Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
ولكن قبل وصول الوزير ورد على الزبير كتاب من إسماعيل أيوب باشا بناء على إرادة سنية، يلح عليه بالرجوع إلى دارفور في الحال، فرجع إلى الفاشر متأسفا على ما فاته من فتح ودداي، فأخبره الحكمدار أن سلطان ودداي أرسل وزيره أحمد تنقة إلى مصر عن طريق سيوه متشكيا للجناب الخديو، فأمر جنابه العالي برجوع الزبير، ولكنه أنعم عليه برتبة اللواء الرفيعة مع لقب «باشا»، وشرع إسماعيل أيوب باشا، بعد دخوله الفاشر، في بناء حصن منيع للعساكر على التلة الغربية منه، فبنى سورا مربعا متينا من الطوب سمكه ثلاثة أقدام، وطول الضلع الواحدة منه مائتا قدم، وأقام في أركانه الأربعة أبراجا، على كل ركن برجا، جعل فيها المدافع، وحفر من وراء السور خندقا بلغ عمقه خمسة عشر قدما، وأحاطه بزريبة من شوك، وبنى من داخل السور ديوانا للحكومة، ومنزلا للحاكم، وثكنة للعساكر المنظمة، وأما العساكر غير المنظمة فأقرها خارج السور، وهدم المنازل التي في جواره، فجعل الأرض التي حوله في غاية الانكشاف إلى مسافة بعيدة، فجاء حصنا منيعا جدا، ثم وزع منشورا في كل البلاد، ودعا الناس إلى الفاشر لأخذ الأمان، فطفقت الوفود تأتيه من الجهات الأربع، فيؤمنهم ويرجعهم إلى بلادهم، ثم أمر فعمرت سوق كبيرة في الفاشر، وعاد الناس إلى معاطاة أشغالهم كالعادة.
وبعد أن تمهدت البلاد جعلها أربعة أقسام؛ وهي: مديريات الفاشر، وداره، وكلكل وكبكبية، وإدارة أم شمقة، وأقام في كل من مركزي داره وكلكل حصنا كالذي أقامه في الفاشر، ورتب في كل مديرية أورطتين من العساكر المنظمة، وستة سناجق من الباشبوزق الشايقية والأتراك والمغاربة، وبطارية بستة مدافع. وأما إدارة أم شمقة، فرتب فيها بلوكين من العساكر المنظمة، وسنجقا واحدا من الباشبوزق، لقربها من الأبيض.
ثم شرع في وضع الضرائب على الأهلين، فجعل على كل نفر خمسين قرشا في السنة، ما عدا أهل اليسار، فإنه جعل عليهم ضرائب أعظم على نسبة يسارهم، فقبلوها مرغمين؛ لأنهم كانوا قد سئموا عيشة الاضطراب والقلق التي وصلوا إليها في آخر سلطة الفور، وتاقوا إلى السكينة، ولكن لم يطل الأمر حتى انتشر الباشبوزق في أنحاء البلاد، وتقاضوا الضرائب من الأهالي بالعنف والقوة، فاستعظموا ذلك، وفضلوا العودة إلى ما كانوا عليه قبلا.
وكان عندهم من أولاد السلاطين الأمير هارون الرشيد ابن الأمير سيف الدين ابن السلطان محمد الفضل، فبايعوه سلطانا عليهم في أوائل سنة 1877، وثاروا ثورة عامة، وحاصروا حاميات الفاشر وداره وكلكل، والذي حصر الفاشر الملك سعيد كبير البرتي، والمقدوم آدم، مقدوم الشمال سابقا، فهاجماها مرتين، وكادا يستوليان عليها، لولا أن العساكر حاربوا حرب الأسود، فصدوهما، ولكنهم لم يقووا على رفع الحصار، فأرسل حسن باشا حلمي الجويسر، مدير الفاشر، في طلب المدد من الخرطوم، فأتاه عبد الرازق باشا بجيش كبير، فتصدى له العصاة في بروش، بين أم شمقة والفاشر، فقتل منهم خلقا كثيرا، ودخل الفاشر فرفع عنها الحصار، وأرسل الجنود إلى داره وكلكل، فرفعوا الحصار عنهما أيضا.
ثم أخذ حسن باشا عسكرا من الفاشر، وخرج لمطاردة الأمير هارون، فأدركه في الطينة على مسيرة يوم ونصف من الفاشر، فأوقع فيه واقعة شديدة، ثم لحقه إلى بيرمرتال، فقتل من عسكره خلقا كثيرا، وهزمه إلى نيورنا وسط جبل مرة. وكان إسماعيل أيوب باشا، مذ دخلت سنة 1877، قد عاد إلى مصر، متخليا عن حكم السودان، بعد أن أمن السبل، وأنشأ المحطات في طرق القوافل بين الخرطوم ودارفور، وبين بربر وسواكن، ومع ذلك فإنه لم يكن محبوبا في السودان، وقد وصفه بعضهم بقوله: «كان رجلا جبارا، يعنى بالعسكرية، ويهمل الرعية، ويقبل كل هدية!»
فلم ير الخديو رجلا يوليه بالسودان، على اتساع أطرافه وكثرة مشاكله، أفضل من جوردون، فأرسل يستدعيه تلغرافيا من بلاد الإنجليز، فحضر في أوائل فبراير سنة 1877، وكانت مديريات السودان لا تزال مستقلة بعضها عن البعض، فطلب جوردون ضمها كلها تحت إدارته، فأجابه (إسماعيل) إلى ذلك، وأصدر له فرمانا بتاريخ 17 فبراير بالولاية على جميع بلاد السودان المصري مع دارفور، وخط الاستواء، وسواحل البحر الأحمر، وهرر، ومنحه السلطة العسكرية والمدنية كلها عليها، وأعطاه سلطانا على القتل والعفو، ومنع دخول أحد إلى السودان إلا بإذنه، وعهد إليه بمنع تجارة الرقيق، وتحديد التخوم بين السودان والحبشة.
فسار جوردون إلى الخرطوم بعزم وطيد لإصلاح البلاد، وفض مشاكلها، ووضع نظام عام يكفل لها الراحة، ويرقيها في معارج المدنية والعمران، ولكنه لم يلبث أن رأى خطورة المركز الذي تولاه، وتعذر النجاح في المهمة الملقاة على عاتقه؛ نظرا لعدم تيسر الأيدي اللازمة للعمل، واتساع أطراف السودان، ومشقة السفر في بلاده برا وبحرا، مع قلة الجيوش اللازمة لحمايته بعد أن ذهب قسم منها لمساعدة الدولة العلية في حرب الروس، ونهكت القسم الآخر حرب الحبشة، وسيأتي ذكرهما في حينه.
فقضى جوردون في السودان أزيد من سنتين، وهو يتنقل من مكان إلى مكان، آونة بالبر وأخرى بالبحر، متمما كل ما أمكنه من الإصلاح، حتى أعياه التعب، وقاومته السياسة، فاضطر إلى الاستعفاء. وكان أهم ما اشتغل به في هذه المدة إخماد ثورة الأمير هارون الرشيد في دارفور، وحركة صباحي في كردوفان، وتمرد سليمان الزبير في بحر الغزال، ومنع تجارة الرقيق، والنظر في مد سكة حديد السودان، وإصلاح ذات البين بين الحبشة ومصر.
أما الأمير هارون، فإنه كان قد عاد إلى الحركة في أوائل سنة 1879، فسار جوردون إلى الفاشر، وما لبث أن رأى أن دارفور لا يصلح حالها إلا إذا حكمها رجل من أهلها تحت طاعة الحكومة، على نحو ما أشار به الزبير من قبل، فبعث إلى مصر في طلب الأرشد من أولاد السلطان إبراهيم، وعزل حسن حلمي باشا عن الفاشر، وسمى مساداليه بك - وهو ضابط إيطالي - مديرا على دارفور، وكان مديرا على داره، وجعل المقدوم رحمه قومو - وكان قد أطلقه من سجن سواكن سنة 1877 عند مروره بها - معاونا له، إلى أن يجيء ابن السلطان إبراهيم من مصر، ولكن هذا الشاب التعس الحظ لم يصل إلا إلى دنقلة، حيث فاجأته منيته، فعهد جوردون إلى مساداليه في إخماد حركة هارون، فاستعان الإيطالي عليه بسلاطين بك - وكان قد خلفه على مديرية داره - فعمل الاثنان معا، وانضم إليهما النور بك عنجرة مدير كلكل، فقضى الثلاثة على الرجل بمهاجمتهم إياه بالتتابع، وتم قتله على يدي مدير كلكل في مارس سنة 1878.
وأما الصباحي - وقد كان أحد قواد جيش الزبير، وانفصل عنه بعد ذهاب الزبير إلى مصر لمقابلة الجناب العالي، وعرض حقيقة حال دارفور على سموه، والنظر معه ومع رجال حكومته في تنظيم البلاد التي تم فتحها على يديه، والبلاد التي يمكن إلحاقها بحكومته في المستقبل، فأبقاه (إسماعيل) بمصر في ظل ساحته حتى ينظر في أمره، وكانت تلك القاضية؛ لأن الرجل لم يرجع إلى السودان بعد ذلك، وقضى نحبه بمصر في أيامنا هذه - فإنه ألف عصابة من أربعمائة رجل، وأغار على الأرضية في كردوفان، فقتل مأمورها، وفر إلى جبال النوبة، فعلم به جوردون وهو ذاهب إلى دارفور المرة الثانية في مارس سنة 1879، فأرسل من الأبيض نفرا من العساكر، فطاردوه وأتوا به أسيرا، فحوكم في مجلس عسكري، وحكم عليه بالإعدام.
Unknown page