Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
تصدير
إن «مصر في مطلع القرن التاسع عشر» دراسة تتناول تاريخ هذه البلاد خلال السنوات العشر الأولى من هذا القرن، منذ خروج الفرنسيين وانتهاء عهد حملتهم في مصر 1801، إلى وقت القضاء على المماليك في مذبحة القلعة 1811.
وسبب اختيار هذه الفترة، أنها مليئة بالأحداث التي كان لها أثر حاسم في تطور تاريخ البلاد بقية القرن التاسع عشر، ثم خلال قسم هام من القرن الذي يليه، أما هذه السنوات العشر فقد شهدت بداية التنافس بين إنجلترا وفرنسا، أو الصراع الذي نشب بينهما للاستئثار بالنفوذ السياسي في مصر، وهو صراع استمر ظاهرا، ويكاد يدور حوله بمفرده تاريخ البلاد في أخطر مراحله، ولسنوات عديدة بعد ذلك. على أن زيادة حدة هذه الفوضى السياسية المنتشرة وقتئذ كانت أسوأ النتائج المباشرة التي نجمت من هذه المنافسة الإنجليزية الفرنسية.
ولقد بقيت هذه الفوضى السياسية من المميزات التي اختصت بها الفترة التي ندرسها. ومع أن الرأي الشائع أن تولية محمد علي الحكم في سنة 1805، كان الحادث الذي أنهى الفوضى السياسية؛ فقد تبين أن اعتلاء محمد علي أريكة الولاية لم ينه هذه الفوضى، بل لقد بقيت تسود البلاد إلى وقت جلاء «حملة فريزر» من الإسكندرية (1807)، ثم استمرت بعض أسبابها القوية إلى أن أمكن على وجه الخصوص تطويع الجند، وأخيرا الخلاص من البكوات المماليك (1811).
ولا يجب أن يتبادر إلى الذهن أن تسجيل هذه الوقائع يعني الإشادة بحادث التولية ، أو بالحكومة التي أقيمت على أشلاء البكوات؛ فلقد تبين أن حادث التولية ذاته لم يكن سوى مغامرة كبرى، استندت على أكبر تمويه عرفه التاريخ، ارتكبه متطلع إلى العرش في حق البلاد التي يريد حكومتها، فقد سبقت هذا الحادث إجراءات «مزورة»، واتبعت أساليب ملتوية مهدت للتولية، ثم استمر التمويه حتى بعد المناداة بولاية محمد علي، فاستطاع بفضله أن يجتاز بسلام ما أسميناه بأزمة النقل إلى سالونيك (1806).
ولقد كانت أزمة النقل إلى سالونيك تضارع في خطورتها أزمة الغزو الإنجليزي ومجيء «حملة فريزر» إلى الإسكندرية في السنة التالية (1807)، فأثبتنا طائفة من الوثائق التي تكشف حقيقة هاتين الأزمتين. ولقد كان أثناء وجود حملة فريزر بالإسكندرية أن صار محمد علي يفكر في تأسيس باشوية وراثية في مصر، ومن المحتمل أن تكون هذه الفكرة قد نبتت في ذهن محمد علي قبل ذلك، ولكنه لم يفصح عنها، وللمرة الأولى قطعا، إلا أثناء مفاوضته مع الإنجليز بشأن جلاء حملتهم.
والرغبة في تأسيس الباشوية الوراثية لم تلبث أن صارت العامل الحاسم الذي سيطر على سياسة محمد علي، من ذلك الحين إلى نهاية الفترة التي ندرسها، فكان شرطا أساسيا لفوزه بهذه الباشوية الوراثية، أن يخلص له الحكم في مصر، وأن تتدعم أركانه، ولا يتهدد البلاد من جديد غزو خارجي، وتربطه أوثق الصلات بالسلطان العثماني، فلا يعود هذا الأخير يفكر في عزله، وحتى تمهد هذه العلاقات لتحقيق غايته.
واسترشدت حكومة محمد علي بهذه الاعتبارات جميعها، وذلك في نشاطها بعد تخطي عاصفة الغزو الإنجليزي خصوصا، ولقد كان بعد أن رفض الإنجليز والفرنسيون أن تنال مصر استقلالها أن اتجه محمد علي صوب تركيا؛ لعله يظفر بمطلبه - الباشوية الوراثية - من صاحب السيادة الشرعية عليه نفسه.
ولقد أتينا بطائفة من الوثائق لإظهار نوع السياسة «السلبية» التي كانت تتبعها وقتئذ الحكومة الفرنسية في مصر، ولبيان أن نابليون بالرغم من «سره» المشهور والأطماع التي صورت له إمكان تشييد إمبراطورية «شرقية» كبيرة إلى جانب إمبراطوريته المترامية في «الغرب»؛ لم يقدم على معاونة البكوات المماليك جديا لينشئوا حكومة مملوكية قوية، ولم يقبل على مؤازرة محمد علي ليظفر بالحكم والسلطة، وكان وقتئذ إنشاء الحكومة الموالية - أو الخاضعة - لفرنسا في مصر، ضروريا في نظر نابليون ورجال دولته كإجراء يمهد لعودة الاحتلال الفرنسي، أو إذا اتضح أن ذلك متعذر، كوسيلة تكفل لفرنسا استعلاء نفوذها السياسي في مصر، وتفويت الفرصة على غريمتها إنجلترا، وكان «دروفتي» القنصل الفرنسي هو الذي فطن إلى أهمية استمالة محمد علي، والعمل لتأييده، ففعل ذلك، ولكن من تلقاء نفسه ودون أن تصله أية تعليمات في ذلك من حكومته. والذي يجب ذكره، أن «دروفتي» لم يسلك هذا المسلك إلا بعد المناداة بولاية محمد علي، وليس قبلها.
ولقد خلف المسعى من أجل الباشوية الوراثية والاتجاه صوب تركيا آثارا عميقة على «اتجاه» السياسة المصرية، من هذا الوقت المبكر (1807-1811)، فصار ميدان النشاط المصري، الشام وبلاد العرب في «الشرق»، ثم النوبة والسودان في «الجنوب»، وانصرف الجهد المصري عن الامتداد صوب «الغرب»؛ أي في أفريقيا الشمالية.
Unknown page