ولكن مينا، والحب الأصيل يعمر قلبها وخادمتها فرنتسيسكا تساعدها، لا تعدم الحيلة، فتظاهرت بأن أسرتها نبذتها، وبأن خالها الغني صاحب النهي والأمر قد قرر حرمانها من الميراث، فأصبحت فقيرة منبوذة تحتاج إلى العون، وهنا تحركت نخوة فون تلهايم، وقرر ألا يتخلى عنها مهما حدث.
وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة؛ إذ يأتي رسول من الملك يبلغ فون تلهايم أن الملك تبين أن ما بلغه كان وشاية، وأنه قرر أن يعود تلهايم إلى عمله عزيزا كريما، وأن تعيد إليه الخزانة ما دفعه من مبالغ، وأكد له أن الملك يقدر بطولته وتفانيه. ومن ناحية أخرى يأتي خال مينا فون بارنهلم، ويتضح أن النبذ والحرمان من الميراث كانا محض اختلاق من قبيل الكذب في سبيل المصلحة، وتعود المياه إلى مجاريها ويجتمع الشمل. (4) الشخصيات
كان جريلبارتسر يعتبر «مينا فون بارنهلم» أحسن كوميديا ألمانية على وجه الإطلاق، ولا يكاد ناقد يخرج على الإجماع على أن القطعة من أجود ما أنتج الفن المسرحي الكوميدي في ألمانيا، لما توفر لها من مادة قوية مأخوذة من صميم الحياة كما عاشها المؤلف، ولما توفر لها من إتقان في تسيير الحوار وترتيب الأفكار، وأعظم ما فيها في رأينا تصوير الشخصيات، الرئيسية والثانوية على السواء.
الرائد فون تلهايم، يمثل الضابط البروسي بمعنى الكلمة، شجاع، مقدام، يحب زملاءه وجنوده ويعرض حياته للخطر دفاعا عنهم بغض النظر عن الرتبة أو المركز، ويحرم نفسه ليعطيهم أو ليرعى أسرهم بعد وفاتهم، لا يعرف للدنيا معنى إذا خلت من الكرامة والشرف، وهو في الحب يعرف الحدود بين القلب والعقل، فلا يدع أحدهما يغير على الآخر. لنسمع حديثه إلى مينا فون بارنهلم: «إنك تنادينني تلهايم، والاسم صحيح، لكنك تعتقدين أنني الآن ذلك التلهايم الذي كنت تعرفينه في وطنك، ذلك الرجل الباهر الطموح الممتلئ كلفا بالشهرة، ذلك الرجل المتمكن من جسمه كله ومن روحه كلها، الذي انفتحت أمامه حواجز الرفعة والسعادة، فأمل أن يزيد كل يوم جدارة بقلبك ويدك، وإن لم يكن آنئذ جديرا بك. أنا لست هذا التلهايم، تماما كما أني لست أبي. ذلك التلهايم - تماما كذلك الأب - كان وانتهى، أما أنا فتلهايم المحال إلى الاستيداع، تلهايم المشوه، الشحاذ. لقد كنت مخطوبة يا آنستي لذلك التلهايم الآخر.»
ثم يقول لها في موضع آخر: «أردت أن أقول: إذا كانوا يمنعون عني مالي على هذا النحو المخزي، وإذا لم يكونوا سيردون إلي شرفي على أكمل وجه، فلن يمكنني أن أكون لك يا آنستي. الدنيا كلها لا تعتبرني جديرا بك. من حق الآنسة فون بارنهلم أن تنال رجلا لا غبار عليه. إن الحب الذي لا يخشى أن يتعرض موضوعه للازدراء، حب دنيء.»
ويحيط بالرائد فون تلهايم رجال أوفياء؛ رجل صلب الرأي ضيق الأفق، عنيد، ثائر، متعلق بسيده كالكلب المخلص لا يفارقه مهما حدث، ورجل شجاع، واسع الحيلة نسبيا، يحب الجندية ولا يعرف له غيرها عملا، يضحي بماله وحياته من أجل الضابط الذي عمل تحت رئاسته؛ أما الأول فهو «يوست»، وأما الثاني فهو «باول فرنر».
ولنستمع إلى يوست وهو يصور شخصيته، يقول موجها الحديث إلى سيده فون تلهايم: «قبح في ما شئت، فلن أتصور نفسي مع هذا أسوأ من كلبي؛ فقد كنت يوما في الشتاء الماضي أسير ساعة الغروب على القناة فسمعت أنينا، فنزلت واتجهت إلى مصدر الصوت، واعتقدت أنني أوشك أن أنقذ طفلا، فإذا بي أخرج من الماء كلبا صغيرا، فقلت في نفسي: لا بأس. لكن الكلب ظل يتبع خطاي، ولست من محبي الكلاب، فطردته، لكن طردي لم يجد نفعا، فانهلت على الكلب ضربا حتى أبعده عني، فلم يجد ضربي شيئا، فلما جن الليل لم أدعه يدخل حجرتي، فظل على الباب قابعا عند العتبة. وكان كلما اقترب مني ركلته بعيدا، فيصيح وينظر إلي ملوحا بذنبه. وبالرغم من أنه لم يكن قد تلقى من يدي كسرة خبز، فإنه كان لا يطيع غيري، ولا يسمح لغيري بلمسه. وكان يقفز أمامي ويعرض علي دون طلب مني أفانينه. صحيح أنه كلب قبيح ولكنه طيب جدا. ولو ظل على هذه الحال فسوف أكف عن بغض الكلاب.»
ثم يضيف قوله: «أنا لا غنى عني لك؛ إنني - دون تمجيد لذاتي، يا سيدي الرائد - خادم إذا تأزمت الأزمة فوق تأزمها يستطيع أن يتسول وأن يسرق من أجل سيده.»
باول فرنر، محارب بروسي حانق لعودة السلام لأن السلام حال بينه وبين القتال، وها هو يبحث عن ميدان جديد: «ألا تعرف الأمير هيراقليوس؟ الرجل الشجاع الذي اجتاح فارس ويستعد الآن لنسف الباب العالي العثماني في الأيام القادمة؟ الحمد لله أن الحرب ما زالت موجودة في مكان ما في الأرض، وقد طال الأمد على أملي أن تعود الحرب إلى الاشتعال هنا؛ فجنودنا يقعدون ويعالجون جلودهم. لا، لقد كنت جنديا، ولا بد أن أعود فأصبح جنديا.»
وباول فرنر لا يهدأ بالا منذ علم بمحنة الرائد، ويعمل كل ما في وسعه لمساعدته دون أن يحس الرائد أن تلك مساعدة، وقد بلغ تفاني فرنر في حب الرائد أن بدأ يبيع ما لديه ليجمع بعض المال يضعه في يد رئيسه المنكوب، لكن رئيسه يمتنع بإباء وشمم فيقول له: «لا تريد أن تكون مدينا لي؟ هذا لو لم تكن قد أصبحت مدينا لي من قبل بالفعل، يا سيدي الرائد، أولست مدينا بشيء للرجل الذي صد عنك مرة ضربة سيف كادت تشج رأسك، ومرة قطع ذراعا كانت توشك الضغط على زناد بندقية فتنطلق منها رصاصة تستقر في صدرك؟ هل هناك دين أكبر من هذا يمكن أن تكون مدينا به لهذا الرجل؟ أو هل رقبتي أقل قيمة من مالي؟»
Unknown page