242

Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

ومع أن الفرنسيين لم يبدوا حماسا في استخدام ميناء دمياط، فقد أفادوا من الترتيب الذي اقترحه الباشا بشأن سفنهم التي تبغي المجيء إلى الإسكندرية، فحضرت سفنهم إلى هذا الميناء الأخير من مرسيليا «برسم تجار الإسكندرية من اليهود والطليان وغيرهم من الأجانب»، تستبدل بالمتاجر التي جلبتها، النطرون والصمغ والزعفران، والعقاقير وغير ذلك من حاصلات البلاد، كما صارت تأتي إليها السفن من تونس محملة بالطواقي وبالبضائع الأخرى المجلوبة من فرنسا. وقد كتب «سانت مارسيل» في 11 أكتوبر 1810: «إن أكثر المتاجر المصدرة من مرسيليا معنونة باسم تجار أجانب، أو من أهل البلاد هنا، أو مرسلة إلى البيت التجاري الإيطالي، المسمى: «فواهوريا وتيلش»

Fua Horia et Tilche

أغنى المؤسسات التجارية في مصر.»

وكان من المنتظر - كما أسلفنا - نتيجة لعقد الصلح بين تركيا وإنجلترة، أن تنشط العلاقات التجارية بين الباشا والإنجليز، وكان أول آثار هذا النشاط أن وصلت إلى السويس في مايو 1809 ثلاث سفن إنجليزية محملة بمتاجر الهند؛ اثنتان منها حضرتا من البنغال، والثالثة من «سوارت»، فأذن وصول هذه السفن بافتتاح طريق الملاحة المباشرة بين الهند وهذه البلاد، وذلك «بعد أن ظل هذا الخط معطلا عشرين عاما تقريبا» بسبب عدم أمان الطريق البري، «ونهب القوافل الإنجليزية في الطريق من السويس إلى القاهرة»، وذهاب السفن الإنجليزية لذلك إلى جدة بدلا من السويس، وكان استئناف استخدام هذا الطريق البري حدثا على جانب كبير من الأهمية لفت نظر الوكلاء الفرنسيين الذين راحوا يؤكدون لحكومتهم أنه ينهض دليلا على اشتمال اتفاقية الجلاء عن الإسكندرية، التي عقدها الباشا قبل عامين مع الإنجليز، على مواد «سرية»، وأن الغرض من هذه الاتفاقية إنما كان لنقل المتاجر التي تأتي بها السفن الإنجليزية من الهند إلى السويس، عبر الطريق البري من هذه الأخيرة إلى الإسكندرية؛ حيث ينقل الإنجليز منها هذه المتاجر في سفنهم إلى بلادهم.

وكثر مجيء السفن المحملة بالبضائع الإنجليزية إلى الإسكندرية، فرفعت السفن الآتية من مالطة الأعلام الإنجليزية، واستعان الإنجليز بسفن غيرهم لنقل صادراتهم إلى مصر، ثم ما يستوردونه منها، فاستخدموا في ذلك سفنا إسبانية وجنوية ونمساوية، كما استخدموا أخرى تونسية، رفعت جميعا الأعلام البريطانية، حتى تستطيع مزاولة نشاطها بسلام، وكان أكثر اعتماد الإنجليز على السفن النمساوية؛ ولذلك فإنه ما إن عقدت النمسا معاهدة الصلح مع فرنسا في فيينا، في 14 أكتوبر 1809، حتى واجهت إنجلترة صعوبة توفير السفن اللازمة لمواصلة علاقاتها التجارية النشيطة مع الإسكندرية، ولكنها سرعان ما ذللت هذه الصعوبة بمصادرة ما وجد من هذه السفن في مياه مالطة، أو بالاستيلاء عليها بمقتضى عقود بيع صورية، وظلت تفد إلى الإسكندرية سفن نمساوية وجنوية مما انحاز أصحابها إليهم وتخفق عليها الأعلام البريطانية.

وقد نقلت هذه السفن من منتجات مصر، النطرون، وخصوصا الكتان بكميات عظيمة إلى مالطة، والأرز، وجلبت لها الصابون والساعات والمنسوجات القطنية، وكانت أكثر الأقمشة التي جلبتها السفن الإنجليزية من مالطة، منتجات فرنسية، ثم الورق وما إلى ذلك من سلع الاستهلاك المحلي، ثم الأخشاب، وكانت حاجة الباشا إلى الأخشاب شديدة لتجهيز أسطوله المعد لنقل المتاجر المصرية في البحر الأحمر من جهة، ثم لنقل الحملة التي استعد الباشا لإنفاذها إلى الحجاز ضد الوهابيين، تلبية لأوامر الباب العالي، أو للاستعانة بهذا الأسطول في مناوأة الباب العالي نفسه، إذا طرأ بسبب ما يخشاه من انقلاب هذا عليه ما يدعو إلى ذلك.

على أن أهم ما حملته من الإسكندرية هذه السفن الإنجليزية، أو التي تحمل أعلاما بريطانية، كان الغلال، وقد سبقت الإشارة إلى شدة طلب الإنجليز للغلال، لا سيما أثناء سنوات القحط الذي عانته البلدان المطلة على البحر الأبيض، ما عدا مصر التي تعتمد زراعتها على فيضان النيل الذي كان طيبا في هذه الفترة، وتوفرت بسبب ذلك الحاصلات الزراعية، والحبوب خصوصا، وطلب الإنجليز الغلال لتموين أسطولهم الذي انتشرت وحداته بين مالطة وجبل طارق، وذلك عدا تموين الجيوش المشتبكة مع الفرنسيين في حرب إيبريا، فكانت الغلال السلعة الرئيسية التي حملتها سفنهم إلى مالطة، ولم يكن لهذه غير مصر تستورد منها حاجتها من الحبوب، ثم إلى إسبانيا والبرتغال.

وبذل «دروفتي» وسائر الوكلاء الفرنسيين كل ما وسعهم من جهد وحيلة لتعطيل نشاط الإنجليز التجاري، وحمل الباشا - على وجه الخصوص - على الامتناع عن تصدير الغلال إليهم. وكتب «سانت مارسيل» في 30 مارس 1810 «أن الباشا قد رفض دائما التسامح بتصدير الغلال»، وقال «دروفتي» في رسالته إلى حكومته في 20 يونيو من العام نفسه «إن محمد علي كان يعارض دائما تصدير الغلال» إلى مالطة وغيرها، وقد يكون ما ذكراه صحيحا، ولكن الثابت أن حركة التصدير لم تتوقف، ثم إن نشاطها كان في ازدياد مستمر، ثم إن «سانت مارسيل» نفسه لم يلبث أن صرح بشكوكه في إمكان إقناع الباشا بالامتناع عن بيع الغلال للإنجليز، فقال في رسالته السالفة الذكر: «ولكنه لما كان قد حضر إلى الإسكندرية مركب حربي إنجليزي من طراز الإبريق، ودخلت معه سفينتان أخريان إنجليزيتان، وأحضرت هذه السفن صندوقا مليئا بالمال، فماذا يكون يا ترى موقف محمد علي؟ وهل يستمر رفضه «السماح بتصدير الغلال لهم»؟» ثم كتب «دروفتي» في نفس رسالته التي سبقت الإشارة إليها، بأن الباشا الذي ظل يعارض دائما هذا التصدير «قد صار يسمح به الآن، بسبب ما يحصله من رسوم جمركية على الغلال المصدرة، وهو بحاجة كبيرة إلى المال»؛ لما يتكلفه نضاله مع البكوات المماليك من نفقات طائلة، حتى إن الباب العالي مع حاجته هو الآخر إلى الغلال لم يظفر من محمد علي بما يسد هذه الحاجة؛ لأنه يجني ربحا أوفر من اتجاره مع الإنجليز؛ ولأن «مطالب العاصمة (أي القاهرة) مفضلة على كل ما عداها، ويعلو تحقيق ما فيه صالحها على كل اعتبار آخر» في نظره.

والواقع أن افتقار محمد علي إلى المال كان من الأدواء المزمنة، ولم تخف حدة أزمة المال هذه - كما سيأتي ذكره - في السنوات التي هي موضوع دراستنا، وكان من المتعذر على الباشا لذلك الامتناع عن التعامل مع الإنجليز، لا سيما وقد انتفى بسبب صلحهم مع الباب العالي في يناير 1809 ما يدعوه لوقف هذا التعامل معهم، ثم إنهم علاوة على ذلك، كانوا على استعداد لدفع الثمن الذي يطلبه الباشا لغلاله نقدا وعدا ومهما تغالى في تقديره، وهذا إلى جانب الرسوم الجمركية المرتفعة كذلك، والتي صار يفرضها على الحبوب والأرز والكتان والنطرون وسائر السلع المصدرة إلى مالطة، أو على السلع المجلوبة إلى مصر، وقد تزايد توثق العلاقات بينه وبين الإنجليز منذ أن عاد من مالطة إلى الإسكندرية في ديسمبر 1809، نائب القنصل البريطاني القديم «صمويل بريجز»، الذي كان قد غادرها منذ جلاء جيش «فريزر» عنها، وكان «بريجز» صاحب بيت تجاري كبير بالإسكندرية، قام بإدارته في غيبته هولندي يدعى «سوتش»

Sutch ، فأعاد الآن تأسيسه وكان صاحب ثراء عريض، وبدلا من أن يبطل الباشا بيع الحبوب للإنجليز، لم يلبث أن أعطى «بتروتشي» تصريحا بتصدير الغلال إلى مالطة، ولم تفد شيئا محاولات «دروفتي» في منعه من اتخاذ هذه الخطوة. ثم أغدق «بريجز» الهدايا على الباشا ورجال حاشيته لتعزيز علاقته بهم، وفاز الإنجليز بكسب آخر، عندما أجاز محمد علي دخول سفنهم الحربية إلى ميناء الإسكندرية القديمة، وكان كل ما اشترطه «ألا يوجد بهذا الميناء في وقت واحد أكثر من مركبين حربيين فحسب».

Unknown page