Miṣr fī maṭlaʿ al-qarn al-tāsiʿ ʿashar 1801–1811 m (al-juzʾ al-awwal)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
قال الشيخ: إن علماء التفسير ذكروا أن المراد بالكتاب والميزان، العلم والعدل، وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه، من غير واسطة وسبب، على خلاف ترتيب المملكة وقانون الحكمة، ونشأ الاجتماع الإنساني، والعمران البشري، فاستخلف فيها من الآدميين خلائف، ووضع في قلوبهم العلم والعدل، ليحكموا بهما بين الناس، حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع، وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع، ولو تنازعوا في وضع الشريعة لفسد نظامهم، واختل معاشهم، فمعنى الخلافة أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف واقفا على حدود أوامره ونواهيه.
وأما معنى العدالة فهي خلق في النفس أو صفة في الذات تقتضي المساواة؛ لأنها أكمل الفضائل لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء، وإنما يسمى الإنسان عادلا لما وهبه الله قسطا من عدله، وجعله سببا وواسطة لإيصال فيض فضله، واستخلفه في أرضه بهذه الصفة، حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل، كما قال تعالى:
يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق .
وخلائف الله هم القائمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم، وقوله تعالى:
إن ربي على صراط مستقيم ، إشارة إلى أن العدالة الحقيقة ليست إلا لله تعالى، فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل، وقوله
صلى الله عليه وسلم : «بالعدل قامت السموات والأرض»؛ إشارة إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرا، لو فرض زائدا عليه أو ناقصا عنه، لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال.
وانبرى الشيخ بعد أن أوضح معنى العلم والعدل، يقسم العدول في المجتمع طبقات رفع الله بعضهم فوق بعض درجات كما قال تعالى:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ، فبنى هذا التقسيم على درجة توفر العلم والعدالة حسبما ذهب إليه، واستتبع اتخاذ العلم والعدل معيارا لوزن قيم الأفراد في المجتمع، تقسيم هذا المجتمع نفسه إلى طبقات، رفع الله بعضها فوق بعض درجات، والذي تجب ملاحظته أن الشيخ استطاع بفضل هذا التقسيم الطبقي الذي أوجده إرضاء الطبقة التي ينتمي هو إليها، وأن يعلو بها على طبقة الملوك وولاة الأمور، ومرد ذلك إلى ما لقنه إياه والده عن فضائل أهل العلم، وعن السطوة والنفوذ اللذين كانا اشتهروا بالصلاح والتقوى منهم في الزمن الغابر، وعلى أيام سلطان البكوات المماليك، وإلى أن الجبرتي نشأ في بيت علم وصلاح وتقوى، ويعتد بأجداده وآبائه من الأشياخ العلماء السراة، وهو الذي يقول في ترجمة أبيه نور الدين حسن الجبرتي: «أولئك آبائي فجئني بمثلهم»، ثم إلى ما شاهده من اضمحلال نفوذ المشايخ، وذهاب هيبتهم عند الحكام، أو على الأصح محمد علي، الذي عمد إلى الانفراد بالسلطة، وصار يستخدم المشايخ أدوات لتنفيذ مآربه، ولا يشاورهم ولا يسألهم النصيحة، ولا يعمل بها إذا جرؤ هؤلاء على إسدائها إليه.
ثم إن هذا التقسيم أتاح للشيخ أن ينحى باللائمة على الأشياخ والعلماء الذين انصرفوا عن الدين إلى الدنيا، ففسدت طبائعهم واختلت أمورهم، وفقدوا ما كان لهم من نفوذ، هو من حقهم بحكم ما اصطفاهم الله به بعد أنبيائه فميزهم عن سائر الخلق بالعلم والعدل، وفي كلامه عن هذه الطبقة ما يصور الحال السيئة التي وصل إليها مشايخ الوقت في عصره، والتي حالت بينهم وبين التطلع إلى الزعامة التي أرادوها؛ سعيا وراء الجاه، ونتيجة للافتتان بغرور الدنيا فحسب، وإن كان الشيخ ينفي أن العلماء على أيامه قد صاروا جميعا من مشايخ الوقت، وأنهم لا يزالون لذلك أهلا لاحتلال المكانة العالية التي من حقهم أن يحتلوها، وقد علل الشيخ ما ظهر من عجز من جانب سواد المشايخ العلماء العدول عن الحد من سلطان الحاكم الظالم، بأن الحكمة الأزلية قد اقتضت ذلك ، فيقول: إن «أصناف العدل من الخلائق خمسة الأول الأنبياء، والثاني العلماء، الذين هم ورثة الأنبياء، فهم فهموا مقامات القدوة من الأنبياء وإن لم يعطوا درجاتهم، واقتدوا بهم، واقتفوا آثارهم؛ إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه، ومشرق نور حكمته، فصدقوا بما أتوا به، وسروا على سبيلهم، وأيدوا دعوتهم، ونشروا حكمتهم، كشفا وفهما وذوقا وتحقيقا، وإيمانا وعلما، بكامل المتابعة لهم ظاهرا وباطنا، فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل وإظهار الحق يرفع منار الشرع، وإقامة أعلام الهدى والإسلام، وأحكام مباني التقوى برعاية الأحوط في الفتوى، تزهدا للرخص؛ لأنهم أمناء الله في العالم، وخلاصة بني آدم، ... مخلصون في مقام العبودية، مجتهدون في اتباع أحكام الشريعة ... أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، وتلذذوا بنعيم المشاهدة، ولهم عند ربهم ما يشتهون، وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد، لا يقدح في حال الجميع؛ لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم وإن كثر المبطلون، ولكنهم أخفياء مستورون تحت قباب الخمول لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الإلهية والحكمة الأزلية، والعلماء هم آحاد الأكوان، وأفراد الزمان، وخلفاء الرحمن، وهم مصابيح الغيوب، ومفاتيح أقفال القلوب، وهم خلاصة خاصة الله من خلقه ...»
وأما الطبقة الثالثة فهم الملوك والأمراء، وقد تحدث الشيخ كثيرا عن الصفات التي يجب أن يتحلى بها هؤلاء والواجب الذي عليهم نحو الرعية، وغني عن البيان، أن مدار الحديث في هذا كله كان حول العدل ولزومه فرضا وعينا، يوجبه الكتاب والسنة، ويجري بالكتاب والسنة، ولقد صال الشيخ وجال في هذا الباب؛ لاعتقاده الراسخ بظلم وجور حكومة محمد علي؛ ولأنه وجد في الكتابة عن العدل متنفسا لكربه؛ ولأن الباشا إذا عدل لم تعد له حاجة بالجيش، وانقادت الرعية لحكمه راضية وصارت جندا له، وانتفى تسويد أشرار القوم على خيارهم، ولقد كان الجبرتي يرى كبار الأرنئود، والدلاتية، والإنكشارية، وأجنادهم من الأعاجم والذين كان أكثرهم من الدهماء في بلادهم، يصلون إلى مراتب السيادة، وترتفع أقدارهم فيؤلمه ما يرى، ولم يكن مبعث تسويدهم - في نظره - إلا جور محمد علي ومن سبقه من الحكام في فترة الفوضى السياسية وظلمهم، ولطالما سجل الجبرتي في تاريخه بعد ذلك حوادث فرار الفلاحين من قراهم، وظواهر كساد التجارة وإفلاس مساتير الناس نتيجة لظلم الباشا وعسف عماله وضباطه، وقد استند الشيخ الجبرتي في ضرورة إقامة العدل على أحاديث نبوية، وأقوال وحكم مأثورة كثيرة، ولقد كان في سياق حديثه عن العدل، أن زاد الشيخ في تفسير ما سبق أن ذكره عن الحاجة الماسة إلى سائس عادل وملك عالم، لانتظام عقد المجتمع واستقامة أموره، فعزا هذه الضرورة إلى ما ارتكز في طباع البشر من ميل إلى الظلم يجب الحد منه ووقفه، حتى ينصرف الناس في سلام إلى شئون دنياهم وآخرتهم.
Unknown page