الربو فالحبل

406

حتى تحمل منه الماء تكفلة

روض القطا فكثيب الغينة السهل

407

يسقى ديارا لها قد أصبحت غرضا

زورا تجانف عنها القود والرسل

408

أبلغ يزيد بني شيبان مألكة

أبا ثبيت أما تنفط تأتكل

409

ألست منتهيا عن نحت أثلتنا

ولست ضائرها ما أطت الإبل

410

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

411

تغري بنا رهط مسعود وإخوته

يوم اللقاء فتردي ثم تعتزل

412

لا أعرفنك إن جدت عداوتنا

والتمس النصر منكم عوض تحتمل

413

تلحم أبناء ذي الجدين إن غضبوا

أرماحنا ثم تلقاهم وتعتزل

414

لا تقعدن وقد أكلتها حطبا

تعوذ من شرها يوما وتبتهل

415

سائل بني أسد عنا فقد علموا

أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل

416

واسأل قشيرا وعبد الله كلهم

واسأل ربيعة عنا كيف نفتعل

417

إنا نقاتلهم حتى نقتلهم

عند اللقاء وإن جاروا وإن جهلوا

418

قد كان في آل كهف إن هم احتربوا

والجاشرية من يسعى وينتضل

419

إني لعمر الذي حطت مناسمها

تخدي وسيق إليه الباقر الغيل

420

لئن قتلتم عميدا لم يكن صددا

لنقتلن مثله منكم فنمتثل

421

لئن منيت بنا عن غب معركة

لأتلفنا عن دماء القوم ننتقل

422

لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

423

حتى يظل عميد القوم مرتفقا

يدفع بالراح عنه نسوة عجل

424

أصابه هندواني فأقصده

أو ذابل من رماح الخط معتدل

425

كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم

إنا لأمثالكم يا قومنا قتل

426

نحن الفوارس يوم الحنو ضاحية

جنبي فطيمة لا ميل ولا عزل

427

قالوا الطعان فقلنا تلك عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

428

قد نخضب العير في مكنون فائله

وقد يشيط على أرماحنا البطل

429

المعلقة التاسعة

قال النابغة الذبياني، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان مضر، ويكنى أبا أمامة، قال يمدح النعمان ويعتذر إليه مما وشى به المنخل من شأن امرأته المتجردة، وهي:

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

430

وقفت فيها أصيلا كي أسائلها

عيت جوابا وما بالربع من أحد

431

إلا الأواري لأيا ما أبينها

والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

432

ردت عليه أقاصيه ولبده

ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد

433

خلت سبيل أتي كان يحبسه

ورفعته إلى السجفين فالنضد

434

أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا

أخنى عليها الذي أخنى على لبد

435

فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له

وانم القتود على عيرانة أجد

436

مقذوفة بدخيس النحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد

437

كأن رحلي وقد زال النهار بنا

يوم الجليل على مستأنس وحد

438

من وحش وجرة موشي أكارعه

طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد

439

فارتاع من صوت كلاب فبات له

طوع الشوامت من خوف ومن صرد

440

فبثهن عليه واستمر به

صمع الكعوب بريات من الحرد

441

وكان ضمران منه حيث يوزعه

طعن المعارك عند المحجر النجد

442

شك الفريصة بالمدرى فأنفذها

طعن المبيطر إذ يشفى من العضد

443

كأنه خارجا من جنب صفحته

سفود شرب نسوه عند مفتأد

444

فظل يعجم أعلى الروق منقبضا

في حالك اللون صدق غير ذي أود

445

لما رأى واشق إقعاص صاحبه

ولا سبيل إلى عقل ولا قود

446

قالت له النفس إني لا أرى طمعا

وإن مولاك لم يسلم ولم يصد

447

فتلك تبلغني النعمان إن له

فضلا على الناس في الأدنى وفي البعد

448

ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

449

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

450

وخيس الجن أني قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصفاح والعمد

451

فمن أطاعك فانفعه بطاعته

كما أطاعك وادلله على الرشد

452

ومن عصاك فعاقبه معاقبة

تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

453

إلا لمثلك أو من أنت سابقه

سبق الجواد إذا استولى على الأمد

454

أعطى لفارهة حلو توابعها

من المواهب لا تعطى على نكد

455

الواهب المائة المعكاء زينها

سعدان توضح في أوبارها اللبد

456

والراكضات ذيول الريط فنقها

برد الهواجر كالغزلان بالجرد

457

والخيل تمزع غربا في أعنتها

كالطير تنجو من الشوبوب ذي البرد

458

والأدم قد خيست فتلا مرافقها

مشدودة برحال الحيرة الجدد

459

احكم كحكم فتات الحي إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثمد

460

يحفه جانبا نيق وتتبعه

مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد

461

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد

462

فحسبوه فألفوه كما زعمت

تسعا وتسعين لم تنقص ولم تزد

463

فكملت مائة فيها حمامتها

وأسرعت حسبة في ذلك العدد

464

فلا لعمر الذي مسحت كعبته

وما هريق على الأنصاب من جسد

465

والمؤمن العائذات الطير تمسحها

ركبان مكة بين الغيل والسعد

466

ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه

إذن فلا رفعت سوطي إلي يد

467

إذن فعاقبني ربي معاقبة

قرت بها عين من يأتيك بالحسد

468

هذا لأبرأ من قول قذفت به

طارت نوافذه حرا على كبدي

469

أنبئت أن أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

470

مهلا فداء لك الأقوام كلهم

وما أثمر من مال ومن ولد

471

لا تقذفني بركن لا كفاء له

وإن تأثفك الأعداء بالرفد

472

فما الفرات إذا هب الرياح له

تمري أواذيه العبرين بالزبد

473

يمده كل واد مترع لجب

فيه ركام من الينبوت والخضد

474

يظل من خوفه الملاح معتصما

بالخيزرانة بعد الأين والنجد

475

يوما بأجود منه سيب نافلة

ولا يحول عطاء اليوم دون غد

476

هذا الثناء فإن تسمع لقائله

فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد

477

ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت

فإن صاحبها مشارك النكد

478

المعلقة العاشرة

قال عبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعيد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وهي:

أقفر من أهله ملحوب

قالقطبيات فالذنوب

479

فراكس فثعيلبات

فذات فرقين فالقليب

480

فعردة فقفا حبر

ليس بها منهم عريب

481

وبدلت منهم وحوشا

وغيرت حالها الخطوب

482

أرض توارثها الجدوب

فكل من حلها محروب

483

إما قتيلا وإما هلكا

والشيب شين لمن يشيب

484

عيناك دمعهما سروب

كأن شأنيهما شعيب

485

واهية أو معين معن

من هضبة دونها لهوب

486

أو فلج واد ببطن أرض

للماء من تحته قسيب

487

أو جدول في ظلال نخل

للماء من تحتها سكوب

488

تصبو وأنى لك التصابي

أنى وقد راعك المشيب

489

فإن يكن حال أجمعها

فلا بدي ولا عجيب

490

أو يك أقفر منها جوها

وعادها المحل والجدوب

491

فكل ذي نعمة مخلوس

وكل ذي أمل مكذوب

492

وكل ذي إبل موروث

وكل ذي سلب مسلوب

493

وكل ذي غيبة يئوب

وغائب الموت لا يئوب

494

أعاقر مثل ذات رحم

أو غانم مثل من يخيب

495

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب

496

بالله يدرك كل خير

والقول في بعضه تلغيب

497

والله ليس له شريك

علام ما أخفت القلوب

498

أفلح بما شئت قد يبلغ بالضع

ف وقد يخدع الأريب

499

لا يعظ الناس من لا يعظ الده

ر ولا ينفع التلبيب

500

إلا سجيات ما القلوب

وكم يصيرن شائنا حبيب

501

ساعد بأرض إن كنت فيها

ولا تقل إنني غريب

502

قد يوصل النازح النائي وقد

يقطع ذو السهمة القريب

503

والمرء ما عاش في تكذيب

طول الحياة له تعذيب

504

يا رب ماء وردت آجن

سبيله خائف جديب

505

ريش الحمام على أرجائه

للقلب من خوفه وجيب

506

قطعته غدوة مشيحا

وصاحبي بادن خبوب

507

غيرانة موجد فقارها

كأم حاركها كثيب

508

أخلف بازلا سديس

لا خفة هي ولا نيوب

509

كأنها من حمير غاب

جون بصفحته ندوب

510

أو شبب يرتعي الرخامى

تلطه شمأل هبوب

511

فذاك عصر وقد أراني

تحملني نهدة سرحوب

512

مضبر خلقها تضبيرا

ينشق عن وجهها السبيب

513

زيتية نائم عروقها

ولين أسرها رطيب

514

كأنها لقوة طلوب

تيبس في وكرها القلوب

515

باتت على إرم عذوبا

كأنها شيخة رقوب

516

فأصبحت في غداة قر

يسقط عن ريشها الضريب

517

فأبصرت ثعلبا سريعا

ودونه سبسب جديب

518

فنفضت ريشها وولت

وهي من نهضة قريب

519

فاشتال وارتاع من حسيس

وفعله يفعل المذءوب

520

فنهضت نحوه حثيثا

وحردت حرده تسيب

521

فدب من خلفها دبيبا

والعين حملاقها مقلوب

522

فأدركته فطرحته

والصيد من تحتها مكروب

523

فجدلته فطرحته

فكدحت وجهه الجبوب

524

فعاودته فرفعته

فأرسلته وهو مكروب

525

يضغو ومخلبها في دفه

لا بد حيزومه منقوب

526

تمت المعلقات العشر مع اختلاف الروايات وما أردناه من التعليق عليها، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

Unknown page