Misr Fi Thulthay Qarn
مصر في ثلثي قرن
Genres
والدليل الذي نشير إليه هو قول اللجنة في الفصل الأول من الباب الثاني من تقريرها: «وكان همه الأكبر - تريد محمد علي - متجها إلى ترقية الزراعة والصناعة، وتحقيقا لهذا الغرض السامي رأى أن يستعين بمدنية أرقى من مدنية بلاده، كما أنه مهد للشعب سبيل الحصول على حاجته من التعليم، وبث فيه الرغبة في طلب العلم ووضع كذلك المشروع العظيم لأعمال الري والترع والقناطر وبدأ في تنفيذه فتكللت أعماله بالنجاح».
1
لم يحدث في العهد منذ سنة 1882 شيء جديد للزراعة المصرية، لم تزد أنواعها، ولم تتغير أساليبها، اللهم إلا شيء واحد جديد، هو نقص متوسط المحصول وكثرة الآفات، وإرهاق الفلاح بالمغارم المتنوعة.
ولم يحدث شيء جديد للري، اللهم إلا نظام يهلك الزرع ظمأ، ويملأ قلب الفلاح كمدا وغيظا، كلما وقف أمام زرعه فرآه يموت بنار القيظ الشديد، ونار الظمأ الشديد، والماء حرام عليه وهو على قيد شبر منه.
لم نعرف أثرا لهذا العهد في احتفار ترعة أو بناء خليج، ولسنا من يكتم الحق إذا قيل إن «خزان أسوان» أثر خالد للاحتلال الإنكليزي، ولكن لا ينبغي لأحد أن يكتم الحق أيضا إذا قلنا إن هذا الأثر العظيم قام حدا فاصلا بين مصر وسودانها فأصبح محبس الماء عن الوادي، فلا يرسله إلا بقدر معلوم، ولا يجري هذا القدر إلا بمشيئة مطلقة، تعطي وتمنع، لا بخلا ولا كرما، بل تحكما وإكراها على الإذعان.
كل الأنهار والترع والجسور والقناطر والدساكر كانت قبل هذا العهد، وفلاح مصر اليوم هو فلاحها منذ القدم، لم يتعلم جديدا غير أسلوبه الموروث، ولم يتناول بذرا جديدا غير بذره المعروف، والأرض هي الأرض، والهواء هو الهواء، والشمس هي الشمس، وفصول السنة لم تتغير فهي التي تمر بنا منذ خلق الله الزمان، فماذا حدث؟ أين الحياة الزائدة؟ أو أين القدر الزائد في الحياة؟
إذا لم تبلغ مصر حظها الحسي الذي بلغته الآن، لوجب ألا تكون من الأرض التي يعمرها البشر، على أنها لم تبلغ حظها من الحياة التي ارتقى إليها العالم بخطواته الواسعة؛ لأنها قيدت بينا كان العالم طليقا! ولكن موطن النظر هو هل كانت تبقى جامدة لو أنها كانت طليقة؟ هذا الذي نريد أن نعرفه الآن.
أنشأ محمد علي وخلفاؤه المصانع لكل شيء، فبقيت المصانع إلى أن طغى على مصر سيل العهد الأخير. وأنشأوا القلاع ليذودوا الطارق المغير عن الثغور والسواحل، فبقيت قلاعهم إلى أن دخل على مصر ليل العهد الأخير. وأنشأوا المدارس لكل علم وفن، فبقيت مدارسهم إلى أن نشبت بمصر أظافر العهد الأخير. فماذا أصاب مصر في هذا العهد الأخير؟
هدمت المصانع فأصبحت مصر عالة على غيرها تستجديه أحقر الحاجات، ودرست الصناعات والفنون فأطبقت على الأمة جهالتها، وهدمت القلاع، وأبيحت السواحل والثغور، فصارت البلاد كالدار المهجورة يدوسها كل طارق، أو كالحمى المباح ينتهكه كل راع، وهدم بعض المدارس وبقي منها ما تتم الخدعة ببقائه بعد أن مسخ فأصبح صورة جوفاء.
وهيهات أن تفتخر علينا يد الإصلاح بشيء، اللهم إلا سياسة تشهد بالعجز قبل أن تشهد بسوء النية، ويا ويل العلم والإصلاح والتمدين ممن يعالجها ستا وثلاثين سنة ثم يقول بنفسه في نفسه إن الدواء كان داء، ومن العجب أن يتمرن الطبيب ستا وثلاثين سنة فيختمها بالخيبة، ثم يطلب أن يتمرن مدة مثلها!! ويا رحمتا لمريض عملت مشارط طبيبه المتمرن ومقاريضه في جسمه كل هذه المدة لا لشيء إلا أن الطبيب يتمرن!
Unknown page