Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
وعند الفشن التحم الجيشان في معركة عنيفة، وهوجمت البلدة وسقطت في يد السلحدار وانهزم الألفي الصغير، وتعقب السلحدار جيشه في تقهقره حتى بلغ أسوار المنيا، ولكن لم تلبث الهزيمة أن حلت بجيش السلحدار في 14 ديسمبر عندما التحم مع مماليك البرديسي في المقدمة، بينما أطبق عليه الألفي الصغير من المؤخرة، فاضطر السلحدار إلى التقهقر إلى بني سويف، وسقط من المماليك في هذه المعركة اثنان من البكوات هما: مراد بك الصغير خازندار البرديسي القديم وصالح بك من بيت الألفي الكبير، وذلك عدا كاشفين وسبعة من المماليك، ومع ذلك فقد استبد الخوف من المماليك بجيش السلحدار بعد هذه الهزيمة، وصمموا على التقهقر من بني سويف؛ لولا أن وصل محمد علي بقواته، فأعاد إليهم الثقة في نفوسهم، وسنحت الفرصة بفضل ذلك لاتخاذ خطة الهجوم والزحف صوب المنيا لحصارها في أواخر ديسمبر.
على أن الصلح الذي حدث بين الألفي والبرديسي قبل معركة الفشن؛ لم يلبث أن تحطم مرة أخرى؛ لأنه لم يكن في الحقيقة سوى هدنة وقتية وشخصية، تركت لكل منهما الفرصة لمحاولة بسط سيطرته المطلقة على جموع المماليك، فاختلط مماليكهما بعضهم ببعض، واشتركوا معا في القتال، ولكن لم يكن هناك أي اتحاد صحيح بينهم، وعلى ذلك فإنه ما إن ظهرت قوات العدو أمام المنيا حتى تحصن البرديسي بها، بينما اقتصر الألفي على اتخاذ موقف المراقب والمشاهد من معسكره فحسب على الجانب الآخر من النهر في مقابلة قرية تلا.
وأقام الأتراك تحصيناتهم وحفروا خنادقهم أمام المنيا، وحرصوا على وضع فرسانهم في مكان بعيد عن مرمى مدافع المماليك، وبدأ حصار المنيا، وكان حصارا طويلا استمر ستة وخمسين يوما، وتضافرت أسباب عدة على إطالة الحصار كل هذه المدة، كان أهمها - ولا شك - أن الأتراك نصبوا مدافعهم في الجهة المقابلة للوجه البحري، بينما تركوا الجهة المقابلة للصعيد مفتوحة يستطيع المماليك الخروج منها والانتشار في الريف يجلبون منه المؤن والأقوات، كما صار في استطاعتهم قطع المواصلات بين الجيش الذي وقف على حصار المنيا وبين حكومة القاهرة، كما أفاد البرديسي في أول الأمر من وجود الألفي في قرية تلا؛ لأن الأخير تمكن بدوره من قطع المواصلات من الضفة اليسرى مع القاهرة.
وكان مما ساعد المماليك على استمرارهم على المقاومة استيلاؤهم على قرية «أبو جرج» على مسافة 26 ميلا شمالي المنيا، مما زاد في حروجة مركز الأتراك الذين صاروا بدورهم الآن شبه محصورين، فالعدو أمامهم وفي مؤخرتهم، وعلى يمينهم الصحراء التي ينتشر فيها العربان وعلى يسارهم النيل الذي لا تحتمل الملاحة فيه سفنا ذات حمولة ثقيلة، علاوة على قطع كل اتصال لهم مع القاهرة، وحاجتهم الملحة بسبب ذلك كله إلى المؤن والأغذية، وفضلا عن ذلك فقد أتيحت الفرصة للبكوات لجلب الأسلحة والذخائر وما إليها من الإسكندرية ورشيد والقاهرة ذاتها، فقال «مسيت» في رسالته من رشيد إلى اللورد كامدن
Camden
في 6 فبراير 1805: «إن البكوات بسبب ضعف حكومة خورشيد باشا؛ تأتيهم المؤن والأسلحة والأردية من الإسكندرية ومن القاهرة نفسها ، وقد عرض حاكم رشيد للبيع بنادق وبسكويتا وبارودا مما جمعه أخيرا من قلعة جوليان ذات السيطرة على مصب النيل الغربي والتي تقوم بمهمة الدفاع عنه، بينما باع القبطان بك الذي يقود الأسطول العثماني في هذا الموقع جزءا من المهمات التي في مخازنه البحرية»، ثم استطرد «مسيت» يقول: «وهكذا فإنه ما دامت هذه درجة إهمال عمال الباب العالي في هذه البلاد وفسادهم؛ فإن من المستحيل أن يتوقع إنسان انتهاء هذا النزاع الدائر مع المماليك سريعا.»
وشجع انتقال عثمان بك حسن من «جبل الطير» - تجاه ناحية أطسا - لنجدة إخوانه المماليك على الخروج لمحاولة النزول على بني سويف، فأعطى غياب جزء من الحامية الفرصة لمحمد علي حتى يقوم بهجوم على المنيا، في 6 فبراير 1805 ولكن المماليك ردوا المهاجمين بعد أن كبدوهم خسارة كبيرة، وكان الفريقان قبل ذلك قد أمضيا شهر يناير بين هجوم ودفاع، حتى وقعت هذه المعركة الكبيرة، التي سرعان ما تلتها محاولة أخرى في 19 فبراير، كانت في هذه المرة ناجحة، فقد اعتلى حسن باشا النهر في أثناء الليل ليركز هجومه على المدينة المحاصرة من الجهة القبلية - التي تركها الأتراك مفتوحة منذ بداية الحصار على نحو ما قدمنا، وكان يقف لحراسة باب المدينة المواجه للصعيد في هذه الناحية حسين بك الزنطاوي مع جنده اليونان والسود، ولكنه لم يلبث أن غادر مركزه بمجرد إطلاق النيران تاركا جنده يلتحمون مع الأرنئود، فما إن تبين هؤلاء أن قائدهم قد تركهم حتى شاعت بينهم روح الهزيمة، وبلغ الأرنئود الباب وحطموه، وهرع البرديسي لتدارك الموقف، ولكن الأرنئود كانوا قد دخلوا المدينة في اللحظة التي وصل هو فيها، وكاد يتم استيلاء الأرنئود عليها لولا أن أقبل عثمان بك حسن وسليمان بك وعديدون من الكشاف لنجدة البرديسي، فارتد الأرنئود بعد التحامات عنيفة في شوارع المنيا كبدت المماليك خسائر فادحة، واستؤنفت المناوشات البسيطة بين الفريقين.
على أنه حدث في ليل 2 مارس 1805 ما غير من سير العمليات العسكرية على تلك الوتيرة الواحدة التي لزمتها، عندما أشعل «أبو ليلة» النار في أسطول الأتراك الواقف في المنيا، ولولا ما بذله محمد علي من همة لإنقاذ القوارب التي لم تمتد إليها النيران لكانت الخسارة كبيرة، وكان «أبو ليلة» متزعما لعصابة من اللصوص في الصعيد، عرض على البرديسي إحراق مراكب العدو، وتوقع البرديسي أن ينفع ذلك في رفع الروح المعنوية بين جنده المحاصرين، فرحب بهذا العرض، ولكن عبثا حاول البرديسي بعد هذا الحادث أن يحيي شجاعة جنده؛ لأن المماليك وهم الذين تعودوا القتال في السهول المكشوفة، ما لبثوا أن أضجرهم طول الحصار وبرموا به.
ولما كان الألفي من مركزه في «تلا» قد أفلت أتباعه ينهبون ويسلبون في الجهات المجاورة وفي الفيوم خصوصا، وذلك بدلا من محاولته نجدة البرديسي في المنيا؛ فقد آثر كثيرون من مماليك هذا الأخير الانضمام إلى معسكر الألفي الذي رحب بهم.
ثم زاد ضعف البرديسي عندما انشق عليه إخوانه بسبب ما أبداه من غطرسة وعجرفة بمجرد أن بلغه وجود أسطول فرنسي في البحر الأبيض، واعتقد أن الفرنسيين سوف ينزلون على الشاطئ المصري قريبا، مما يرغم الجيوش المحاصرة له على الارتداد عن المنيا، كما توقع أن يظفر بالسلطة والحكم بسبب مؤازرة الفرنسيين المنتظرة له، فانسحب عثمان بك حسن إلى قنا، كما انسحب الألفي إلى الفيوم، وانفض من حوله جماعة أخرى من البكوات والكشاف، وفي مارس شعر البرديسي بعبث الاستمرار على المقاومة، فتمكن من إخراج مدفعيته وذخائره مع أتباعه متسللين من المنيا، فتركها وعسكر على مسافة مرحلتين منها، وحذت الحامية حذوه، فحملوا ما بقي من مدفعية وذخائر على السفن، وقصدوا إلى أسيوط، وفي 14 مارس 1805 كان المماليك قد أخلوا المنيا، ودخلها محمد علي في اليوم التالي.
Unknown page