Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
وكان بعد أن سير الباشا حملته فعلا ضد الوهابيين، أن كتب «دروفتي» في نشرته الإخبارية عن حوادث شهر أكتوبر 1811، أن الباشا لا يزال يرفض التخلي عن مشروع إرجاع يوسف كنج إلى حكومة دمشق؛ «ليضع بهذه الوسيلة قدمه في سوريا، ولقد جعله الباب العالي يرجو إمكان هذا الترتيب بمجرد نجاحه في طرد الوهابيين من الحرمين الشريفين.» وفي نشرته الإخبارية عن حوادث النصف الأول من شهر ديسمبر عام 1812، كتب «دروفتي» أن بدو الصحراء التي تفصل سوريا عن مصر قد نهبوا قافلة غنية في طريقها من السويس إلى القاهرة، فبعث محمد علي يهدد سليمان باشا بالحرب، إذا لم تعد المنهوبات وتسوى المسألة تسوية مرضية، كما بعث برسول إلى القسطنطينية يشكو سليمان باشا، وقد بدر من الباشا في هذه المناسبة أنه لما يتخل بعد عن مشروع مد سلطانه إلى سوريا.
وهكذا ارتبطت قضية يوسف كنج وسليمان باشا بمشروعات محمد علي السياسية والتي صارت وقتئذ حملة الحجاز ذاتها من أهم أركانها؛ لأن الاتجاه صوب الشرق يحمل معنى دعم باشويته على أساس الحكم الوراثي الذي يريده ويسعى من أجله، ولأن نجاحه في إعادة يوسف كنج إلى حكومة دمشق ثم تنصيب ولده طوسون باشا في ولاية صيدا وعكا، وطرد سليمان باشا من هذه الأقاليم المتاخمة لباشويته، يمكنه من مد سلطانه إلى سوريا، وفي ذلك كله تعزيز وتقوية لباشويته المصرية.
وتفصيل خبر يوسف كنج، أنه استطاع بعد حياة حافلة بالمغامرات - يخدم تارة أحمد باشا الجزار، وتابعه سليمان باشا الكرجي الطرف الثاني في هذه القضية، وتارة أخرى عبد الله باشا العظم - استطاع أن يظفر بولاية الشام خلفا لعبد الله العظم، فلم يلبث في الحكم إلا قليلا، حتى علا ذكره فأقام العدل وأبطل المظالم، واستقامت أحواله، وشاع أمر عدله النسبي في البلدان، فثقل أمره على غيره من الولاة وأهل الدولة لمخالفته طرائقهم، فقصدوا عزله وقتله، وكان سليمان باشا ممن تربصوا به الدوائر ، وطمعوا في ولايته، وقد واتت سليمان الفرصة، عندما توانى يوسف كنج في الخروج بجيش لقتال الوهابيين، وإنقاذ الحرمين الشريفين، تلبية لأوامر الباب العالي، وسهل على خصومه تأليب الديوان العثماني عليه، وأصاخ الباب العالي السمع لسعايتهم، فاعتقد أن يوسف كنج قد انحاز إلى جانب الوهابيين، وآثر نفعه الخاص على مصلحة الدولة، ثم حدث أن هاجم الوهابيون الشام في بداية عام 1810، فعجز كنج يوسف عن دفعهم، فدخلوا حوران وعجلون، واكتفى يوسف باشا بتحصين «مزيريب» - وتقع إلى الجنوب من دمشق - وقفل راجعا إلى عاصمة ولايته، وصار يطلب النجدة من سليمان باشا بعكا، والأمير بشير الشهابي بلبنان لمقاومة الوهابيين وطردهم، فكان لهذا الحادث أسوأ الوقع في دوائر الباب العالي.
فقد رسخ الاعتقاد الآن، بانضمام يوسف كنج إلى الوهابيين قلبا وقالبا، وقرر الباب العالي عزله من ولاية الشام، وإسناد المنصب إلى سليمان باشا، ولما كانت قد استطالت مماطلة محمد علي وتسويفه وتأخره في الخروج بينما استفحل شر الوهابيين، وزادت سطوتهم؛ فقد قرر الباب العالي كذلك، أن يأمر باشا القاهرة أمرا حاسما قاطعا، بإنفاذ جيشه إلى الحجاز، لا سيما وأنه قد بعث إليه بجانب من المهمات التي يريدها، ويستمر إرسال باقي هذه المهمات إليه دون انقطاع، واختار الباب العالي لهذه المهمة المزدوجة «قزلار آغا» ويسمى عيسى آغا، وصفه الشيخ الجبرتي بأنه: «أسمر اللون حبشي مخصي لطيف الذات، متعاظم في نفسه، قليل الكلام.»
فقصد قزلار آغا إلى عكا يحمل فرمانا بعزل يوسف كنج وضم ولاية الشام إلى سليمان باشا والي صيدا وعكا، بدعوى أن يوسف باشا قد نبذ الطاعة، وتباطأ في إرسال جنده إلى بلاد العرب، ودبر سليمان باشا خدعة يستطيع بها إخراج يوسف كنج من الشام، وأخذ حكومتها منه، فعمل على ترويج إشاعة كاذبة بأن الوهابيين قد اقتربوا ثانية من مزيريب، ثم خرج على رأس جيشه لملاقاتهم، ودعا في الوقت نفسه زميله والي الشام، يوسف كنج، إلى الخروج لصد العدو ودحره، فصدق يوسف باشا الخبر ولبى الدعوة، ولكنه ما إن خرج من دمشق، حتى قصد سليمان إلى دمشق بكل سرعة ودخلها، وأبرز فرمان توليته عليها، وأعلن أنه حاكمها، فأسقط في يد يوسف كنج، ولكنه أبى الإذعان وصمم على المحاربة، ولكنه انهزم، ونهب جنده متاعه وانفضوا من حوله، وأهدر الباب العالي دمه، ثم إنه صار يتنقل من مكان إلى آخر، ثم ما لبث أن كتب إلى محمد علي يستأذنه في اللجوء إليه، فأذن له، فحضر إلى دمياط في أوائل سبتمبر 1810، وأرسل محمد علي لملاقاته طاهر باشا، ووصل يوسف كنج القاهرة في 13 سبتمبر، ونزل بقصر شبرا وضربوا لحضوره مدافع، ثم أنزله الباشا بمنزل يطل على بركة الأزبكية وعين له ما يكفيه، وأرسل إليه هدايا وخيولا، وما يحتاج إليه.
وأما قزلار آغا، فقد وصلت القاهرة الأخبار منذ 2 أغسطس 1810 بحضوره من طرف الدولة وعلى يده أوامر وخلعة وسيف وخنجر لمحمد علي باشا، وصحبته أيضا مهمات وآلات مراكب، ولوازم حروب لسفر البلاد الحجازية، ومحاربة الوهابيين، وكان محمد علي متغيبا عن القاهرة، ومشغولا في حربه مع البكوات المماليك في الصعيد؛ حيث انتصر عليهم عند جسر اللاهون في 20 يوليو، وكان يستعد للالتحام معهم في المعركة التي شتتت شملهم في الشهر التالي عند البهنسا، ولكن رجال حكومته في القاهرة احتفوا بعيسى آغا عند وصوله احتفاء طيبا، وقد وصل هذا شبرا يوم 11 أغسطس فعملوا له هناك شنكا وحراقات وتعليقات قبالة القصر الذي أنشأه الباشا بساحل شبرا، وخرجوا لملاقاته ثم عملوا له موكبا عظيما وطلع إلى القلعة، وضربوا عند طلوعه إلى القلعة مدافع، وأحضر قزلار آغا خلعة من القسطنطينية لإسماعيل بن محمد علي، فعملوا ديوانا بالقلعة، وألبسوها لابن الباشا، وجعلوه باشا مير ميران ... وضربوا شنكا ومدافع.
ولكنه سرعان ما تبين أن قزلار آغا - على غير مألوف عادة رسل الباب العالي - يرفض كل ما يريد رجال الباشا أن يقدموه له من هدايا، بل وأبى أن ينزل بالمنزل الذي أعده الباشا لسكناه، وكان هذا التحفظ الشاذ دليلا على أن الأوامر التي أتى بها رسول الباب العالي في هذه المرة كانت صارمة شديدة ولا يحتمل تنفيذها أي إمهال، وأن على الباشا أن يخرج بجيشه سريعا إلى الحجاز، فبادر محمد علي بالعودة إلى القاهرة، ووصلها في 17 سبتمبر، وراح يؤكد للآغا أنه مهتم جد الاهتمام، ومن زمن طويل بانتزاع الحرمين الشريفين من أيدي الوهابيين، وأنه تعهد بالقيام بهذه المهمة منفردا من بضعة شهور خلت، ولم يطل مقام قزلار آغا فغادر القاهرة إلى القسطنطينية في 29 سبتمبر، ولكن قبل سفره كان الباشا قد بدأ يسعى لدى الباب العالي، لاستصدار عفو السلطان عن يوسف باشا، وإرجاع ولاية الشام إليه، وعزل سليمان باشا عنها، ثم إبعاده إن أمكن من عكا وصيدا كذلك.
ولم يكن هناك بعد انتصار محمد علي على البكوات المماليك في معركتي قنطرة اللاهون والبهنسا الأخيرتين، ما يدعو لإرجاء إنفاذ جيشه إلى الحجاز؛ حيث انتفى الآن أكبر مسوغ استند إليه الباشا حتى هذا الوقت في إرجاء حملته ضد الوهابيين؛ لأن الباب العالي كان قد أجاب مطالبه، وبدأ يبعث إليه بالمهمات وأدوات الحرب التي يريدها، أضف إلى هذا أن محمد علي نفسه كان قد صمم فعلا على تلبية أوامر السلطان، للأسباب التي عرفناها، ولكن ظهور مسألة يوسف كنج وسليمان باشا، أدخل تغييرا جديدا على الموقف، حمل الباشا على التريث حتى ينتهي إلى أمر في هذه القضية.
ومما تجدر ملاحظته، أن محمد علي لم يكن يريد أن يتخذ من هذه المسألة مجرد ذريعة تضم إلى ذرائعه الأخرى التي توسل بها سابقا لإرجاء تنفيذ أوامر الباب العالي، بل إنه كان صحيح العزم على تسوية قضية يوسف كنج وسليمان باشا التسوية التي تكفل له الاطمئنان على باشويته، قبل إخراج أكثر قوات جيشه من البلاد وإرسالهم إلى أرض الحجاز البعيدة، ولقد كان من نتائج مسعى الباشا لتحقيق هذه الغاية، وعد الباب العالي له - كما أسلفنا - بمنحه الحكم الوراثي في باشويته عند انتصاره على الوهابي.
وتتضح جدية مسعى محمد علي في إرجاع ولاية الشام إلى يوسف كنج من الأسباب التي استند عليها في المطالبة بعزل سليمان باشا الكرجي، وتأمين الدولة له؛ أي لمحمد علي، من شروره، وأما هذا المسعى فقد بدأ وقزلار آغا لا يزال في القاهرة، فكتب محمد علي إلى الباب العالي في 25 سبتمبر 1810 رسالة طويلة، يلتمس ليوسف باشا العفو من السلطان إلغاء عقوبة الإعدام التي صدرت عليه، وإطلاقه والإفراج عنه، وتوجيه إيالة الشام إليه.
Unknown page