Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
وكان قد أرسل من الإسكندرية باخرة تحمل البريد إلى القسطنطينية، فأوفد إليها، أيضا، في تلك الليلة، المصاحب عبد الكريم أغا، ليبلغ جلالة السلطانة والدته، أنباء صحته الجيدة؛ ويحمل إلى بابه العالي ، الأوراق الدولية الخاصة بالإدارة اليومية.
ثم كلف رامز أغا، أحد خصيانه، بالذهاب ببطاقة زيارته إلى أربعة عشر «حريما» بمصر، ليبلغ «تحياته وتسليماته السلطانية» إلى أرامل محمد علي باشا وإبراهيم باشا، وعباس باشا، ومحمد سعيد باشا وغيرهن.
وفي يوم الأحد ثاني عشر أبريل - وكان عيد الفصح عند الطوائف الشرقية - ذهب لزيارة قصر النزهة، في طريق شبرا؛ وكان (لإسماعيل)، وهو الوحيد الذي تفننت الهندسة المعمارية في تجميله وتزيينه، على صغر حجمه، فأعجب به أيما إعجاب، وأمر بعض الرسامين الذين بمعيته أن يأخذوا رسمه - ولكنه لم يمكث فيه طويلا وغادره إلى قصر شبرا ذاتها - وكان لحليم باشا، الذي أراد السلطان أن ينزل في ذلك اليوم ضيفا عليه.
فاستقبله حليم باشا في تلك الروضة الغناء، التي أنشأها لوالده، أبدع الخيالات الشعرية، وكانت مزدهية بالزهور والرياحين، المغروسة على أبدع نظام وأجمل تنسيق؛ حافلة بالطيور المغردة المختلفة الأجناس والأنواع والأشكال - وكانت الزهور والطيور أحب المخلوقات إلى قلب عبد العزيز، وأعز ما ترتاح إليه نفسه بعد ربات الخدور.
فقضى بقية نهاره، وبعض مسائه في تلك الجنة الأرضية، متجولا بين رياحينها وأزاهرها طورا، وطورا جالسا أمام بحيرتها، المحيطة بها، المظلة الرخامية البديعة الصنع، العديمة المثيل في العالم بأسره، أو جالسا في القاعة العظمى الكائنة في الزاوية على يمين الداخل، والتي قلما بذلت في تشييد سواها الأموال التي بذلت في تشييدها؛ وقلما ازدهت غيرها، بالصنعة الدقيقة المواد الثمينة التي ازدهت، هي، بها: كأن (محمد علي) أراد أن يجعلها قصرا من قصور الجنان، بجانب تلك المظال الرخامية، المتتابعة صفوفها على شكل دائرة بيضاوية حول تلك البحيرة المعدة لمسابحة جواريه فيها، وقد أقيم في وسطها بناء مرمري على شاكلة باقة أزهار، تجلت الدقة كلها في صنعه وتكوينه، وأعد لجلوسه، هو، على أريكة حريرية فيه لكي يتسنى له في شيخوخته - والمياه تجري من تحته، والجواري يسبحن حوله، ويتداعبن أمامه، والروائح العطرية تتأرج من الأزاهير النابتة في كل مكان، وداخل كل مظلة من هاتيك المظال، والمتدلية إلى حافة البحيرة بشكل من أبدع الأشكال - أن يتخيل أنه انتقل إلى جنة الفردوس التي أعدها ربه للصالحين والمحسنين من عباده، وأن يتمتع، وهو حي في هذه الدار، ببعض لذات الدار الأخرى التي بات منها على أدنى من قاب قوسين.
6
أسفا على تلك!
آه لتلك الروضة الفيحاء الغناء! كيف عبثت بها أيدي الإهمال، وكيف جردها من محاسنها الفريدة تغيب أيدي الصيانة عنها!
وأسفا على ذلك!
وآه ثم آه! لذلك الإيوان البديع الأكبر المكون من مجموع هاتيك المظال الصغيرة الكلية الجمال، المزرية الواحدة منها بجمال إيوان كسرى المشهور! كيف تناولتها أيدي الدمار: فأتلفت رخامها البديع؛ وذهبت ببهجة صنعها المدهش؛ وباتت تهددها بخراب عاجل!
Unknown page