192

Misr Khadiwi Ismacil

تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا

Genres

فلما ذهبت الثورة بكرسي خورشد باشا، وانتخب علماء القاهرة المكدوني العظيم واليا عليهم، عضد سيبستياني انتخابهم لدى حكومة القسطنطينية، وجعلها تعتمده، فحفظ (محمد علي) للكونت دي لسبس جميله - وكان حفظ الجميل من أجمل ما امتازت به أخلاق ذلك النابغة العجيب.

ولما اختارت الحكومة الفرنساوية، بعد ذلك بنيف وسبع وعشرين سنة، فردينند ابن الكونت ماتييه دي لسبس، ليكون نائبا للقنصل الفرنساوي، بالإسكندرية، استقبله الباشا العظيم بإكرام زائد، وخصه بعطف أبوي، وما فتئ يظهر له من ضروب الحنان ما جعله أو كاد يجعله أحد أفراد الأسرة العلوية.

ولما شب الأمير محمد سعيد ابن الأمير العصامي، وترعرع، عهد (محمد علي) إلى فردينند بأمر الاعتناء بصباه، فقام فردينند بذلك قياما حسنا، وعلم الأمير اليافع ركوب الجياد، وحبب إليه إجهاد النفس في التمارين الرياضية - وكان (محمد سعيد) في أشد الاحتياج إليها: لأنه كان عظيم الجثة بدينا إلى حد أن أباه حتم عليه حضور أربعة عشر درسا في اليوم، والإكثار من الرياضة الجسمية، لكي تذهب عنه بدانته؛ وأنه كان يزنه، كل أسبوع؛ فإذا وجد وزنه زائدا على ما كان في الأسبوع السابق؛ عاقبه عقابا صارما؛ وإذا وجده ناقصا، كافأه؛ ولو أن عظم جثته وبدانتها لم يكونا، في بدء أمره، مرضا؛ بل كانا كعظم جثة پرتس في (رواية الفرسان الثلاثة لإسكندر دوماس )، وكعظم جثة عبادة بن الصامت في أنباء فتح مصر لمؤرخي العرب، مظهر قوة غريبة، وصحة عجيبة.

فنشأ عن اعتناء فردينند بمحمد سعيد، ذلك الاعتناء، أن هذا الأمير الشاب صادقه مصادقة أكيدة وألفه ألفة زائدة كان الباشا العظيم أبوه من أكبر مشجعيه عليهما، ومن أميل الناس إلى توثيق عراهما بينهما.

وكان قنصل فرنسا العام بالإسكندرية، في ذلك العهد، رجلا من أدباء عصره يقال له: المسيو ميمو، وكان لا ينفك يقرأ الكتاب الذي وضعه، في مسألة ترعة الاتصال بين البحرين، المندوبون الذين عهد إليهم الجنرال بونابرت بحثها وفحصها، فأوجد غرام مطالعة ذلك الكتاب النفيس، في روح الشاب دي لسبس المتخرج على يديه، فأكب دي لسبس على مطالعته باهتمام زائد؛ وما لبث أن ثبت في ذهنه، بكيفية لا تتزعزع، إمكان إيجاد ذلك الاتصال؛ فوطن نفسه على تخصيص جميع قوى عقله وروحه وجسمه لنفاذه.

5

غير أن صروف الأيام ما عتمت أن نقلته من القطر المصري إلى الغرب؛ وقلبته هناك في عدة مناصب سياسية أظهرت فضله، ونشرت ذكره، ولكنها أبعدته عن محط رحال أفكاره، ومطمح أنظار رغائبه: ألا وهو برزخ السويس، الذي لم يعد يبغي مجدا مخلدا إلا من وراء قيامه بحفر ترعة الاتصال بين البحرين.

وكانت الأنظار، في أوروبا، قد اتجهت نحو تحقيق هذه الفكرة، القديمة العهد، لا سيما منذ أن هب السانسيمونيون، وعلى رأسهم الأب انفنتين المشهور، يحبذون تحقيقها، ويحضون عليه؛ وأتى بعضهم، مع أستاذهم المذكور، إلى مصر، وأخذوا يدرسون الموضوع درسا عميقا، ويبتكرون المشروعات المختلفة لتحقيقه: فتالابو أشار بعمل ترعة من الإسكندرية إلى مصر، تجتاز النيل عند هذه العاصمة، ثم تسير منها إلى السويس، وبرول أشار بعمل ترعة من السويس إلى بحيرة المنزلة، ثم تسير منها غربا، متبعة الساحل المصري الشمالي، حتى الإسكندرية.

6

ولكن (محمد علي) رفض، بتاتا، التصريح بأي عمل من هذا النوع، وأبى كل الإباء أن تحتفر ترعة دولية، لوصل الغرب بالشرق الأقصى، في داخلية بلاده، فتسير السفن تجارية أو حربية فيها رافعة أعلام دولها المختلفة، ويتعرض القطر لطوارئ ليست في الحسبان، قد تؤدي إلى استيلاء إحدى الدول العظمى الغربية، لا سيما بريطانيا العظمى، عليه.

Unknown page