Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
وفي أوائل شهر يولية سنة 1870 تم طبع القوانين المصرية المختلطة، فوزعها نوبار باشا على الدول المختلفة، حالا، إجابة لرغبتها، فحرر اللورد جرانڨل، وزير الخارجية الإنجليزية، إلى المركيز دي لاڨاليت، سفير فرنسا في لندن، في 22 يولية سنة 1870، أنه، بعد اطلاعه عليها، يوافق تمام الموافقة على إنشاء الهيئة القضائية الجديدة المرغوب فيها بمصر، وعلى شكلها المبين في المشروع الفرنساوي، ودائرة الاختصاص المعينة لها؛ وأنه كلف سفراء بريطانيا العظمى لدى الدول المختلفة، وبالأستانة ومصر، بتسليم تلك الحكومات نسخة من كتابه إليه، لإعلامها باتفاق إنجلترا وفرنسا على الأمر، لكي يسعى الخديو، حالا، إلى إحراز قبول السلطان بالإصلاح القضائي كما قرر بالمشروع الباريسي؛ ويعلن السلطان قبوله إلى الدول، فتقدم الحكومة المصرية على اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لتكوين تلك المحاكم وإنشائها.
ولكن الحرب كانت قد نشبت بين فرنسا وألمانيا، وأصبح الزمن غير مناسب للمفاوضات، فعدل الخديو عنها، مؤقتا، وأخذ يفكر في إصلاح آخر يقوم مقام الإصلاح القضائي ولو جزئيا.
فوقع في خلده إنشاء بلدية بالإسكندرية، يخول لها حق النظر المطلق، قضائيا، في جميع أمور التنظيم والإيجارات في الثغر، مع توسيع دائرة محاكم التجارة، وجعلها مختصة بالنظر في أمور لا تكون تجارية بكل معنى الكلمة، وأقدم يجس نبض القناصل في ذلك، فوافقه بعضهم؛ وأبى البعض الآخر، ومن ضمنهم معتمد إيطاليا، إلا أن يكون كل إصلاح قضائي يجري في البلاد شاملا عاما، لا جزئيا خاصا.
فحوالي أواخر شهر ديسمبر سنة 1870 - وكان فوز ألمانيا على فرنسا بكيفية نهائية ساحقة بات أمرا مؤكدا، ونزول فرنسا على الشروط الألمانية أمرا لا يحتمل ريبا مطلقا - رأى نوبار أن الوقت قد حان مرة ثانية لإعادة المفاوضات في الإصلاح القضائي إلى مجاريها السابقة، لا سيما إزاء كثرة تردد الإشاعات عن قرب اجتماع أوروبا في مؤتمر عام قد يتناول بحث مسائل شرقية أخرى.
فأرسل في 2 يناير سنة 1871 كتابا في شكل مذكرة، إلى عموم معتمدي الدول في القطر، يطلب فيه مصادقة حكوماتهم على القوانين المصرية المختلطة التي عرضت نسختها على كل واحدة منها؛ وأن تكون تلك المصادقة إما مباشرة، وإما بواسطة معتمدي الدول مجتمعين بهيئة لجنة خاصة، أو بواسطة مندوبين تنتدبهم الدول لذلك الغرض، وأرسل نسخا من ذلك الكتاب إلى وزارات الخارجية كلها.
فأسرعت بروسيا، وأجابت أنها تصادق على القوانين المذكورة، وتصرح لمعتمدها في القطر المصري بالعود إلى تناول مباحث لجنة القاهرة الأولى؛ ولكن إيطاليا أبت أن تبدي رأيها النهائي، قبل أن تفرغ لجنتها من فحص المشروع والتشريع المسنون له؛ وأبت إلا الوقوف مقدما على الشكل الذي سوف يتخذه تنفيذ التعهدات المتبادلة؛ أي: على كيفية تشكيل المحاكم العتيدة.
فرأى نوبار باشا أن يرد على هذا الإباء ردا طويلا، أثبت فيه أنه لم يكن في وسع الحكومة المصرية أن تعبر عن فكرها في هذا الشأن بأحسن مما عبرت عنه إذ قالت أنها ستختار قضاة أوروبيين، وتستشير في تعيينهم بكيفية شبه رسمية حكوماتهم المختلفة لتحيط اختياراتها بأكثر مما يمكن من الضمانات؛ وأن القواعد التي تريد الحكومة الإيطالية أن تتخذ أساسا لتحديد عدد القضاة ودرجاتهم لقواعد لا يصح العمل بمقتضاها: (أولا) لأنه من شأنها جعل المحاكم العتيدة دولية أكثر منها مصرية؛ و (ثانيا) لأنها ستثير حتما منافسات دولية، ترى مصر أنها في غنى عنها؛ وأن الحكومة المصرية فكرت لاجتناب تلك المنافسات في تشكيل محاكم أول درجة من قضاة يؤخذون من سويسرا والبلچيك وهولندا، وتشكيل محكمة الاستئناف من مستشارين يؤخذون من الدول العظمى؛ لأن معاملة هذه الدول على قاعدة المساواة أمر ممكن، في هذه المحكمة العليا، بسبب كثرة عدد أعضائها.
فأقرت إيطاليا هذا المبدأ، ولو أنها لم توافق على أن يكون عدد مستشاري الاستئناف الغربيين سبعة فقط؛ واطلعت الحكومة المصرية على التقرير الذي وضعته لجنتها في فلورنسا، فإذا به تقرير ضاف واف، تناول كل دقائق المشروع وتعديلاته، وما اقترح له، والمشروعين العثماني والفرنساوي؛ ومحص ذلك جميعه تمحيصا مستوفيا؛ واستنتج نتائج، واستنبط آراء أقر معظما فيما بعد، لوجودها قرينة الصواب، وبنت الحكمة والتبصر، فأمرت الحكومة المصرية بترجمته إلى الفرنساوية، لتستفيد ويستفاد مما جاء فيه.
غير أن الباب العالي كان قد أظهر استياء لا مزيد عليه من عرض القوانين المصرية على الدول لنيل تصديقها عليها، لاعتباره ذلك افتياتا على حقوق الدولة: (أولا) لأن العرض يقتضي أن القوانين جديدة، وغير قوانين باقي السلطنة، ولا حق في وضع قوانين جديدة إلا للسلطة صاحبة السيادة العليا؛ و(ثانيا) لأن العرض يقتضي أن موافقة الدول الأجنبية عليها تكفي لكي تجري تلك القوانين في القطر المصري، مع أنه لا حق لمصر في إجراء قوانين تكون غريبة عن قوانين الدولة العلية؛ فأرسل بهذا المعنى كتابا كله خيلاء إلى الحكومة المصرية، أنذرها فيه بأن أمر «الإصلاح» إنما هو من الشئون السلطانية لا من الشئون الداخلية المصرية؛ وأنه يرى بناء على ذلك أن تتنكب الحكومة الخديوية عنه، وتتركه لحكمة الباب العالي، ليجري ما يراه فيه.
ولكي تكون معاكسته للمشروع مكسوة الظواهر برداء ينخدع له الصواب، أعلن الدول أنه مشتغل، هو نفسه، في وضع قانون قضائي لعموم السلطنة، وأنه سيفرغ من وضعه في ظرف ستة شهور؛ فما على مصر، والحالة هذه، إلا انتظار صدوره للعمل به أسوة بباقي الممالك الشاهانية.
Unknown page