في أي أنباء مصر تريد أن أكتب إليك إذن؟! أما إن كنت راضي العيش، ناعم البال، مطمئن القلب، فقد ينبغي أن أكتب إليك في أنباء مصر التي تحزن بعض الحزن، وتنغص بعض التنغيص ليعادل ما تحمل إليك من المساءة بعض ما أنت فيه من المسرة. وأما إن كنت ضيق النفس، كئيب الضمير، محزون القلب، فقد ينبغي أن أكتب إليك فيما يسليك ويلهيك، لتجد فيما يلقاك من ذلك راحة تخفف ما أنت فيه من جهد، وسرورا يلطف ما أنت فيه من حزن، ورضى يردك إلى ما ينبغي لك من اعتدال المزاج ...، ولكن لا أعرف من أمرك شيئا، وقد انقطعت رسائلك عني منذ شهر وبعض شهر. ورسائلك لا تنقطع إلا حين تشغلك السعادة أو حين يشغلك الشقاء، فأنت رجل تؤثر نفسك بما يتاح لك من الخير، وبما يعرض لك من الشر، ولا تفكر في أصدقائك، ولا تكتب إليهم إلا حين تفرغ من السعادة والشقاء جميعا، وتضطر إلى هذه الحياة الهادئة التي تضيق بها، وتضيق بك، فتتسلى عنها، وتسليها عنك بالتفكير في الأصدقاء، والسعي إلى لقائهم إن كانوا قريبا منك، والكتابة إليهم أن نأت بهم عنك الدار. •••
فأنت في هذه الأسابيع الكثيرة التي لم تصل إلي فيها رسائلك؛ مشغول عني وعن غيري بنعمة سيقت إليك أو نقمة صبت عليك. وأنا من أجل ذلك حائر في أمرك وأمري، أخشى أن تكون سعيدا فيشغلك كتابي عن سعادتك، وأخشى أن تكون شقيا فيكون في تأخير الكتابة إليك شيء من التقصير في ذاتك، والتفريط فيما ينبغي لك من الحق علي، إن نابتك النوائب أو ألمت بك الملمات. وما أكره أن تستأثر بما يتاح لك من الخير لأني أحبك، وما أريد أن تستأثر بما يعرض لك من الشر لأني أشفق عليك. فخذ كتابي إذن كما هو وانظر في أوله، فإن كنت سعيدا فدعه حتى تفرغ من سعادتك أو تفرغ منك سعادتك فليس من هذا بد؛ لأن سعادة الناس في هذه الحياة سحابة صيف لا تظل إلا لتنقشع، ولا تلم إلا لتزول، وإن كنت شقيا فاستعن به على دفع ما يغشاك من الشقاء. •••
وفي أنباء مصر - والحمد لله - ما يسلي المحزون عن حزنه، وينغص على السعيد سعادته، ويدعو الرجل العاقل الأريب إلى إطالة التروية والإمعان في التفكير.
لقد بعد عهدك بمصر أيها الصديق الكريم، وطال فراقك لها، وقد جدت فيها أمور وحدثت فيها أحداث غير تلك الأمور وهذه الأحداث التي تنقلها إليك الصحف التي تصدر حيث تقيم، والتي تأتيك من حيث نقيم نحن؛ لأن الصحف لا تنقل من الأحداث والأنباء إلا ظواهرها، فأما حقائقها ودقائقها وأسرارها ومصادرها، فليست من الصحف في شيء، وليست الصحف منها في شيء. وما أكثر الأنباء التي تروى في الصحف قد رواها الكتاب عن غير فهم، وقرأها القراء عن غير فهم أيضا، وتحدث بها المتحدثون، وذهبوا في تأويلها المذاهب عن غير فهم كذلك؛ لأنهم عرفوا ظواهرها، وجهلوا حقائقها، ولأن الصحفين لا يكتبون التاريح، تعجلهم عن ذلك مهنتهم التي تضطرهم إلى الإسراع، وإلى النظام، وإلى أن يملئوا صحفا بعينها في أوقات بعينها، لا ينبغي أن يسبقوها، ولا ينبغي أن يتأخروا عنها. فهم معجلون مهما يتمهلوا، وهم مسرعون مهما يستأنوا، وهم مقصرون مهما يتكلفوا من البحث والاستقصاء. •••
وقد قرأت في الصحف، ونقل إليك الناقلون من غير شك أن في مصر نظاما مبتكرا لا يعرفه بلد من بلاد الأرض، وهو توكيل الشرطة بالجامعات ومعاهد العلم تحرسها حين يسفر الصبح، وتحرسها حين يظلم الليل، وتحرسها بين ذلك حين تستوي الشمس في كبد السماء، وحين يبسط الظلام سلطانه الرهيب على الكون. وزعم لك بعض الصحف، وقال لك بعض القائلين إن هذا النظام المبتكر البديع قد أريد به إلى حصار الجامعات، ومعاهد العلم حتى لا ينفذ إليها أحد من غير أهلها، مخافة أن يشغل الجاهلون طلاب العلم عن علمهم، وزعمت لك صحف أخرى، وقال لك قائلون آخرون إن هذا النظام المبتكر البديع إنما أريد به إلى حماية الجاهلين الغافلين من المتعلمين المتنبهين، مخافة أن ينتشر الجامعيون والمثقفون في الأرض ليملئوها شرا بعد أن ملئت خيرا. وقال لك أولئك وهؤلاء إن في هذا النظام المبتكر البديع عبثا بالحرية وتضييقا على الناس في حياتهم، فبين الجامعيين والمتعلمين وبين الجاهلين والغافلين صلات يجب أن ترعى، وعرى يجب ألا تنفصم؛ صلات الأبوة والبنوة والإخاء وصلات الرحم والقرابة والمودة، وكل هذه الخصال لا ينبغي أن تقطع لأن الله أمر بها أن توصل، فهذا النظام شر، وهذا النظام نكر، وهذا النظام بغيض إلى آخر ما قيل، وإلى آخر ما سيقال ما دام هذا النظام المبتكر البديع قائما، وما دام الصحفيون يكتبون عن غير استقصاء، وما دام الناس يقولون بغير علم، ويخوضون فيما لا يحسنون الخوض فيه، ودعني أستعر من أبي العلاء بيته المشهور:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
لتسمع أنباء الأمور الصحائح
وأنا أعلم أنك لن تسعى إلى لقائي؛ لأنك تؤثر غربتك، وتألف ما أنت فيه من كسل. فأنا أسعى إلى لقائك بهذا الكتاب لأسمعك أنباء الأمور الصحائح عن رغبة منك فيها أو انصراف منك عنها، فما أحب لك أن تجهل مع الجاهلين، وتخطئ مع المخطئين. وقد علمت أن مصر ما زالت سباقة إلى الخير، نفاذة من المشكلات، حلالة للألغاز؛ فقد استكشفت مصر في هذه الأيام الشداد أن العلم ينفع ويضر ويحسن ويسيء؛ ينفع إذا استأثر به العلماء الذين يحسنون فهمه وتصريفه، ويضر إذا خلص إلى الجهلاء أو خلص إليه الجهلاء الذين لا يسيغونه، ولا يعقلونه، ولا يحسنون التمثل له، والانتفاع به ... شأنه في ذلك شأن السلاح الخطر الذي لا يحسن استعماله إلا من كان به خبيرا، وشأن العقاقير الخطرة التي لا ينبغي أن يخلى بينها وبين الذين لا علم لهم بالطب وطبائع الأمزجة والأجسام. وما رأيك لو أبيحت القنابل الذرية للناس جميعا، وما رأيك لو أصبحت ألوان السم الزعاف قريبة المتناول من أيدي الناس جميعا. فالعلم أشد خطرا من القنابل الذرية لأنه يبتكرها، وهو أشد خطرا من السم الزعاف لأنه ينشئه ويركبه، ويقدر حظه من كل دواء. •••
وقد لاحظت مصر في هذه الأعوام الأخيرة أن قليلا من علم العلماء قد خلص إلى جهل الجهلاء، ففسدت لذلك أمور الناس وأخلاقهم وصلاتهم وأحكامهم على الأشياء، وتصورهم للحياة. فشكا من لم يألف الشكاة، وسخط من لا يعرف السخط، ورضي من لم يكن له حظ من رضى، وأمن من لم يكن ينبغي له الأمن، وخاف من لم يكن للخوف إليه سبيلا.
ونظرت مصر، فإذا أهلها ساخطون صاخبون قلقون مضطربون، لا يرضون عن شيء، ولا يرضى عنهم شيء، قد عبسوا للحياة، وعبست لهم الحياة، حتى أنكرتهم شمسهم المشرقة، وأنكروا هم شمسهم المشرقة، حتى ضاق بهم نيلهم الهادئ السمح، وود لو تحول عن واديهم فشق مجراه في الصحراء، حتى لا يرى هذه الوجوه العابسة، وهذه النفوس المظلمة، وهذه القلوب التي بعد عهدها بالاطمئنان. •••
Unknown page