Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
ومنذ أن تجددت الحرب بين فرنسا وإنجلترا (مايو 1803) استأثرت مصر بشطر كبير من تفكير الحكومة الإنجليزية، لا سيما وقد ظلت العلاقات مستمرة بين الحكومة الفرنسية والمصريين بعد صلح أميان - على نحو ما سبق توضيحه.
فمع أن الأثر الذي أحدثه تدخل وكلاء القنصل الأول في مصر، وعلى رأسهم «ماثيو لسبس»، كان سلبيا؛ فقد أثار نشاطهم مخاوف الوكيل الإنجليزي «مسيت» الذي اعتقد أن فريقا كبيرا من المماليك بزعامة عثمان البرديسي قد انحاز نهائيا إلى جانب الفرنسيين، وأن فريقا آخر من أولئك الذين يظهرون - بزعامة إبراهيم بك - ميولا ودية نحو إنجلترا؛ قد صاروا هم كذلك على استعداد للترحيب مع إخوانهم بالفرنسيين إذا جاء هؤلاء إلى البلاد واستولوا على الإسكندرية ثانية وذلك حتى يضعوا أنفسهم تحت حمايتهم «على اعتبار أنه من المتعذر عليهم - كما قال مسيت - الاحتفاظ بمصر لأنفسهم من جهة، والوصول إلى اتفاق مع الباب العالي من جهة أخرى، من غير الاستناد إلى قوة دولة أوروبية ووساطتها.»
وقد حدث ذلك في الوقت الذي اشتد فيه ساعد البكوات بعد دخولهم القاهرة وإنشاء حكومة محمد علي - البرديسي - إبراهيم الثلاثية بها، ورفضهم عروض علي باشا الجزائرلي - وصاروا يلومون الإنجليز على أنهم لم يحافظوا على وعودهم ولم يؤيدوهم.
وكان لما أكده بتروتشي ومسيت من استعداد البكوات للانضمام إلى فرنسا إذا غزت مصر، أبلغ الأثر على «دراموند» وعلى «السير ألكسندر بول» خصوصا، وفي أكتوبر 1803 كان لكل منهما رأي يخالف رأي الآخر، بصدد معالجة مسألة المماليك على ضوء الغزو الفرنسي المتوقع، فكتب «دراموند» من بلغراد في 25 أكتوبر 1803 - وقد خلفه «ستراتون» وقتئذ في القيام بأعمال السفارة - «يبدي تعجبه من وجود أناس لا يزالون يثقون في المماليك ويمتدحون أخلاقهم وشجاعتهم ... وهم زعماء غادرون لعصابات من قطاع الطرق لا تعرف القانون ولا تخضع له ...» ويدعو لعدم تركهم مستقلين بحكومة مصر أو امتلاك البلاد «ليس لأنه يريد الدفاع عن الأتراك، ولكن بسبب حكومة المماليك السيئة نحو الأهالي في مصر.»
وكان من رأيه أن ترك المماليك في حكومة مصر لا يتفق مع صالح السياسة الإنجليزية؛ لأن المماليك الذين يعلمون بمحالفة الإنجليز للباب العالي سوف يجدون في آخر الأمر أن من صالحهم الاعتماد على فرنسا وطلب المساعدة منها، حقيقة تفيد إنجلترا من عودة المماليك إلى الحكم؛ لأن ذلك يكسبها في رأيه القدرة - بفضل مالها من تفوق بحري - على التدخل والمحافظة على التوازن بين قوى البكوات والعثمانيين في مصر، ويأسف لأن الحكومة الإنجليزية لم تهتم قبل الآن بمسألة توطيد سيادة الأتراك في مصر قبل انسحاب الجيش البريطاني.
ولكنه لما كان قد وقع هذا الخطأ، وصار البكوات منتصرين الآن، ونشأ عن ذلك خطر توطيد النفوذ الفرنسي على أيديهم؛ لم يعد هناك سوى طريقة واحدة لدرء هذا الخطر، هي أن يقترح الإنجليز على الباب العالي أن يتفق مع البكوات بإعطائهم ما يرضيهم في عروض أكثر اعتدالا وفي وسعهم أن يقبلوها.
وفي 6 نوفمبر عاد «دراموند» يكتب إلى اللورد هوكسبري من بلغراد يتحدث في نفس الموضوع مرة أخرى، ولكن رسالته في هذه المرة نقلت أخبارا هامة لحكومته، ذلك أن «دراموند» الذي أكد أن الفرنسيين قد صاروا أصحاب النفوذ المتوثق في دوائر المماليك في مصر - وجد من واجبه أن يعرض على القسطنطينية وساطة إنجليزية لتسوية العلاقات بين الباب العالي والمماليك وحسم الخلافات القائمة بينهما، ولو أنه - كما اعترف هو نفسه - «لم يكن مفوضا من حكومته بعرض هذه الوساطة» على الحكومة العثمانية، وفضلا عن ذلك قال «دراموند» إن الباب العالي قبل التسوية التي اقترحها؛ أي دراموند دون تغيير تقريبا، وبات الباب العالي لذلك يخشى من أن تقف فرنسا على حقيقة الأمر، وهي تسوية تقوم على «تعيين باشا عثماني في مصر، وترك البكوات يمتلكون القاهرة، وسحب الأرنئود العصاة من البلاد»، واعترف «دراموند» بأنه عندما اقترح هذا الحل لم يكن لديه في أول الأمر أمل كبير في النجاح، ولكنه وقد وافق الأتراك عليه فقد صار يخشى أن يرفضه البكوات، ويحطموا برفضهم كل سلطة لهم في مصر في آخر الأمر.
واستند «دراموند» في تأييد ما فعله إلى أسباب عدة: منها اعتقاده الجازم بأن مصلحة بريطانيا في الظروف الحاضرة تتطلب أن تصبح للباب العالي السيادة في مصر، ومن المستحيل طالما ظلت الإمبراطورية العثمانية باقية أن يؤسس البكوات دولة مستقلة؛ لمنافاة ذلك لطبيعة الأشياء، ولا ندحة عن أن تحميهم دولة أو قوة أكبر من دولتهم أو القوة التي لهم، وعلى ذلك فهم - حتما - سوف يطلبون مساعدة إنجلترا أو فرنسا إذا صاروا مستقلين ولم يعودوا رعايا للسلطان العثماني بينما تدل الحوادث الأخيرة على أنهم يفضلون مساعدة الفرنسيين على اعتبار أن فرنسا - وليست إنجلترا - هي الدولة التي من المحتمل أن تساعدهم على الثورة ضد الباب العالي؛ ولذلك فقد وجب بذل كل جهد لإعادة سلطة الباب العالي في مصر، ورأى «دراموند» من الخطوات اللازمة لذلك استدعاء الأرنئود من مصر؛ لأنه - كما قال - «لا بد من حل حزمة القضبان حتى يتسنى كسر العصا»، وعلاوة على ذلك فإن «دراموند» «لم يكن في وقت من الأوقات راضيا عن المعاهدة الأخيرة» اتفاق «3-6 يناير 1803»؛ وهو الاتفاق الذي تم تحت تأثير السفارة الإنجليزية في القسطنطينية فهو يعجب ويدهش لإبرام هذا الاتفاق الذي جعل البكوات يتهمون الإنجليز بأنهم تخلوا عنهم، وجعل الباب العالي يحمل بريطانيا العظمى وزر هذا الاتفاق كله، ولو أن اللورد هوكسبري علم بحقيقته لما كان وافق عليه بتاتا، وحتى إن الجنرال ستيوارت لم يشأ أن يكون الواسطة في تبليغه للبكوات رسميا، ولكنه من المعروف أن البكوات وافقوا على محتويات هذا الاتفاق وعرفوا الدور الذي قامت به الحكومة الإنجليزية في هذه المسألة.
وفي 7 نوفمبر بعث «دراموند» بشروط الاتفاق التي أغفل ذكرها في رسالته السابقة، وهي أن تعاد للبكوات حقوقهم وامتيازاتهم، وأن يعين إبراهيم بك شيخا للبلد ومقره هو وسائر البكوات القاهرة، وأن يجرى دفع الخراج - كالسابق - للباب العالي ويحصل ضابط عثماني الميري، وأن يعاد تحصيل الضرائب المخصصة لخدمة الحرمين الشريفين «مكة المكرمة والمدينة المنورة»، وأن يقيم الباشا العثماني بالإسكندرية، وقال «دراموند»: وكما سبق أن أوضح للورد هوكسبري رأيه في ضرورة تقييد سلطة البكوات، فهو يرى لزاما عليه كذلك أن يؤكد له أنه ليبعد كل البعد عن الرغبة في اقتراح أي إجراء قد يفضي إلى إبادة هذا الجيش؛ أي المماليك، وكان لهذا السبب نفسه أنه استنكر في عبارات لا لبس فيها ولا إبهام معاهدة القسطنطينية؛ أي اتفاق «3-6 يناير 1803».
وبعد أيام قلائل كان «دراموند» قد عاد إلى القسطنطينية، فقابل الريس أفندي في 15 نوفمبر، وأكد له الريس أفندي أن مسائل مصر قد سويت نهائيا، ومع ذلك فقد ظل «دراموند» ضعيف الأمل في نجاح هذه التسوية؛ لأن الريس أفندي - كما أبلغه «دراموند» - قد ارتكب خطأ جسيما في عدم الإصرار على تعيين حكام أتراك في كل الموانئ المصرية.
Unknown page