Miṣr fī maṭlaʿ al-qarn al-tāsiʿ ʿashar 1801–1811 m (al-juzʾ al-awwal)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
وتمت حيلة الباشا التي أحكمها بمكره.»
ثم ذكر الشيخ الجبرتي الآثار المباشرة التي ترتبت على نجاح هذه الحيلة، فقال: «وعند ذلك أشيع في الإقليم القبلي والبحري تفرقهم وتفاشلهم، ورجع من كان عازما من القبائل والعربان عن الانضمام إليهم، وطلبوا الأمان من الباشا، وحضروا إليه ودخلوا في طاعته، وأنعم عليهم وكساهم.
وكانت أهالي البلاد عندما حصلت هذه الحادثة عصت عن دفع الفرض والمغارم، وطردوا المعينين وتعطل الحال، خصوصا عندما شاع غلبة المصريين على الأرنئود (في صول والبرنبل)، وتفرقت عنهم العربان الذين كانوا انضموا إليهم وأطاع المخالف والعاصي والممانع.
وكلها أسباب لبروز المقدور والمستور في غيبه سبحانه وتعالى.»
وكان لهذا الحادث نتائج أخرى خطيرة؛ فقد كتب كل من «دروفتي» من القاهرة و«سانت مارسيل» من الإسكندرية في 4 يوليو: أن البكوات بسبب تخاذلهم وتفاشلهم بعد (حادث الجيزة) قد اضطروا إلى التقهقر منسحبين نحو مدخل الفيوم قريبا من قنطرة أو جسر اللاهون، وأن أعداد المنفصلين من المماليك عن شاهين الألفي في زيادة مضطردة، حتى صار هذا يعض بنان الندم على إصغائه لتحريض إبراهيم بك، ويأسف عظيم الأسف لمغادرته القاهرة والخروج على سلطان الباشا، وأن محمد علي لا يزال يدأب على كسب الوقت حتى تصله نجدات الدلاة وحتى يأتي الفيضان، ويثابر لذلك على اتصالاته السرية بالمماليك لإغراء فريق آخر من بكواتهم وأجنادهم على الانفصال عنهم، حتى إنه ليعتمد على نجاح مؤامراته في الغلبة عليهم أكثر من اعتماده على قوة جيشه، والأهم من هذا كله أن قواده في الصعيد قد نجحوا في تنفيذ الخطة الموضوعة.
والواقع أن حسن باشا وسائر القواد في حملة الصعيد، استولوا على بني سويف والمنيا ومنفلوط وأسيوط، ومع أن الجيش الزاحف انهزم عند شطب، جنوب أسيوط، فقد كانت هذه هي الهزيمة الوحيدة التي لحقت به، فكتب «دروفتي» إلى حكومته من القاهرة في 28 يوليو: إن حسن باشا قائد الأرنئود المرسلين لأخذ البلاد الواقعة على جانبي النيل، قد برر تماما الثقة التي وضعها الباشا فيه، فدانت له الأقاليم بين بني سويف وإسنا، ومنذ أواسط الشهر نفسه، كان صالح قوج صاحب الحكم والسلطة في أسيوط، وطبوز أوغلي في المنيا، وحسن باشا نفسه في جرجا، ولم يجد مماليك وبكوات الصعيد بدا من التقهقر والانسحاب صوب الفيوم للانضمام إلى إخوانهم، فنجحت خطة الباشا التي هدفت إلى تجمع البكوات في مكان واحد لمناجزتهم دفعة واحدة.
وعلاوة على ذلك فقد وصلت في أوائل يوليو قوات الدلاة التي طلبها الباشا، فحضر كثير (من هؤلاء الفرسان) من الجهة الشامية، وكذلك حضر أتراك من على ظهر البحر كثيرون، من قولة ومقدونيا. وكتب «سانت مارسيل» في 21 يوليو: إن النجدات لا تصله من الشام يوميا، ثم إن مياه النهر قد بدأت تعلو وترتفع، وقرب موعد الفيضان، فتهيأت الأسباب إذا لخروج الباشا ومناجزة البكوات في معركة فاصلة، وكان هؤلاء محتشدين. (9) معارك اللاهون والبهنسا
وبدأ الاستعداد جديا للخروج لقتال البكوات يوم 4 يوليو، فقلد الباشا في هذا اليوم ديوان أفندي نظر مهمات الحرمين الشريفين والتأهب لسفر الحجاز لمحاربة الوهابية. وفي 7 يوليو ارتحل الباشا بعسكره من الجيزة وانتقل إلى جزيرة الذهب، ونودي في المدينة بخروج العساكر المقيمين بمصر، ولا يتخلف منهم أحد، وعمد الباشا إلى جمع الدواب والسفن والرجال الفلاحين بكل الوسائل، فزاد تعدي رجاله وخطفهم الحمير والجمال والرجال الفلاحين وغيرهم، لتسخيرهم في خدمتهم، وفي المراكب عوضا عن النوتية والملاحين الذين هربوا وتركوا سفائنهم، ثم انحدر قبطان بولاق وأعوانه في طلب المراكب من بحر النيل.
وفي 12 يوليو غادر الباشا جزيرة الذهب قاصدا إلى مدخل الفيوم؛ حيث وقف البكوات بجيشهم، وكان جيش الباشا يتألف من ثلاثة آلاف فارس وألفين من المشاة، وحرص محمد علي في أثناء زحفه على توقي أي هجوم قد يأتيه من ناحية المماليك، فسار بمحاذاة النهر متنقلا من قرية إلى أخرى بمهارة فائقة مكنته في النهاية من قطع خطوط مواصلات المماليك مع النهر، وارتد هؤلاء على قناة بحر يوسف واتخذوا مواقعهم عند قنطرة اللاهون، واتخذ الباشا مواقعه أمامهم.
وعبثا حاول المماليك استفزاز جند الباشا للالتحام معهم، فقد قضت تعليمات محمد علي أن يقتصر جنده على مناوشتهم لإرهاقهم قبل تخير الوقت المناسب لشن هجومه عليهم؛ ولأن المماليك الذين لا يعرفون من فنون القتال إلا الهجوم الشديد، سوف تربكهم المناورات والمناوشات الجزئية، التي يجهلون فنونها، وقد أفاد الباشا فعلا من خطته هذه، وأنزل في كل مرة ناوشهم فيها خسائر اضطرت المماليك إلى التقهقر والابتعاد عن النهر تدريجيا، حتى انقطعت مواصلاتهم مع النيل - كما ألمعنا - وتجمعوا عند قناة أو بحر يوسف فضربوا وطاقهم على جزء القناة؛ حيث توجد قنطرة أو جسر اللاهون، وهو جسر يقع بين الوادي والصحراء، وأنشئوا متاريس، كتحصينات أمامية لمعسكرهم.
Unknown page