Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
وقد حرص الباب العالي على تعزيز نفوذه في مصر، ثم تحصيل ما يمكن تحصيله من مال منها عندما عين مندوبين من قبله لإدارة جمارك الإسكندرية ودمياط ورشيد في أبريل 1806، وأرسل في الوقت نفسه قابجي وعلى يده مرسومات بالجمارك وغيرها، ومنها ضبط ترك الموتى المقتولين والمقبورين وكذلك تركة السيد أحمد المحروقي وآخر يسمى الشريف محمد البرلي، وقال الشيخ الجبرتي: «إن القصد من ذلك تحصيل الدراهم بأي حجة كانت.» ولكن الباشا سرعان ما انتهز وجود هذا القابجي لاستمالته إلى تأييد قضيته فأغدق عليه النعم والعطايا، ثم زوده بعطايا وهدايا أخرى للدولة وأربابها، فلم تطل إقامته بالقاهرة وغادرها بعد ستة أيام فحسب من وصوله إليها، وخرج الباشا مع سعيد أغا والسيد عمر مكرم لتوديعه عند سفره من بولاق في 26 أبريل، وعرفه بقضايا وأغراض يتممها له في القسطنطينية.
غير أن مسعى أصدقاء الباشا ووكلائه في القسطنطينية لم يجد نفعا في صرف الباب العالي عن عزمه، بل كانت تجري المباحثات هناك من مدة في أمر محمد علي وتدبير عزله من باشوية مصر ونقله إلى ولاية أخرى. (3) أزمة النقل إلى سالونيك
مفاوضات وكلاء الألفي في القسطنطينية
وصحبت المباحثات التي دارت بالقسطنطينية وتعيين موسى باشا بدلا عنه في باشوية القاهرة، وصدور عفو السلطان عن المماليك، وتأسيس نفوذهم من جديد بزعامة الألفي، ملابسات كثيرة كان من أثرها ذيوع الاعتقاد وقتذاك بأن ذلك كله قد حدث بناء على شفاعة ووساطة الإنجليز، ولقد بلغ من رسوخ الفكرة في أذهان المعاصرين أن اعتقد بصحة ذلك الشيخ الجبرتي - وهو يسجل ما يعرفه وما يشيع كذلك في أوساط المشايخ وبين سائر العليمين بالأمور - ثم الوكلاء الفرنسيون في مصر ورجال السفارة الفرنسية بالقسطنطينية، والألفي نفسه وجماعته وسائر البكوات والمماليك، ولا يستغرب أن يصدقه الباشا نفسه، والسبب في ذيوع هذا الاعتقاد ما كان معروفا عن مسعى الإنجليز دائما في السنوات السابقة وحتى قبل أن تتزعزع - في المدة الأخيرة - علاقاتهم مع الباب العالي من أجل معاونة البكوات، ولا سيما أولئك الذين اعتبروهم من أنصارهم، على استرجاع سيطرتهم المفقودة، والعود إلى ذلك النظام السابق الذي كفل للمماليك القوة والنفوذ قبل مجيء الحملة الفرنسية، أضف إلى هذا أن الألفي نفسه عندما بدأت هذه المباحثات أسرع في طلب وساطة الإنجليز لدى الباب العالي اعتقادا منه أن في هذا تعزيزا لقضيته، كما أن الوكلاء الإنجليز بمجرد أن تم الاتفاق بين الديوان العثماني ومندوب الألفي في القسطنطينية بادروا بزف البشرى إليه، وصار من مصلحة هؤلاء الوكلاء أن يروج خبر شفاعتهم أو وساطتهم المزعومة، ولما كان الترتيب الذي تم الاتفاق عليه قد أتى محققا لرغبات الألفي وفي صالحه، وكان المعروف من قديم أنه صنيعة الإنجليز، فقد سهل تصديق هذه المزاعم.
والحقيقة أن زمام المبادأة في هذه المباحثات كان بيد الباب العالي نفسه، وأن الألفي لم يوفد مندوبه إلى القسطنطينية إلا بعد أن طلب إليه المسئولون هناك أن يفعل ذلك، وأن السفارة الإنجليزية لم تتدخل إطلاقا في المباحثات، وأن الاتفاق قد حصل دون استشارتها فيه، ناهيك عن إشراكها في موضوعه، وأن رجالها والوكلاء الإنجليز في مصر لم يرتاحوا للترتيب الذي وضع ولو أنه في صالح الألفي، بل نقدوه وتنبئوا بفشله، زد على ذلك كله أن الإنجليز أنفسهم في الوقت الذي حدث فيه الاتفاق لم يكن لديهم من النفوذ في القسطنطينية ما يجعلهم يتشجعون على التوسط والتدخل، أو ما يجعل الباب العالي نفسه يصغي لوساطتهم إذا هم فعلوا ذلك.
فقد اعتقد الباب العالي للأسباب التي سبق الحديث عنها، وعندما نفد صبره من رؤية محمد علي لا يحقق شيئا من الوعود التي كان وكلاؤه قد منوا بها الديوان العثماني، أن خير وسيلة لإنهاء حكومة الأرنئود وبسط نفوذ الدولة الفعلي في مصر هي تمليك البكوات ورجوعهم على شروط تشترطها عليهم الدولة أولى من تمادي العداوة بينهم وبين محمد علي الذي وصفه الصدر الأعظم محمد باشا بأنه رجل جاهل متحيل لم يتقلب في مناصب الدولة، وإنما ظهر من العسكر في حين أنه لا يسهل إجلاء المماليك عن أوطانهم وأولادهم وسيادتهم التي ورثوها عن أسلافهم، ومن المنتظر لذلك أن تستمر الحروب بين محمد علي والمماليك مع ما يتبع ذلك من احتياج الفريقين إلى جمع العسكر وكثرة النفقات والعلائف والمصاريف، يجمعونها من أي وجه كان ويؤدي ذلك إلى خراب الإقليم، فالأولى والمناسب صرف ذلك المتقلب (أي محمد علي) وإخراجه وتولية خلافه، والعود بنظام الحكم في مصر إلى الوضع الذي كان عليه قبل مجيء الفرنسيين إليها، وفاتح الصدر الأعظم في هذه المسألة سليمان أغا، وهو من مماليك صالح بك الوكيل.
كان الصدر الأعظم يوسف ضيا باشا قد قلده سلحدارا وبعث به إلى إسلامبول، وأقام بها من ذلك الحين يشرف على مصالح البكوات عموما، وقرب بينه وبين محمد باشا السلحدار أن الأخير كان في الأصل مملوكا للسلطان مصطفى الثالث، ويعطف بسبب رابطة الجنس على قضية البكوات المماليك، وأكد الصدر لسليمان أغا صدق نواياه في الوصول حقيقة إلى اتفاق مع البكوات، على شريطة أن تفيد الخزينة العامرة منه؛ أي في نظير أن يرفع البكوات قيمة الخراج السنوي وتأتي الأموال والعطايا إلى القسطنطينية، فاقترح عليه سليمان أغا أن يطلب الباب العالي من الألفي بإرسال كتخداه محمد أغا؛ لأنه رجل يصلح للمخاطبة لمثل ذلك، ففعل. فكان ذلك منشأ المباحثات التي انتهت بالاتفاق الذي كان من بين قواعده عزل محمد علي من ولاية مصر ونقله إلى ولاية سالونيك.
وقد ذكر الشيخ الجبرتي هذه الرواية عند ترجمته لسيرة الألفي، ثم عززها ما ذكره الوكيل الإنجليزي «مسيت» عندما أرسل يبلغ «شارلس أربثنوت» بالقسطنطينية وصول مندوبي الألفي إليها للمفاوضة مع الباب العالي، ويبلغه كذلك طلب الألفي وساطة السفير الإنجليزي في القسطنطينية.
فإنه ما إن وصل رسول سليمان أغا إلى مصر وقابل الألفي حتى شرع هذا الأخير يهيئ لإرسال كتخداه مزودا بكتاب إلى «شارلس أربثنوت» مؤرخا في 22 فبراير 1806، ويصحبه ترجمانه «ستافراكي»
Stavraky ، كما بادر بالاتصال بالميجور «مسيت». أما في كتابه إلى «أربثنوت» فقد ذكر (الألفي) أنه قد أرسل كتخداه محمد أغا إلى القسطنطينية مزودا بمذكرة إلى الباب العالي وبتعليمات مختلفة بشأن ما يعرضه على الصدر الأعظم ووزراء الدولة، لإظهار رغبته في الخضوع والإذعان وطلب العفو والصفح من السلطان العثماني والحصول على فرمان يقضي برفع الحظر عن البكوات ويسمح لهم بالدخول إلى القاهرة والعودة إلى بيوتهم بها، ويأمر بترحيل الجند عن البلاد وهم مثيرو الفتن والشغب بها دائما، على أن يتعهد الألفي في نظير ذلك بخروج قوافل الحج إلى مكة، والسهر على سلامتها وإرسال الأموال المخصصة للحرمين الشريفين، والتمسك بالولاء التام للباب العالي، والعمل على استتباب النظام في القاهرة والأقاليم، وضمان هدوء الأهالي المساكين وتوفير عوامل السكينة والاطمئنان لهم في عيشهم، ثم طاعة أوامر الباب العالي. وقد أوضح الألفي السبب الذي حداه إلى كتابة هذه الرسالة إلى «أربثنوت»، فقال: «ونحن إنما نبعث إليك بهذا الكتاب كي نرجوك بوصول كتخدانا حامل هذه الخطابات (للسفير ولرجال الدولة) أن تتحد معه في المسعى من أجل إنهاء مسائله، وأن تتوسط له لدى الصدر الأعظم والكخيا بك وسائر وزراء الباب العالي الآخرين.» ثم حدد الألفي نوع الخدمة التي يريدها من «أربثنوت» بأنها قيام هذا الأخير بضمان الألفي لدى الباب العالي، وتعهد هذا بتنفيذ كل ما يتم الاتفاق عليه دون إثارة أية عراقيل أو مشاكل، وللسفير أن يطلب من كتخدا الألفي كل ما يريد أن يطلبه من الألفي نفسه، وسوف يطلعه كتخداه على كل شيء؛ لأن سيده قد عهد إليه بكل مسائله.
Unknown page