323

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

لذلك لم يتعلمها نوبار، وبقي طول عمره يجهلها، ولا يعرف منها إلا قليلا من لغة «العوام»، ولا شك في أن ذلك - إذا أضفنا إليه غربته عن الدين الإسلامي - كان سببا في عدم امتزاج روحه بروح الأمة المصرية على شدة حبه لها، وللعناصر البائسة منها على الأخص، وبقاء هذه الأمة غريبة عنه، بالرغم من أنه ربما كان أحسن خدامها، وأنه كان بلا شك أقوى الناس على السير بسفينتها إلى مرافئ السلام، لا سيما أثناء الأعاصير التي هبت عليها في أوائل ملك (محمد توفيق الأول)، فإنه كان، أكثر من كل قائل، يقول بوجوب صيرورة مصر للمصريين، ولكن على شرط ألا يعني ذلك اتخاذ الدين حجة للعمل على عكس ما يقتضيه العلم والعمران، وسلاحا في يد الجهل والتعصب!

وامتاز نوبار، وهو في زمرة المترجمين، بمواظبته على عمله، وسلوكه الأمثل ، وانكبابه على الدرس والتعلم، وبأنه شاب لا تستهويه الملاذ النسائية والأباطيل.

فعينه (محمد علي) سكرتيرا خاصا لابنه (إبراهيم)، فما انفك نوبار ملازما له في حله وترحاله، أينما قام وحيثما سافر، وبالرغم من أن الوظيفة لم تكن هينة، وأن الأخطار المحيقة بها كانت جمة - لأن (إبراهيم) كان ذا طباع حادة جدا، وله فرقعات غضب مرعبة - فإن نوبار بما أوتيه من طلاقة اللسان وحلاوته، وسعة الاطلاع وتنوعه، تمكن من التقرب إلى قلب مولاه، تقربا أصبح (إبراهيم) معه لا يرى في ساعات ضجره، وإبان ثورة غضبه، من تسلية أو تسرية، إلا في محادثة الشاب نوبار له، ولطالما تمكن الحدث الأرمني من إسداء خدمات جلى إلى الغير بسبب ميل مولاه إليه؛ أهمها إنقاذه أعمار ضباط الباخرة التي عاد (إبراهيم) عليها من الأستانة إلى مصر في سنة 1848؛ إذ هاج بطء سيرها، المسبب عن اشتداد الأنواء حولها، غضب الأمير المصري، فطفق يهدد ضباطها بتغريقهم جميعا، لولا أن نوبار لازمه ملازمة كلية، وأنساه بحلاوة حديثه الضيق المحيق بنفسه.

3

وتعرف نوبار - وهو في الأستانة مع الأمير (إبراهيم) - بأسرة أراميان السرية، وما لبث أن تزوج وهو في الرابعة والعشرين من عمره بابنة عميدها، كيڨورك بك، أحد وجوه الأستانة وذواتها، فأصبح صهرا لإبرام أراميان، المعدة له رتبة الباشوية الرفيعة، والمزمع أن يكون أقرب الناس من قلب السلطان عبد العزيز وموضع ثقته الكلية، وساعدته هذه المصاهرة فيما بعد على قضاء أكثر من لبانة في مساعيه المصرية لدى الحكومة العثمانية.

وكان قرانه موفقا، لأنه وجد في زوجته المتعلمة مثله، والمتكلمة عدة لغات مثله، رفيقة حياة بأجمل معاني هذه الكلمة، وما فتئت قائمة بجانبه، مسلية، معزية، مفكرة إياه بما يقتضيه الفضل والنبل كلما أثارت فيه المصاعب أو الدسائس أو الوشايات انفعالات التضجر أو الغضب، ورغبته في التخلي عن الاشتغال بالمصالح العامة.

ولما انتقل الملك إلى (عباس الأول) اتخذه هذا العاهل سكرتيرا له كذلك، فحاز نوبار لديه القبول عينه الذي كان من نصيبه بجانب (إبراهيم)، ومما ساعده على الفوز برضى ذلك الوالي، الكثير الوساوس والظنون، مصادقة المستر مري قنصل إنجلترا العام له - وقد كان من أخصاء (عباس) ومستشاره في مشاكله، وأكبر أنصاره في مساعيه التي رمى بها إلى تغيير مجاري الوراثة على العرش المصري، وحصرها في (إلهامي باشا) ابنه، وفي ذريته من بعده - وقد ساعد نوبار تلك المساعي بما كان له من العلاقات بالأستانة العلية.

ولكن طباعه التي كان فيها من حب الصراحة والأنفة والتعالي أكثر مما يصح أن يكون من هذا جميعه في أخلاق ندماء الملوك ما لبثت، بالرغم من كل حلاوة شمائله وسحر محادثته، أن جلبت عليه سخط (عباس)، وذلك أنه رأى ذات يوم مانعا من ضميره عن أداء عمل طالبه ذلك الوالي بأدائه، فأظهر (عباس) له استياءه بشكل لا يقبل التأويل، فأسرع نوبار وقدم له استقالته من وظيفته، ولزم في الحال منزله.

ولم يكن قد سمع في الشرق لغاية ذلك الحين أن موظفا وقع في خلده الاستعفاء من منصبه، فإما أنه كان يقال منه بأمر، أو يقتل وهو فيه، فعد الرأي العام استقالة نوبار- والحالة هذه - ضربا من ضروب الجسارة المتناهية، وتحديا لسخط (عباس).

وخشي نوبار نفسه أن يعده (عباس) كذلك، فيبطش به، فبعث يستأذنه بالنزوح عن القطر، فأذن له وهو متململ، لأنه استاء في الواقع منه جدا بسبب تجاسره على تقديم استقالته، كما كان المظنون، ولكنه تكدر منه على مغادرته خدمته، لأن (عباسا) كان يرى نفسه في حاجة إليها، ويود لو عاد نوبار إليه مستسمحا مستغفرا، وكان ينتظر ذلك منه، ولو أنه يتعالى عن إظهار رغبته هذه له.

Unknown page