Miṣr fī maṭlaʿ al-qarn al-tāsiʿ ʿashar 1801–1811 m (al-juzʾ al-awwal)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
زد على ذلك أن اطمئنانهم إلى طبيعة الاجتماع - للاحتفال بتقليد طوسون القيادة العامة لحملة الحجاز - جعلهم يغفلون التسلح بالقرابين والبنادق، فلم يكن معهم رصاصة واحدة، ولما كانوا قد تزينوا وتدثروا بأغلى الفراء والملابس الثقيلة، فقد زادت هذه من ارتباكهم، ثم كان من عوامل زيادة الفوضى في صفوفهم أن المتقدمين منهم عندما شاهدوا الضرب عليهم، حاولوا أن يلووا أعنة خيولهم للصعود إلى القلعة، بينما كان إخوانهم نازلين عليهم بخيولهم في المنحدر الشديد ولا يكادون يقدرون على كبح خيولهم.
ويزيد المعاصرون، أن سليمان بك البواب، الذي هرب من حلاوة الروح استطاع الوصول، وهو يكاد يكون عاريا وقد أثخنته الجراح، إلى عتبة باب الحريم، وصار يستغيث قائلا: أنا في عرض الحريم، وكانت هذه الاستغاثة حسب التقاليد، تكفي في ظروف غير هذه الظروف، لإنقاذه من الموت، ولكنهم قطعوا رأسه عند عتبة باب الحريم هذه، وأما طوسون عندما لجأ إليه آخرون، فكان واقفا على باب داره ممتطيا حصانه، وألقى المستنجدون به بأنفسهم على الأرض ركوعا يتوسلون إليه أن يرحمهم، ولكن هذا ظل جامدا ولم تختلج عضلة واحدة في وجهه وهو يرى الجند يقطعون رءوس الراكعين الذين مكنوهم بسبب ركوعهم هذا من أن ينفذوا فيهم القتل في سهولة ويسر.
ومع أن طريق باب العزب، وساحة (أو رحبة) القلعة الداخلية، وسائر أفنيتها عند الحريم والسراي (قلعة الباشا) وقلعة الإنكشارية، وقلعة الوجاقلية، وثكنات (أو قسم) العزب، كانت مغطاة بجثث القتلى، وأرديتهم ومجوهراتهم وأسلحتهم (سيوفهم وخناجرهم ذات المقابض الثمينة) وفرائهم، وسروج خيولهم، فإن أحدا من الجند لم يغادر مكانه من أعلى الصخور، أو أغراه الطمع في هذه الأسلاب؛ لينصرف عن مهمته، فلم يبدأ سلب هذه الغنائم إلا بعد الفراغ من إبادة هؤلاء المماليك.
وكان الباشا عند بدء تنفيذ المذبحة وذهاب صالح قوج، مجتمعا (بقاعة الاستقبال) مع شركائه الآخرين في تدبيرها: حسن باشا وكتخدا بك محمد آغا لاظ وسليمان آغا السلحدار، وقد لاذوا جميعا بالصمت، والباشا يذرع القاعة جيئة وذهابا، وقد استبد به وبزملائه القلق الجسيم، والسكون الرهيب يخيم عليهم، ويفزع حسن باشا وزميليه أقل بادرة أو إشارة مبهمة تبدر من الباشا الذي صار يزداد اصفرار وجهه كلما دنت ساعة التنفيذ، حتى إذا دوت أول رصاصة، علامة بدء المذبحة، وأعقب ذلك على الفور إطلاق الرصاص، توقف الباشا فجأة، ثم جلس على ديوانه، وبهت لونه، ولم يفتح أحد فاه بكلمة واحدة حتى إذا خف دوي الرصاص، وانقطع إطلاقه رويدا رويدا، هدأت نفوس الباشا وزملائه كذلك وزايلهم الفزع رويدا رويدا، ولو أن السكون العميق ظل مخيما عليهم، حتى انفتح باب القاعة فجأة، فإذا بطبيب الباشا الخاص (مندريشي) يدخل عليهم متهللا وهو يقول: «لقد قضي الأمر، واليوم يوم سعيد لسموكم»، فلمع بريق خاطف في عيني الباشا الذي وقف وطلب ماء ليشرب.
وأما في المدينة، فقد بدأ يوم الجمعة - وهو يوم عطلة - والقاهريون في بشر ومرح وسرور، ذلك أن طواف «الألاي جاويش» بالأمس في أسواق المدينة وأخطاطها، جعلهم يعتقدون أن اليوم يوم عيد و«فرجة»، فبكر القاهريون بالخروج من منازلهم، وازدحموا في الميادين والشوارع التي توقعوا مرور الموكب منها، ثم طال انتظارهم حتى بدأ ينفد صبرهم، وراح بعضهم يصيح غاضبا لتأخر الموكب، وراح آخرون يتبادلون النكات في تهكم على أسباب هذا التأخير، ولكن ما إن بدأت تخرج طليعة الموكب من باب العزب، حتى بادر الواقفون باتخاذ أماكنهم (للفرجة ) على طول الشوارع والأزقة وفي الحوانيت، وفي ميدان الرميلة خصوصا، فشاهدوا الدلاة والوجاقلية والألداشات المصرية، ثم انقطع الموكب، وطال انتظار الجماهير في داخل المدينة لرؤية بقيته، وصار الناس يؤولون ما حدث تأويلات شتى، فمنهم من التمس عذرا في أن موكبا كبيرا مثل هذا لا بد أن تعوقه بعض الصعوبات، وهؤلاء هم المتفائلون، ومنهم من صار قلقا جزعا، وخاف أن يكون في الأمر شيء، وهؤلاء هم المتشائمون، والوقت يمر، ويطول الانتظار وإذا بصيحات تدوي فجأة في هذه الشوارع الضيقة والمزدحمة بداخل المدينة: «لقد قتل شاهين بك!» فكان هرج ومرج، وهلع وخوف، وتسابق الناس وهم مفزعون إلى بيوتهم، وأغلقت الحوانيت، وبين طرفة عين وانتباهتها خلت الشوارع والميادين والأسواق من الناس، وتحولت في لحظة إلى مكان قفر، يخيم عليه السكون، بعد أن كانت تموج بالناس، وتسود فيها الحركة والنشاط العظيمان.
ولكن مآسي ذلك اليوم الرهيب لم يكن مقدرا لها أن تنتهي بعد، وقد صور الشيخ عبد الرحمن الجبرتي هذه المآسي في قوله وهو يسرد ما حدث بالمدينة: «وأما أسفل المدينة، فإنه عندما أغلق باب القلعة وسمع من بالرميلة صوت الرصاص، وقعت الكرشة في الناس، وهرب من كان واقفا بالرميلة من الأجناد في انتظار الموكب، وكذلك المتفرجون، واتصلت الكرشة بأسواق المدينة، فانزعجوا وهرب من كان بالحوانيت لانتظار الفرجة، وأغلق الناس حوانيتهم، وليس لأحد علم بما حصل، وظنوا ظنونا.
وعندما تحقق العسكر حصول الواقعة وقتل الأمراء، انبثوا كالجراد المنتشر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم طالبين النهب والغنيمة، فولجوها بغتة، ونهبوها نهبا ذريعا، وهتكوا الحرائر والحريم، وسحبوا النساء والجواري والخوندات والستات، وسلبوا ما عليهن من الحلي والجواهر والثياب، وأظهروا الكامن في نفوسهم، ولم يجدوا مانعا ولا رادعا، وبعضهم قبض على يد امرأة ليأخذ منها السوار فلم يتمكن من نزعها بسهولة، فقطع يد المرأة.
وحل بالناس في بقية ذلك اليوم من الفزع والخوف وتوقع المكروه ما لا يوصف؛ لأن المماليك والأجناد تداخلوا وسكنوا في جميع الحارات والنواحي، وكل أمير (بك من المماليك) له دار كبيرة فيها عياله وأتباعه ومماليكه وخيوله وجماله، وله دار وداران صغار في داخل العطف، ونواحي الأزهر والمشهد الحسيني يوزعون فيها ما يخافون عليه لظنهم بعدها وحمايتها بحرمة الخطة، وصونها عند وقوع الحوادث، وكثير من كبار العساكر مجاورون لهم في جميع النواحي، ويرمقون أحوالهم، ويطلعون على أكثر حركاتهم وسكناتهم، ويتداخلون فيهم ويباشرونهم ويسامرونهم بالليل، ويظهرون لهم الصداقة والمحبة، وقلوبهم محشوة من الحقد عليهم والكراهة لهم، بل ولجميع أبناء العرب.
فلما حصلت هذه الحادثة، بادروا لتحصيل مأمولهم، وأظهروا جميع ما كان مخفيا في صدورهم، وخصوصا من التشفي في النساء، فإن العظيم منهم كان إذا خطب أدنى امرأة ليتزوج بها فلا ترضى به وتعافه وتأنف قربه، وإن ألح عليها استجارت بمن يحميها منه، وإلا هربت من بيتها واختفت شهورا، وذلك بخلاف إذا ما خطبها أسفل شخص من جيش المماليك، أجابته في الحال.
واتفق أنه لما اصطلح الباشا مع الألفية، وطلبوا البيوت، ظهر كثير من النساء المستترات المخفيات، وتنافسوا في زواجهم وعملوا لهم الكساوي، وقدموا لهم التقادم وصرفوا عليهم لوازم البيوت التي تلزم الأزواج لزوجاتهم، كل ذلك بمرأى من الأتراك، يحقدونه في قلوبهم، وفيهم من حمى جاره وصان دياره ومانع أعلاهم أدناهم، وقليل ما هم، وذلك لغرض يبتغيه، وأمر يرتجيه، فإنه بعد ارتفاع النهب كانوا يقبضون عليهم من البيوت، فيستولي الذي حماه ودافع عنه، على داره وما فيها.
Unknown page