277

Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

وفي 11 أكتوبر من العام نفسه، كتب أحمد شاكر من القسطنطينية إلى محمد علي، يوضح الأسباب التي جعلت أبواب الشفاعة ليوسف باشا والتماس العفو عنه مغلقة، وينبه بإرسال الأمر الصادر إلى الباشا بقطع رأسه وإرساله إلى الدولة، وهو الأمر السالف الذكر، فذكر أحمد شاكر أن سبب غضب الباب العالي على يوسف باشا، هو كسله وتراخيه في مسألة استخلاص الحرمين الشريفين من الوهابيين، فصدر فرمان من السلطان بإعدامه؛ حيث اعتبر مسلك يوسف كنج مخالفا للدين والشرع؛ ولذلك فقد صارت أبواب الشفاعة مسدودة، بل وأصدر السلطان أمره إلى الباشا برمي رقبته، ولا معدى عن تنفيذ هذا الأمر نظرا لما ظهر من استهجان لوساطة الباشا وشفاعته في حق يوسف كنج.

فكان هذا الفشل صدمة لمحمد علي ومخيبا لآماله، حتى إن «دروفتي» الذي استطاع أن ينفذ إلى سريرة الباشا، بحكم صلاته الوثيقة به من وقت وصوله إلى الولاية، وأحاديث الباشا الكثيرة معه عن مشروعاته وأهدافه، لم تفته ملاحظة أن وساطة محمد علي لم تقابل بترحاب في القسطنطينية، مما أحدث أثرا سيئا في نفسه، لما سوف يترتب على رفض إرجاع يوسف كنج إلى باشوية دمشق من تعطيل لأطماع محمد علي في سوريا، ولو أن هذا الأخير - كما استطرد «دروفتي» في رسالته التي نقل فيها هذا الخبر إلى حكومته في 11 نوفمبر - يتذرع (لتبرير وساطته) بدعوى أن قسما من الفرسان السوريين في جيشه، والذين خدموا سابقا تحت قيادة يوسف كنج أيام ولايته في الشام، يرفضون السير ضد الوهابيين ما لم يرجع يوسف كنج إلى باشويته.

ولكن هذه الصدمة ما كانت لتثني محمد علي عن عزمه، وهو الذي قر رأيه على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، بل كانت على العكس من ذلك مبعث نشاط جديد لاستئناف المسعى لدى الباب العالي بكل همة، ولما كان الديوان العثماني من جهته لا يسعه الاستغناء عن خدماته، ويبغي القضاء على الوهابي، ولا يوجد من الولاة في الدولة من يستطيع إنفاذ جيش قوي، وكامل العدة لهذه الحرب، التي اعتبرتها الدولة العثمانية حربا دينية، فقد تضافرت العوامل التي ساعدت على انفراج الأزمة. (11) الباب العالي يعد بالباشوية الوراثية

فقد مضى محمد علي في استعداداته، ولكنه اشترط شرطا أساسيا لخروجه شخصيا إلى الحجاز، لضمان نجاح الحملة المزمعة، أن يعفو السلطان عن يوسف كنج، وأن يعزل سليمان باشا من ولاية الشام، فكثرت المراسلات بين القاهرة والقسطنطينية في الشهور الستة التالية، تبين في أثنائها لمحمد علي أن الأمور قد تحرجت بينه وبين الباب العالي بسبب تأخر خروج جيشه إلى الحجاز، لدرجة أنه صار حتما عليه أن يرسل هذه الحملة لقتال الوهابيين، سواء أجاب الباب العالي مطلبيه (العفو عن يوسف كنج وعزل سليمان الكرجي) أم لم يجبهما، وهذا إذا شاء عدم الاصطدام معه وإعلان الثورة عليه، وهو ما لم يكن في وسعه ولم يكن في صالحه - للظروف والأسباب التي عرفناها - أن يفعله، ولقد كان من أثر تحرج الأمور بينه وبين الديوان العثماني في هذه الفترة، أن قر رأي محمد علي على درء خطر مكائد سليمان باشا عنه، ومعالجة مسألته بالوسائل التي في وسعه هو اللجوء إليها، طالما بقي الباب العالي مصرا على بقاء سليمان باشا في ولايتي الشام وصيدا، ولا يريد عزله من حكومة دمشق، فكان هذا العزم مبعث الكارثة التي حلت بالبكوات المماليك في مذبحة القلعة، ثم إنه كان مما جعل محمد علي ينزل بهم هذه الكارثة المروعة، أن الباب العالي - كتسوية لقضية يوسف كنج وسليمان باشا - وعد محمد علي بإجابته إلى المطلب الذي نشده دائما، وظل ركن الزاوية في سياسته بأسرها في هذه الفترة، إنشاء الحكم الوراثي في باشويته.

ثم إنه تبين في أثناء هذه الشهور الستة للسلطان كذلك، أن محمد علي بالرغم مما بدا منه من لجاجة في قضية يوسف كنج وسليمان باشا، قد صح عزمه فعلا على القيام بحملة الحجاز، فقطع شوطا بعيدا في الاستعداد لهذه الحملة، وأرسل قطع أسطوله من بولاق لتركيبها في السويس لنقل الجند، كما شرع في شحنها بالمؤن والذخيرة، فلم يكن هناك معدى إذن، لضمان نجاح هذه الحملة من نزول الباب العالي شيئا من موقفه، لا سيما وقد اشترط محمد علي لذهابه بنفسه إلى الحجاز مع جيشه إجابة مطالبه، فكان وعد الباب العالي بإعطائه الحكم الوراثي أولا ثم كان عفوه عن يوسف كنج ثانيا، بل ووعد الباب العالي بتنصيب يوسف كنج واليا على جدة، كتسوية نهائية لمسألته.

وكان من الواضح أنه إذا نجح محمد علي في حملته ضد الوهابيين، زاد قدمه رسوخا في باشويته، بحيث يتعذر على سليمان باشا مناوأته، لا سيما بعد أن يجرده من الأداة التي استخدمها في تحريك الفتنة في مصر (البكوات المماليك)، وبحيث يستطيع محمد علي تجديد المسعى في مسألة يوسف كنج، ومن أجل الظفر بالباشوية الوراثية، مقصده الأول دائما إذا أخلف الباب العالي وعده.

واستؤنفت المراسلات بين محمد علي والباب العالي، بكتاب بعث به إليه في 18 أكتوبر 1810، محمد عارف أحد وكلاء الباشا في القسطنطينية، يستنهض همته في موضوع الحرمين الشريفين، ويذكر له أن ما ظهر من تصميم الباشا على محاربة الوهابيين، قد قوبل بالدعوات الطيبات الصالحات من شيخ الإسلام ، الذي سطر كتاب ثناء وتقدير للباشا، ولكن الباشا بقي متمسكا بمطلبه (عزل سليمان باشا من إيالة الشام)، وعاد يؤكد في 3 نوفمبر، أن سليمان باشا لا يني يتراسل مع البكوات المماليك، بالرغم من عداء هؤلاء المستمر لمحمد علي، حتى إنه اضطر إلى قتالهم، وإعمال السيف فيهم وقال إنه يسوءه أشد الاستياء أن يكون الباب العالي قد كلفه بمأمورية إنقاذ الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين مستقلا ومتعهدا بهذه المصلحة الجسيمة وحده بينما تجري المكاتبات في الوقت نفسه بين سليمان باشا وبين البكوات المماليك، وتقوم بين الفريقين صداقة اشتهر أمرها بين الناس، كما صار معروفا للجميع أن هناك مراسلات بين سليمان والبكوات، ثم قال محمد علي: «إن سليمان باشا لا يبغي من مصادقته للبكوات وتراسله معهم سوى الحيلولة دون تمكين محمد علي من القيام بهذه المأمورية الحجازية، وأن سليمان لن يحجم عن بذل كل ما يملك في هذا السبيل؛ حتى ينتقم منه، لا سيما وأن مئات من الأشقياء (المماليك) صاروا يقيمون الآن بولاية السودان فارين من مصر، ومع أن هناك خلافا بينهم فيما يجب أن يفعلوه: أيذهبون إلى تونس ومنها يبحرون إلى فرنسا، أم يذهبون إلى الوهابيين عن طريق الحبشة، أم ينضمون إلى سليمان باشا، فيذهبون عن طريق الجبل (على طول شاطئ البحر الأحمر) على ظهور الإبل إلى القدس، فقد استحسنوا جميعا الرأي واستصوبوه، وقرروا الذهاب إلى سليمان باشا.»

وقد أنذر محمد علي في رسالته هذه «أنه إذا اتضح له أن البكوات قد صح عزمهم فعلا على الذهاب إلى سليمان باشا فإنه لا محالة سوف يسلط عندئذ قواته على جهة العريش وغزة، ويرسل إلى تلك الجهات قدرا من العساكر البدو ليقطعوا السبيل على المماليك، ثم إنه لما كان واضحا أن الباشا المذكور سليمان لا يقتصر على كل حال على الاشتغال بخاصة نفسه، بل سوف يتصدى بعد سفر محمد علي من مصر إلى الحجاز، ويعمل لنشر المفاسد، وإرباكه حتى يوقعه في الغلط، فإن بقاء سليمان في ولايته سوف يعطل خروج محمد علي في جيشه ضد الوهابيين؛ ولذلك فإنه يعود فيطلب مكررا ضرورة عزل سليمان باشا من إيالة الشام.»

وفي 25 نوفمبر عاد محمد علي يكتب مرة أخرى إلى الباب العالي: «أن حاجته لإبعاد سليمان باشا من ولاية الشام قد باتت أمرا ظاهرا ظهور الشمس في رائعة النهار؛ لأن لديه من المعلومات الوثيقة ما يجعله يجزم قطعا بأن سليمان سوف يجترئ على باشويته وقت سفره في الحجاز، وأما إذا لم يبعد سليمان باشا من إيالة الشام فسوف يضطر محمد علي إلى البقاء في مصر، ويكتفي فقط بإرسال العساكر المرتبين بحرا بالضرورة، وهو لا يدري حينئذ إذا كان من المنتظر أن ينجح هؤلاء في تحقيق المهمة المكلفين بها والوصول إلى الغرض المنشود؛ أي هزيمة الوهابيين واستخلاص الحرمين الشريفين منهم، أم يكون الفشل نصيبهم.»

وقد انطوى هذا التحذير على تهديد خفي بأن الباشا قد يعدل في آخر لحظة عن إنفاذ الحملة كلية؛ حيث إنه قد صار مشكوكا في نتيجتها إذا هي ذهبت بدونه.

Unknown page