Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

Muhammad Fuad Shukri d. 1392 AH
153

Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

على أن «مسيت» لم يقصر نشاطه على تشجيع المماليك، أو بالأحرى الألفي بك في هذا الحين - بالرغم من إنكاره ذلك - بل تعدى نشاطه إلى محاولة جذب المشايخ ورؤساء الأهلين بالإسكندرية لتأييد المصلحة البريطانية وإبطال مساعي الوكلاء الفرنسية، وعلى رأسهم «دروفتي» الذي كان مقره وقتئذ بالإسكندرية، ولما كان الشيخ محمد المسيري - كما أوضحنا - صاحب مكانة ملحوظة في الثغر وله تأثير شعبي كبير، فقد ظل «مسيت» يهتم بأمر هذا الشيخ ذي الميول الفرنسية المعروفة؛ لأن مساعيه الأولى معه منذ 1805 لم تفلح في استمالته نهائيا إلى تأييد المصلحة الإنجليزية، بل يبدو أن الشيخ أراد أن يختط لنفسه طريقا يحفظ له علاقاته مع فرنسا ويرضي في الوقت نفسه الوكلاء الإنجليز في الإسكندرية، آية ذلك مصادقة ولده وصهره للإنجليز وعجز «مسيت» في هذه المرحلة عن جذبه إلى جانبه، فلم يلبث أن كتب إلى «أربثنوت» في 22 أبريل 1806 أن لديه من الأسباب القوية ما يحمله على الاعتقاد بأن الشيخ المسيري يتراسل مع الحكومة الفرنسية؛ لأن بونابرت أثناء وجوده في مصر كان يستشير هذا الشيخ بينما قد أغفل أمره وأهمل الآن، وصار الشيخ اليوم لا يخفي ميوله نحو فرنسا، ولما كان صاحب نفوذ كبير على الأهلين فإن خطرا يكمن وراء صلاته بفرنسا؛ ولذلك فقد حاولت أن أشعره بأن نزول جيش فرنسي في البلاد من شأنه زيادة المصائب والمتاعب التي تشكو منها مصر بدلا من إنهائها؛ وذلك لأن الأسطول الإنجليزي عند محاصرته مصر سوف يصادر كل ما قد يأتيها من إمدادات أجنبية، فلا يجد الغزاة مناصا من الاعتماد على موارد البلاد فحسب من حيث المأكل والملبس وكل المال اللازم للإنفاق منه على جندهم ولسداد مطالب الإدارة، وقد اعترف «مسيت» بأن محاولته هذه لم تنجح في استمالة الشيخ؛ لأنه يشعر بمظالم الأتراك، ويرى في فتح الفرنسيين لهذه البلاد مرة ثانية ما يرضي كبرياءه وخيلاءه بسبب ما يتوقعه من ارتفاع مكانته عند حدوث هذا الفتح، وقد انتهز «مسيت» هذه الفرصة ليذكر الموضوع الذي سيطر على تفكيره دائما، فقال - مخاطبا «أربثنوت»: واسمح لي يا سيدي أن أختم رسالتي هذه إليك بتكرار القول أني سوف أعتبر دواما سلامة مصر وفي النهاية سلامة أملاكنا في الهند مهددة بالخطر الجسيم ما دامت الإسكندرية لا تحتلها قوات بريطانية .

على أنه كان من بواعث إخفاق «مسيت» مع الشيخ المسيري ولا شك، ذيوع خبر انتصارات الفرنسيين في أوروبا، ولم يقلل من تأثير هذه في أذهان أهل الإسكندرية انتصار «نلسن» في موقعة الطرف الأغر البحرية في 21 أكتوبر 1805؛ لأن الجيوش الفرنسية ظلت تحرز في القارة نصرا بعد نصر، فكتب «مسيت» إلى «أربثنوت» منذ 13 فبراير 1806 يصف وقع هذه الحوادث: إن انتصارات الفرنسيين المدهشة في ألمانيا وإيطاليا قد أحدثت تغييرا في مسلك العثمانيين الموجودين بالإسكندرية حتى إن بعض الموظفين منهم راحوا يصرحون بانحيازهم إلى الفرنسيين وانضمامهم لهم، ويعلنون كراهيتهم للروس واحتقارهم لهؤلاء.

ولكن «مسيت» لم يفقد كل أمل في استمالة الشيخ المسيري إلى تأييد المصلحة الإنجليزية، وبذل قصارى جهده لإدراك هذه الغاية عندما علم بأنه قد وصله كتاب من بونابرت، فقال في رسالته إلى «أربثنوت» في 10 مايو: إن الغرض من إرساله إلى الشيخ لا محالة هو تسهيل غزو فرنسا لمصر. وقد سجل «مسيت» في كتابه هذا نتيجة مساعيه مع المسيري الذي أقسم مصرحا، بعد أن أكد أنه لن يحذو حذو العثمانيين الذين تحت قناع الصداقة للإنجليز وللفرنسيين قد خدعوا كلا الفريقين، بأنه سوف يضع نفسه على رأس أهل الإسكندرية، ويتولى الدفاع عنها إلى النهاية إذا جاءها جيش فرنسي، ولكن «مسيت» ما عتم أن قال تعليقا على تصريح الشيخ: ولا يكاد يكون ضروريا أن أذكر لكم تعذر الاعتماد على تصريحات مثل هذه؛ لأن الشيخ المسيري ينقم على الأتراك مظالمهم، وقد سمع عنه وهو بين خاصته يردد مرارا وتكرارا ميله إلى الحكومة الفرنسية، زد على ذلك أنه تعوزه الوسائل والسلاح اللذان يقدر بهما على الدفاع عن الإسكندرية حتى إذا كان صادق الرغبة في ذلك، وعلاوة على هذا فالأهلون جهلة ولا يدرون من وسائل هذا الدفاع شيئا، ثم إن «مسيت» ما لبث أن عاد يكرر القول بضرورة احتلال البريطانيين للإسكندرية.

فراح يبسط لأربثنوت في كتابه هذا البواعث التي تدعو - في نظره - إلى ضرورة احتلالها، فقال: إن ممتلكات العدو أي الفرنسيين التي حازها أخيرا في البحر الأبيض المتوسط وفي خليج الأدرياتيك تجعل من السهل عليهم بدرجة عظيمة تنفيذ مشروعاتهم العدوانية ضد مصر، فالساحل المصري طويل وتصعب لذلك حراسته على السفن الإنجليزية المتجولة في البحر الأبيض، ومع أنه قد يتعذر على عمارة كبيرة الوصول إلى الشاطئ المصري، ففي وسع قوة صغيرة الإفلات من يقظة الأسطول الإنجليزي والاستيلاء على الإسكندرية في وقت قصير، وسوف يكون طبيعيا أن يعمد الفرنسيون إلى خطب ود المماليك ثم محالفتهم وعندئذ يسيطرون على مصر بأسرها، ولا سبيل لمنع ذلك قطعا غير أن يحتل جند بريطانيون الإسكندرية، وأما إذا كانت الحكومة الإنجليزية لا تريد اتخاذ هذه الخطوة، فإني أوصي بكل تواضع بأن يكون لمجموعة صغيرة من السفن الحربية المتنقلة مواقع في هذه البحار مع صدور الأوامر إليها بالإكثار من زيارة الميناء (الإسكندرية) وسواحل مصر والشام؛ وذلك لأن الأهلين بسبب عدم ظهور مركب حربي إنجليزي أمام الإسكندرية صاروا يعتقدون - على الرغم من تأكيدي لهم عكس ذلك - أن بريطانيا لا تعبأ بأمر مصر، وقد ترتب على الاعتقاد بأنه لا أمل في تدخلنا في شئون هذه المقاطعة أن كثيرين منهم صاروا ينظرون إلى فرنسا كالدولة التي يرجون خلاصهم على يدها من مظالم الأتراك، ويقبلون - دون تبصر في عواقب الأمور - على مساعدة وكلائها في مؤامراتهم التي لا يبغون منها سوى استمرار الفوضى في مصر.

ومع أن «مسيت» أخفق في محاولته هذه مع الشيخ المسيري، فقد أصاب نجاحا في مساعيه مع الشوربجي رئيس قضاة الإسكندرية (سيدي قاسم غرياني) الذي ما إن جاءت الأخبار من أزمير في أوائل شهر يونيو 1806 بتوقع قطع العلاقات بين تركيا وروسيا واحتمال دخول إنجلترة الحرب ضد الدولة العثمانية حتى انتقل إلى سفينة إنجليزية بالميناء مزمعة الإبحار إلى مالطة تجنبا للمخاطر التي أعتقد أنه لا محالة سوف يتعرض لها إذا نشبت الحرب فعلا بين تركيا وإنجلترة، وفي 11 يونيو كتب «مسيت» إلى السير «ألكسندر بول» حاكم مالطة يوصيه خيرا بالشوربجي الذي قال عنه: إنه رجل يخلص كل الإخلاص لحكومة صاحب الجلالة البريطانية. وقد ظل الشوربجي من أنصار المصلحة الإنجليزية وحضر بعد ذلك نزول جيش الجنرال «فريزر» بها واستيلاءه عليها، ثم هاجر مع من هاجروا من الإسكندرية عند تسليمها إلى محمد علي - كما سيأتي ذكره - وعلاوة على ذلك فقد نصب «مسيت» شباكه لاستمالة السلطات الحاكمة في الثغر وعلى رأسها أمين أغا حاكم الإسكندرية، وسوف نرى فيما بعد أنه نجح نجاحا أخيرا في استمالة الشيخ محمد المسيري إلى جانبه.

واسترعى انتباه «مسيت» وهو في غمرة هذا الانشغال بكسب صداقة الشيخ المسيري - الأمر الذي ثابر عليه فظفر بمبتغاه في النهاية على نحو ما سيأتي ذكره - أو باستمالة الشوربجي أو أمين أغا أو غير هؤلاء خصوصا من بين الأسرات اللبنانية في الصغر، ثم توضيح الأسباب التي بنى عليها دعوته لاحتلال الإسكندرية، وذلك إلى جانب سعيه لإبطال نشاط الوكلاء الفرنسيين من جهة وتأسيس الحكم المملوكي في مصر على أنقاض حكومة محمد علي التي يبغي هدمها وتفويضها من جهة أخرى، نقول: إنه قد استرعى انتباهه وصول علي بك العباسي إلى الإسكندرية في أوائل يونيو 1806، وقد سبق أن أوضحنا كيف أراد القبطان صالح باشا الاستعانة بدرايته في علم الفلك لمعرفة مصير مهمته عندما حضر بفرمان نقل محمد علي إلى ولاية سالونيك ولتنفيذ الاتفاق الذي أبرمه مندوبو الألفي مع الباب العالي في القسطنطينية، فقد ساورت «مسيت» الشكوك الكبيرة في هوية علي بك العباسي وكتب في 11-15 يوليو إلى «أربثنوت» ينبئه بوصول «رجل من المستحيل على المرء أن يعده إلا وكيلا سريا فرنسيا، يتخذ لنفسه اسم علي بك ويقول إن موطنه حلب، وقد أمضى هناك على كل الأحوال سنوات قليلة؛ لأنه انتقل وهو في سن مبكرة إلى جامعة قرطبة بإسبانيا لإتمام دراسته بها، وهذا الرجل الذي يدعي أنه من سلالة الرسول محمد

صلى الله عليه وسلم

قد تلقى علومه في مدرسة أكليريكية مسيحية، وجال في كل أنحاء أوروبا تقريبا، ويتكلم الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية ولكنه يجهل التركية، ويعرف قليلا العربية، والغرض الظاهر من رحلته الذهاب إلى مكة وزيارة قبر الرسول

صلى الله عليه وسلم ، ولكن ما أغراضه؟ لقد دلت أحاديثه حتى في رأي العثمانيين والمصريين على أنه وكيل سري للحكومة الفرنسية.» ولكنه ما إن مضت أيام قلائل حتى استحالت شكوك «مسيت» هذه إلى عقيدة ثابتة، فكتب إلى «شارلس جيمس فوكس» في 19 يونيو أن «علي بك العباسي من وكلاء العدو السريين (أو جواسيسهم) في مصر، وهو يحاول جاهدا في أحاديثه مع الأهالي أن يلقي في روعهم ويطبع في أذهانهم أن فرنسا قوة ضخمة عظيمة، ويصرح كثيرا بأنه يستحيل على إنسان مقاومة جيش بونابرت.» ثم استطرد «مسيت» يقول: «ولذا فقد أوضحت لحاكم الإسكندرية ما ينطوي عليه السماح ببقاء مثل هذا الرجل بالإسكندرية من أخطار.» فوعد بإبعاده لأنه مقتنع شخصيا بأنه وكيل سري فرنسي، غير أن تردد الأتراك وما يقال عن قرب عقد محالفة بين الباب العالي وفرنسا منعا أمين أغا من الوفاء بوعده.

والحقيقة أن علي بك العباسي كان مغامرا إسبانيا يدعى «باديا»

Unknown page