Misr Khadiwi Ismacil
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Genres
24
وأما المكتبة الخديوية، فيعزو بعضهم إنشاءها إلى إشارة بذلك صدرت من السلطان عبد العزيز إلى (إسماعيل) ويقولون: إن هذا العاهل، لما زار مصر، وشاهد مساجدها وآثارها، ورأى الكتب العديدة من مخطوطات ومطبوعات، مبعثرة في خزاناتها ، أشار على (إسماعيل) بإنشاء مكتبة عامة تجمع شتاتها، ليستفيد الناس بمطالعتها، وإن هذه الإشارة الهمايونية وقعت وقعا جميلا من نفس (إسماعيل).
على أننا، مع عدم ميلنا إلى تكذيب حكاية هذا الإيعاز، نرى أنه كان من طبيعة الاهتمام الذي أبداه (إسماعيل) بإحياء العلوم والمعارف في بلاده، ومن شأن رغبته في تكوين نهضة علمية أدبية فيها، أن يولدا في نفسه فكرة إنشاء تلك المكتبة، وكان جده (محمد علي الكبير) قد أوجد مستودعا في بيت المال القديم، خلف المسجد الحسيني، لبيع مطبوعات الحكومة من كتب وغيرها، فأضاف (إسماعيل) إلى ما فيه من كتب، نحو ألفي مجلد من مخطوطات بالعربية والتركية والفارسية، ابتاعها من تركة حسن باشا الموناسترلي أحد كبار رجال (عباس الأول)، ولما كانت سنة 1869 - وهي سنة الاحتفال بفتح القناة السويسية، وتوافد أصحاب التيجان وأرباب الأقلام إلى القطر - أوعز إلى علي باشا مبارك - وكان مدير ديوان المدارس؛ أي: ناظر المعارف - أن يتخذ محلا، من سراي درب الجماميز، بجانب ديوانه، ويجعله دار كتب خديوية، وينقل إليه ذلك المستودع برمته، وأهم ما يجد من كتب في المساجد والتكايا بمصر وغيرها من مدن القطر؛ ففعل، وأضاف إليها الكتب التي كانت في خزانة الأوقاف الخيرية، وكثيرا من الآلات الهندسية والرسومات ونحوها.
فلما كانت سنة 1870، أصدر (إسماعيل) أمرا رسميا بإنشاء المكتبة، وأمر علي مبارك باشا بتنظيمها ووضع قانون لها؛ ففعل، وفي سنة 1876 توفي الأمير مصطفى فاضل باشا شقيق (إسماعيل) - وكان كلفا بالكتب، عربية وغيرها، حريصا على اقتنائها، وعنده منها خزانة نفيسة فيها نيف و3500 كتاب، فابتاعها (إسماعيل) بثلاثة عشر ألفا من الجنيهات، وأهداها إلى مكتبة الخديوية؛ وما زال يجد في اقتناء الكتب العربية وغيرها، وهو لا يبالي بالإنفاق، حتى صير تلك الدار تضارع مثيلاتها التي من درجتها في العواصم الأوروبية، وأعاد إلى الشرق الأدنى، مثالا من مفاخره العلمية، التي ازدهت بها العصور العباسية والفاطمية؛ وأخرج إلى الأيام الحاضرة، في ثوب قشيب، تحفا من تلك المفاخر، جعلتنا نشاهد عيانا ما كنا نسمع عنه من خطوط متقنة، كخطوط ابن مقلة ، ورسوم بهية بهجة ومكن ظمأنا إلى العلم والبحث والمذاكرة، من ينابيع حية يلجأ إليها، فيرتوي.
وأما دار الآثار العربية، فإن (إسماعيل) أصدر أمره بإنشائها في سنة 1869 وكلف بذلك فرنس باشا، رئيس هندسة الأوقاف، وكان غرضه منها جمع ما كان مبعثرا في المساجد وغيرها، من الآثار العربية والإسلامية، على أنواعها، لتكون تلك الدار ضوءا للمتحف المصري، المجموعة فيه الآثار الفرعونية والبطليموسية والرومانية والبيزنطية، فيكون الاثنان معا، هيكلا فخما للتاريخ المصري برمته، ينتقل فيه المطالع الباحث، أو المتفرج البسيط، من مرحلة إلى مرحلة، في حياة مصرنا هذه، على ممر العصور، وهو مأخوذ اللب دهشة، وإعجابا وإعظاما ولكن عللا كثيرة، منها اشتغال المكان المطلوب لجمع تلك الآثار فيه بما سواها، حالت دون تنفيذ فرنس باشا أمر (إسماعيل) في عهده فلم تخرج فكرة «الخديو العظيم» إلى الوجود إلا في أيام ابنه وخليفته، المرحوم محمد توفيق باشا؛ وقد أنبأ علي بهجت بك، مدير دار الآثار العربية الآن، المؤرخ المحقق الكبير المرحوم جورجي زيدان بك «أن عدد ما كان في تلك الدار من التحف الأثرية، في سنة 1913، نحو 4000 قطعة، بينها آثار عربية إسلامية من بقايا التمدن الإسلامي على اختلاف عصوره؛ ومصنوعات حجرية وزجاجية، وخشبية، ونحاسية على الطرز العربي الجميل، تستحق العناية والدرس، وأكثرها من عصور الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين!»
25
غير أن مظهر النهضة العلمية الرسمي بمصر لم يقتصر، مطلقا، على ما ذكر، ولو أنه تجلى فيه، على الأخص، فدار الطباعة، مثلا، وجدت من (إسماعيل) عناية كبرى جعلتها أكبر مطبعة عربية في العالم، حتى بلغ متوسط المؤلفات المطبوعة فيها، سنويا، على عهده، نيفا وعشرين مؤلفا، فضلا عن الكتب المترجمة وخلافها.
ثم إنه نشط الصحافة والجمعيات العلمية، والخيرية، والأدب على أنواعه، في سائر الأمصار العربية، تنشيطا عظيما، بتشجيعه المعروف للعلم.
أما الصحافة، فهو الذي سهل الاشتغال بها على أدباء السوريين المتقاطرين في أيامه إلى مصر، طمعا في كرمه؛ وأشهرهم آل تقلا، وأديب إسحق، وسليم النقاش، وسليم حموى، وغيرهم، ولم يكن يقاوم حريتها في أي موضوع تخوض فيه، ما عدا موضوع الطعن عليه؛ وعدم مراعاة جانبه، فإن الخوض فيه كان يؤلمه ويؤذيه، لا سيما في أيام ضيقه، وتنازعه على البقاء مع دائنيه وحماتهم، ولا غرابة، فما من عاهل، لا سيما في أيامه، ولا سيما من كان منبته وتربيته كمنبته وتربيته، كان يستطيع أو يريد أن يروض نفسه على احتمال انتقاد ألسنة الرعايا لأعماله، وما من رجل يحسن إليك ويرعاك، إلا ويستفزه أن تكون مع عدوه عليه، في وقت شدته.
أما الجمعيات، من علمية وخيرية، فقد أمدها بعنايته وماله، وشجع الناس على الاشتغال فيها، فإليه مرجع الفضل في تأسيس الجمعية الجغرافية الخديوية في سنة 1875 - وكان من أهم أعضائها محمود باشا الفلكي، وستون باشا الأميريكي، وكلاهما من موظفي الحكومة المصرية - والجمعية العلمية الشرقية - وكان من أهم أعضائها أرتين باشا وفخري باشا، ثم انضم إليها سليمان أباظة باشا، وإلياس حبالين، والدكتور مهدي خان التبريزي - وساعدت حكومته على إنشاء الجمعية الخيرية الإسلامية الأولى في سنة 1878، وأمدتها بالنقود؛ ولما كان الباعث على إنشائها روحا سياسية اجتماعية دبت في نفوس المصريين في ذلك العهد، على أثرها شاهدوه من استئثار الأجانب بمرافق البلاد الاقتصادية، فحملتهم على فتح المدارس لتعليم البنين والبنات، وتهذيب أخلاقهم، في ميدان حرية مطلقة، فإن الحكومة اشترطت عليها لكي يسمح لها بذلك، ألا تكون خاصة بالمسلمين، وألا تصطبغ بصبغة دينية خاصة، فغيرت الجمعية اسمها، وتسمت «بالجمعية الخيرية»، فاعتبرت رسميا وصدق على قانونها.
Unknown page