Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
ولم تعوز «محمد علي» الوسيلة التي يستطيع بها تنفيذ هذه الخطة، فقد كانت مسألة دفع مرتبات الجند المتأخرة مشكلة عويصة مزمنة، وكان من الميسور إثارتها في كل وقت وعند الحاجة، وكما كانت أزمة مرتبات الجند من العوامل المباشرة والرئيسية في طرد خسرو من القاهرة وفي مقتل طاهر باشا؛ فقد كان من الميسور كذلك إثارة هذه الأزمة واستخدامها في شتى الظروف والمناسبات لإضعاف البكوات وإشاعة التفرقة في صفوفهم وتقويض عروش حكومتهم في القاهرة، وقبل كل شيء في الوضع الراهن تفويت فرصة امتلاك الإسكندرية على هؤلاء البكوات المماليك.
وعلى ذلك فإنه بينما كان البرديسي يستعد للزحف على الإسكندرية، إذا بالجنود الأرنئود في معسكره بدمنهور وهم الذين يؤلفون القسم الأكبر من جيشه، يعلنون العصيان والتمرد، ويطالبون بمرتباتهم المتأخرة والتي تجمعت لهم عن أربعة شهور ونصف وبلغت قيمتها عشرة آلاف كيس، وكان من السهل أن يثور الأرنئود عندما يعرفون أن الإتاوات والمغارم الثقيلة التي فرضت على أهل رشيد ودمياط وكل قرى الوجه البحري تتسرب إلى جيب البرديسي وبعض خاصته من البكوات ولا ينالون هم منها شيئا، وكانت ثورة جامحة قتل عدد من المماليك كما قتل خازندار البرديسي نفسه عند محاولة البرديسي إخمادها، وتدخل محمد علي وسيطا بين الجند الثائرين وبين عثمان البرديسي متظاهرا دائما بالولاء الصادق له حتى يستطيع الانسحاب من دمنهور وهو على وئام معه.
ولكن الأرنئود صمموا على عدم الاستمرار في الخدمة ما لم تدفع لهم مرتباتهم، ولم يستطع محمد علي فعل شيء أمام إصرارهم، ورأى البرديسي؛ إنهاء لهذه الفتنة أن يجيز للأرنئود الذهاب إلى القاهرة، فغادر هؤلاء دمنهور وعلى رأسهم محمد علي الذي استمر متمتعا بثقة البرديسي، وأتقن تمثيلية بشكل جعل «مسيت» يكتب عند إبلاغه هذه الحوادث إلى حكومته في 30 سبتمبر «أنه لولا تدخل محمد علي رئيس الأرنئود في الوقت المناسب؛ لكان من المحتمل وقوع معركة بين الأرنئود والمماليك» في معسكر دمنهور، وكان دخول محمد علي إلى القاهرة في 16 سبتمبر.
وأنهى انسحاب الأرنئود ومحمد علي العمليات العسكرية ضد الإسكندرية، كما أبطل الحصار المضروب عليها، فقد اضطر البرديسي في 25 سبتمبر إلى مغادرة دمنهور وهو «يعلن الظروف القاهرة التي أضاعت من يده هذه الفرصة الثمينة» - فرصة الاستيلاء على الإسكندرية - فدخل بدوره القاهرة في 24 سبتمبر، ولكن مأساة المرتبات المتأخرة لم تكن قد تمت فصولها بعد، فكتب «ماثيو لسبس» في 20 سبتمبر «إن هناك انقسامات كبيرة بين البكوات، ثم بينهم وبين الأرنئود، وقد انسحب عدد من الكشاف المتذمرين من المماليك إلى الصعيد»، ثم استمر يقول: «وفرض البكوات «البرديسي وإبراهيم» في القاهرة إتاوات مرهقة على المسيحيين»، وطلبوا منهم مائتي كيس قرضا، وهددوهم إذا هم امتنعوا بتعريض أنفسهم للمخاطر، كما صار الأرنئود يهددون علنا بنهب المدينة - وحي الإفرنج بها على وجه الخصوص - إذا لم تدفع لهم مرتباتهم، وهكذا بدأ الانحلال يدب في كيان الحكومة المملوكية في القاهرة، وكان من عوامل هذا الانحلال - ولا شك - سوء حكم البكوات أنفسهم.
فقد كان من أسباب عودة البرديسي إلى القاهرة أن زمام الأمور أفلت من يد إبراهيم بك لعجزه، فكثرت اعتداءات المماليك على الأهلين، واستبد الألفي الصغير - وكان قد انضم إلى إبراهيم والبرديسي عقب سفر الألفي الكبير إلى لندن ريثما يعود رئيسه من سفارته، فبقي بالقاهرة يشارك إبراهيم السلطة، وانتهز فرصة غياب البرديسي فأطلق العنان لنزواته، فقطع رأس قاضي القاهرة وحذا حذوه حسين أغا رئيس الشرطة، فقتل أحد المشايخ على الرغم من وساطة إبراهيم، وأقام حسين بك الزنطاوي مجزرة حقيقية عند مقياس الروضة عندما تحصن بالجزيرة، وصارت قوارب مدفعيته تصادر السفن الآتية من الصعيد فتنهب ما تحمله وتفتك بأصحابها.
ثم زاد البلاء بسبب انخفاض النيل الذي هدد القاهرة بالمجاعة، وحاول البرديسي إصلاح الحال عند تسلمه السلطة العليا في القاهرة، واستطاع مؤقتا تهدئة روع الأهلين، وساعده محمد علي في ذلك «ففتحوا الحواصل التي ببولاق ومصر العتيقة وأخرجوا منها الغلال إلى السواحل، واجتمع العالم الكثير من الرجال والنساء فأذنوا لكل شخص من الفقراء بويبة غلة لا غير»، واشترى الأفراد والخبازون، وسعر القمح والفول والشعير، ومع أن القاهريين ما كانوا يحصلون على أذون الشراء من خازندار البرديسي إلا بعد مشقة ومزاحمة كبيرة، فقد تمكن كثيرون من الحصول على حاجتهم من «السوق السوداء» التي أوجدها عدم التزام أصحاب الغلال للأثمان المحددة، «فسكن روع الناس واطمأنت نفوسهم وشبعت عيونهم، ودعوا لعثماني بك البرديسي».
ولكن مصاعب «الحكومة المملوكية» لم تنته بهذا الانفراج الوقتي لأزمة تموين القاهرة، كما لم يستمر دعاء القاهريين لعثمان البرديسي طويلا؛ لأن البكوات والكشاف صاروا يستولون على القمح ويخزنونه في بيوتهم حتى يبيعوه للأهلين بأثمان باهظة، فبدأت شكايات الأهلين من جديد، زد على ذلك أن مشكلة دفع مرتبات الجند ظلت قائمة، وظل الجند بدورهم يكثرون من اعتداءاتهم على القاهريين، وبذل البرديسي قصارى جهده لعلاج هذه الأدواء، فكان ينجح حينا ويفشل في أكثر الأحايين، وكان البكوات البرديسي وإبراهيم والألفي الصغير، قد قرروا غداة وصول الأول إلى القاهرة أن يجعلوا على كل فرد من البكوات والكشاف والأجناد قدرا من المال كل منهم «على قدر حالته في الإيراد والمراعاة» لدفع مرتبات الجند منها، ولكنهم قرروا فئات صغيرة تتراوح بين عشرين كيسا ونصف كيس، وفضلوا مصادرة متاجر التجار وفرض الإتاوات عليهم، وعلى أرباب الحرف والأهلين عموما دفع شيء من جيوبهم، فضج الناس بالشكوى وأغلقت الحوانيت.
ثم اشتد الضيق بالقاهريين عندما ظهرت آثار استيلاء البكوات على الحبوب وتخزينهم لها وارتفاع الأسعار تبعا لذلك، فانقلب الدعاء للبرديسي إلى استمطار اللعنات عليه وعلى البكوات قاطبة، وابتعد محمد علي عن هذه المسائل جميعها، فتظاهر بأنه لا غاية ولا مأرب له تاركا مظاهر السلطة في أيدي البرديسي وإبراهيم، ولو أنه ظل يوجه البرديسي من وراء ستار ويبذل النصح والإرشاد له، ويتوسط بينه وبين الجند، دون أن يفطن البرديسي لحقيقة نواياه لثقته العمياء به، بينما ظل الأرنئود يجأرون بالشكوى من عدم دفع مرتباتهم لهم.
ولا يرى البكوات بأسا - لاعتمادهم على صداقة زعيمهم لهم - في الاستمرار على عدم المبالاة بضجيجهم حتى تحرجت الأمور بينهم وبين الجند، الأمر الذي استرعى انتباه «مسيت» فكتب إلى حكومته في 28 أكتوبر «إن البكوات لا يبالون بصياح الأرنئود المطالبين بمرتباتهم، فأخذوا هم لأنفسهم القسم الأعظم مما جمعوه من الإتاوات التي فرضوها على الأهلين، مع أنهم يدركون تماما أن من شأن ذلك تعريض أنفسهم وأهل القاهرة معهم للمخاطر؛ لأن الألبانيين يعرفون أن هذه الأموال إنما جمعت بدعوى دفع مرتباتهم.»
ثم استطرد يقول: ولا شك في أن «طمع البكوات وعنادهم هما مبعث خلافاتهم مع الأرنئود، وسوف يفضي ذلك إلى قطع العلاقات بينهم، ولما كان من المتعذر أن يخرج بعض هذا المال الذي جمعوه من أيديهم، فلا مناص حينئذ من أن ينتقم الأرنئود لأنفسهم»، ولكن موعد هذا الانتقام كان لا يزال وقتئذ بعيدا؛ لأنه لم يكن من مصلحة محمد علي زعيمهم تحريك الفتنة الآن على البكوات بصورة حاسمة تفضي إلى انهيار حكومتهم.
Unknown page