261

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

على مسألة اختصاص المحاكم الجديدة؛ وهل تحكم في القضايا بين أجانب من جنسيات مختلفة أم لا، فاشتد البحث في ذلك بين السنيور چياكوني، القائل باختصاصها، والمسيو پييتري، القائل بعدمه، فانضم المسيو تريكو إلى زميله، وقال بأن القنصليات الفرنساوية ترى نفسها مختصة بالنظر في ذات المنازعات القائمة بين الرعايا التابعين لها على عقارات موجودة في بلاد الدولة العلية، بما فيها القطر المصري: فلا ترى أن تتخلى عن النظر في القضايا الشخصية المرفوعة من أجنبي على فرنساوي، فسأله الكرنل ستانتن: «بموجب أي قانون ترى نفسها مختصة بذلك؟» فأجاب: «بموجب الأمر العالي الصادر من ملك فرنسا سنة 1778» فقال نوبار باشا: «إنه لم يكن، في ذلك العهد، من ملك عقاري للأجانب في بلاد السلطنة العثمانية؛ بل لم يكن لهم حق اقتناء ملك عقاري فيها على الإطلاق؛ وأن (محمد علي) الكبير كان أول من منحهم عقارا، حتى الكنائس، ليحبب إليهم النزوج إلى القطر والإقامة فيه، لعماره»، فقال السنيور چياكوني: «ما عدا كنيسة القديس مرقص والقديسة كاترينا، بالإسكندرية: فإنها كانت، منذ زمن مديد، ملك البندقيين!» فقال نوبار: «إن هذا الاستثناء يؤيد القاعدة!» ثم أثبت، بأدلة قاطعة، أن تعرض القنصليات للحكم في القضايا العقارية، تجاوز، لا حق ، فوافقه على ذلك المندوبان الإنجليزيان، وختم نوبار البحث في هذه المسألة برجاء قدمه إلى المندوبين بأن يعلموا دولهم بكيفية دخول ذلك التجاوز في نظام الامتيازات القنصلية، وصيرورته بغير حق جزءا منها.

سابعا:

وأخيرا، على مسألة تنفيذ الأحكام التي تصدرها المحاكم الجديدة. هل يكتفى بإخطار القناصل بها، وإحاطتهم علما بيوم التنفيذ وساعته، بدون أن يكون لهم حق في المعارضة في التنفيذ، كما أشار السنيور چياكوني، أم يجب أن تشترك في التنفيذ السلطتان المحلية والقنصلية، كما أشار المسيو پييتري؟ فاحتدم، هنا ، الجدال بين الأعضاء احتداما عنيفا، وأبدى المندوبان الفرنساويان من السخافة في الرأي، والتعنت، العجب العجاب، حتى لقد يخيل للمطلع على المناقشة أن يتساءل: «كيف أمكن لعقلي رجلين من ذوي النباهة كالمسيو تريكو والمسيو پييتري، أن لا يفهما الإيضاحات والبيانات الجلية المقدمة من نوبار باشا؟» وبعد أخذ ورد طويلين، أجمعت الآراء على أن رأي السنيور چياكوني أحرى بالاتباع من رأي المسيو پييتري.

وفي جلسة 29 دسمبر سنة 1869 طرح نوبار باشا على بساط البحث مسألة الإصلاح الجزائي، وطلب الاهتمام بها؛ وبين ماهية الضمانات التي ترى الحكومة المصرية أن تقدمها، لتسكن القلوب إلى إجراء ذلك الإصلاح.

فأجمع رأي المندوبين على أن الحال القضائية بمصر أحوج إلى الإصلاح الجزائي منها إلى الإصلاح المدني، ما عدا المندوبين الفرنساويين؛ فإنهما زعما أن إجراء أي تعديل كان في النظام القضائي الجزائي يعد تعديا على الامتيازات؛ وأنهما لا يستطيعان، والحالة هذه، إقراره ولا المناقشة فيه، ولو أنهما يحضران المناقشة، لإبلاغ حكومتهما ما يدور فيها.

فشرع في بحث مواد المشروع الذي جهزه نوبار باشا، وما بدئ فيه إلا وانبرى السنيور چياكوني، وأثبت بأفصح بيان، وجوب إجراء الإصلاح الجزائي لنيل غرضين لا بد من توخيهما في وضع نظام أي عدالة جزائية كانت وهما: حماية الهيئة الاجتماعية من الآثمين، بضرب سريع على يد المذنب يكون عبرة لمرتكبي الجرائم؛ وتقديم الترضية الكافية للمجني عليهم، والنظام القضائي القنصلي خلو منهما؛ لأن التحقيق فيه يعمل كتابة، ويرسل إلى المحاكم الجزائية في البلاد الغربية لتحكم فيه؛ مع أن المجمع عليه في التقنين الأوروبي هو أن التحقيق كتابة أمر لا يجب أن يؤبه به، ولو قامت القنصليات بإرسال شهود كل واقعة إلى الخارج، لتكلفت نفقة فوق حد الطاقة، كما حدث له في سنة 1861؛ إذ كان قاضيا إيطاليا بمحكمة الإسكندرية القنصلية وأرسل شهود متهم تسكاني إلى أوروبا، عملا بالنظام التسكاني: فكلفه مجرد إرسالهم، ما عدا المصاريف الأخرى، عشرة آلاف فرنك؛ وكما كان يحدث للقنصلية الإنجليزية حينما كانت تحاكم الجناة بمصر أمام محكمة الجزاء بمالطة، فإنها كانت تعطي الشاهد أحيانا ثمانين فرنكا في اليوم، فوق مصاريف سفره في الدرجة الأولى، ذهابا وإيابا ناهيك بما قد رسخ في الأذهان من أن العدالة الخارجية لا ضمانة فيها للترضية الكافية، الواجب تقديمها لمصالح المجني عليه؛ وأن الجناة، المرسلين ليحاكموا أمامها، كثيرا ما يعودون وقد برئت ساحتهم، لعدم توفر أدلة الإدانة أمام ذلك القضاء، مع كثرة توفرها حيث ارتكبوا جناياتهم، فلا دواء، والحالة هذه، لهذا الخلل إلا بإنشاء محاكم جزائية مختلطة منظمة، كالتي تقترح الحكومة المصرية إنشاءها؛ وبتقرير هيئة محلفين، يؤخذون من بين وجوه الجاليات الأجنبية وسراتها، ليساعدوا القضاء في مهمته.

فقال المسيو پييتري: أن لا شيء يزعج الجالية الغربية أكثر مما لو قيل لها إنها ستحاكم أمام محاكم القطر الجزائية، بدلا من أن تحاكم أمام قنصلياتها، وأعلن الهرفون شراييز أحد المندوبين النمساويين أن ما يخاف منه، في الحقيقة، هو أن لا تكون الحكومة المصرية مخلصة في تنفيذ ما قد يعقد من الاتفاقات بينها وبين الحكومات الغربية في هذا الموضوع.

فنهض نوبار باشا، وبدد ذلك الخوف بحجج قاطعة؛ وأظهر أن مصلحة الحكومة المصرية ومصلحة الدول الغربية متفقتان تمام الاتفاق في تنفيذ كل عقد يعقد بين الفريقين في موضوع الإصلاح المرغوب فيه من الفريقين على السواء؛ ودحض مزاعم المسيو پييتري قائلا: إن الجالية الغربية ستحاكم أمام محاكم منظمة على الطريقة الأوروبية، مشكلة معظمها من قضاة ينتخبون في أحضان الهيئة القضائية الغربية، في بلاد الغرب عينها، وأمام محلفين من وجوه رجال الجالية ذاتها، ولو أن الأحكام ستصدر متوجة باسم خديو مصر، لا أمام محاكم محلية محضة.

فأبى المسيو تريكو إلا الاستمرار على التمسك بحرفية الامتيازات، مؤكدا، مع ذلك، أن القناصل لا يرغبون في شيء أكثر من تخليهم عن السلطة القضائية، على شرط أن يعطوا الضمانات الكافية لتسكين ضمائرهم.

فعادت اللجنة، حينئذ، إلى بحث مشروع الحكومة المصرية الجزائي ليتم وقوفها على مقدار الضمانات المقدمة فيه وماهيتها، وأهم ما دارت عليه المناقشة كيفية تكوين هيئة المحلفين؛ غير أن الآراء أجمعت، في نهاية الأمر، على ترك شأن تكوينها إلى نصوص قانون المرافعات الجزائية، والاكتفاء بوجوب تقرير تلك الهيئة، مؤقتا، بصفة ضمانة للمتهمين.

Unknown page