ولما كانت روما عاصمة العالم، كانت تستورد ما تحتاجه من الحبوب من مصر، بواسطة سفن الإسكندرية الشهيرة، وأنت تذكر ما يروي الإنجيل عن إخوة يوسف، الذين أتوا مصر من فلسطين - التي اجتاحتها المجاعة - ليشتروا من قمح مصر.
ومع هذه الخصوبة، فالمطر غير معروف في مصر؛ نعم قد تمطر السماء في أحايين قصيرة من عام طويل لا تسقط فيه من السماء قطرة!
كيف يتيسر لأرض لا تمطرها السماء أن ينمو بها أجود أنواع النباتات؟ سر ذلك النيل؛ ففي كل عام إذا سقطت المياه في أواسط إفريقيا وعلى جبال الحبشة ازداد النيل ارتفاعا، وحملت الأمواج إليه طينا كثيرا، وفي هذه الحال تغمر المياه الأراضي، ثم تتركها بعد أن يرسب فيها الطين. ولما كانت المياه لا تصل إلى الأراضي المرتفعة؛ فإنه يوصل بها ترع، ثم تقسم هذه الترع إلى قنوات صغيرة حتى تتخلل جميع الأراضي، وتسير فيها المياه كما يسير الدم في الأوردة والشرايين. وقد نتج عن هذا النظام أن زادت خصوبة الأرض، وارتوت منها جميع الجهات، فعوضت بذلك ما يمكن أن تكسبه الأمطار من المياه في الأراضي التي تسقط فيها.
ولولا نهر النيل، لكانت مصر قطعة من الصحراء ليس فيها ما يميزها عن بقية أجزائها، وليس من شيء في حياة مصر يسترعي الانتباه إلا تاريخها العظيم؛ ذلك التاريخ القديم الذي وسم القطر بميسم سحري جعلها مصدر جاذبية لجميع الناس. وكذلك آثارها المجيدة؛ ولهذا لا توجد أمة -غير مصر - تشاهد فيها السكان الأصليين ومظاهر الحضارة القديمة كما كانت في بدء تاريخها.
هنا تستطيع أن تشاهد معابد الآلهة القديمة وهياكلها، والقبور الهائلة التي لم ترها عين إنسان، بل تشاهد السيوف والحراب والخوذ التي كان يحارب بها الملوك والجند والشجعان - لأجل وطنهم - قبل أن يشترك داود في حروب بني إسرائيل بآلاف السنين.
ومن الصور المختلفة على جدران المعابد والقبور، أمكننا أن نعرف كيف كان هؤلاء الناس يعيشون في تلك الأيام الماضية، وكيف كانت تبنى بيوتهم، وكيف كانوا يكسبون ويعملون، وكيف يلهون ويقصفون، وكيف يعبرون عن هم دفين في وقت الأسى والحزن، ثم كيف يعبدون آلهتهم. تراهم في هذه الصور وهم يقومون بهذه الأعمال كلها، بل تستطيع أن تعرف ما كان يغرم به الأطفال من أنواع اللهو واللعب، وتعرف اللعب والعرائس الجميلة التي كانوا يلعبون بها، وتستطيع أن تقرأ القصص التي كانت ترويها الأمهات والمربيات لأطفالهن.
كل هذا مما يجعل لمصر جاذبية خاصة، وسحرا خياليا بديعا. وما قصدت إليه هنا هو أن أصور لك بعض نواحي هذه الحياة، لتستطيع أن تكون لنفسك صورة في مخيلتك عن الحياة في هذه الأيام.
الفصل الثاني
يوم في طيبة
لو أراد غريب أن يكون لنفسه فكرة صحيحة على حالتنا الحاضرة، والدرجة التي بلغها من الحضارة والرقي، فأول مكان يخطر له أن يقصده ليشاهده هو لندن؛ لأنها عاصمة المملكة ومدينتها العظمى.
Unknown page