بسم الله الرحمن الرحيم
إن أحرى ما يملى في تباشير الخطب والديابيج، وأحسن ما يتلى في بحابيح الدياجر والدياييج، وأبهى فرايد تنظم في عقد الجمان، وأسنى جواهر ترصع في يواقيت أركان الأذهان، حمد من هدانا منهج الهداية، وشكر من أنجانا من مسلك الغواية، الذي أرشدنا دينا مضيا، وعلمنا شرعا مرضيا هنيا، وبعث إلينا نبيا صادقا أمينا، من أكرم محتد وأشرف جرثومة، وأطيب مغرس وأعرف أرومة، عليه صلوات لا ينهى عددها، ولا يحاط مبلغها، ولا يدرك أمدها، ثم على أزواجه الطاهرات، ونسائه الزاكيات، وعلى خلفائه الراشدين، وآله وصحبه أجمعين، والرضوان على علماء المسلمين، مصابيح الدنيا والدين، ما دخل الليل في النهار، وما هبت الرياح وامتدت الأنهار.
أما بعد:
فإن العبد الفقير إلى ربه الغني، أبا محمد محمود بن أحمد العيني، عامله الله ووالديه بلطفه الخفي، يقول: لما وقعت في الديار المصرية، ديار خير وعلم وأمنية، ورأيت الترك منكبين على المختصر الموسوم بتحفة الملوك، لكونه هاديا إلى أوضح السلوك، راغبين فيه غاية الرغبة، مجتهدين فيه بأشد همة، لكونه مختصرا لطيفا، ومنتخبا شريفا، بحيث يحصل منه الحظ للمبتدئ والفضل للمنتهي، وأنه محتاج إلى الشرح والإيضاح، والبيان والإفصاح، أردت أن أشرح له شرحا يذلل الصعاب، ويزيل عن مخدراته النقاب، متعرضا لحل المتن وبسط مسائله، وإيضاح ما يحتاج إلى البيان من دلائله، مترجما بكتابه (منحة السلوك في شرح تحفة الملوك) فالمسؤول من الله أن يرزقنا الفهم والدراية، ويعصمنا عن الجهل والغواية، ويوفقنا طريق الصواب،
1 / 23
ويحجزنا عن الوقوع في مظان الارتياب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. ومأمول من الناظر فيه أن ينظر بعين الصدق والصفا، ولا ينظر بعين الحسد والجفا، فإن الجسد لا يخلو عن الحسد، ولكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه، اللهم اعصمنا عن نفث عاقد إذا عقد ومن شر حاسد إذا حسد، توكلي عليه وهو حسبي ونعم الوكيل.
1 / 24
بسم الله الرحمن الرحيم
أقول: قد جرى دأب السلف والخلف من المصنفين ﵏ أن يعنونوا كتبهم بالبسملة وذلك من وجوه ثلاثة:
الأول: اقتداء بالكتاب العزيز المستفتح هكذا، والثاني: عملا بقوله ﵇: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) رواه أبو داود وابن ماجه، والثالث: تبركا باسم الله في ابتداء الأمر، وتفاؤلا به ليوفقه طريق الرشاد، ويسلكه سنن السداد، ويعاذ به من شر أبي كردوس الرجيم، ويلاذ به من مكره العظيم، فإن فيه معاذا للمؤمنين وملاذا للمسلمين.
ألا يرى أن من اعتراه خطب جسيم واحتواه أمر عظيم، كيف يتلفظ باسم من هو يعزو نفسه إلى بابه، ويعدها من جملة أحبابه ليحصل له المناص من ذلك والخلاص في ذلك.
وكيف ينتبّ من حواليه، وينشرد من جوانيه، من هو به حصل له ما حصل
1 / 25
ووقع له ما وقع، فبالحرى ذلك في اسم الله تعالى؛ لأنه هو المخلص في الدنيا والآخرة، والمنجي من مكائد أبي مرة ومصايد الحارث ووساوس الولهان، وكيف لا وإن سائر أسماء الله تعالى جميعها مضمنة، فيه مندرجة فيما تحته، كما قيل: إن لفظة الله اسم للذات، مستجمع لجميع الصفات، وأن سورة التوحيد مخصوصة به، وكلمة الشهادة واقعة به، والأيمان مشروعة به.
ولو بسطنا القول فيه من حيث الاشتقاق والوضع والإعراب والمعاني والبيان والبديع، ومن حيث اختلاف المجتهدين فيما يبتنى عليه من الأحكام، ومن حيث الثواب والفضيلة، ومن حيث ما ورد فيه الآثار والأخبار، لاحتجنا إلى دفاتر ما تحمل على الأكتاف، ولكن نذكر شيئا نزرا بقدر ما يتحمله هذا المختصر، تشفيا لصدور الناظرين، وترويا لقلوب الواردين.
فنقول: (بسم الله) أي بسم الله أشرع، وهو اللائق به، وكذلك المسافر إذا حل أو ارتحل وقال: بسم الله، أي بسم الله أحل، وبسم الله أرتحل، وكذلك كل فاعل يبدأ في أول فعله: بسم الله.
فإن قلت: لم قدرت المحذوف متأخرا؟ قلت: لفائدة الاختصاص الذي يحصل بتقديم الاسم وتأخير الفعل كما في ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾.
فإن قلت: لم قدم الفعل على الاسم في قوله تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾.
قلت: هذا أول ما أنزل على النبي ﷺ، فكان الأمر بالقراءة أهم لتبليغ الرسالة فلذلك قدم.
فإن قلت: لفظة الله اسم أو صفة؟ قلت: اسم غير صفة، ألا ترى أنك تصفه ولا تصف به فتقول: الله رحيم، ولا تقول: الرحيم الله.
فإن قلت: اسم موضوع أو مشتق؟ قلت: ليس بمشتق في الأصح، والذين ذهبوا إلى اشتقاقه بعضهم قالوا: من ألِه يألَه بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر: أي
1 / 26
سكن، وبعضهم قالوا: من وله يوله: أي تحير، وبعضهم قالوا من تأله يتأله: أي تضرع، وبعضهم قالوا: من لاه يلوه: أي احتجب، فإن قلت: كيف نراعي هذه المعاني في لفظة الله؟ قلت: مراعاتها ظاهرة:
أما الأول: فلسكون الخلق إليه، وأما الثاني: فلتحيرهم في كنه عظمته، وأما الثالث: فلتضرعهم إليه، وأما الرابع: فلأنه محتجب عن إدراك الأبصار وإحاطة الأفكار.
فإن قلت: ما الفرق بين الرحمن والرحيم؟ قلت: الرحمن فعلان من رحم، كغضبان من غضب.
والرحيم: فعيل من رحم، كسقيم من سقم، وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم، فلذلك قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا؛ لأن الزيادة في اللفظ لزيادة في المعنى، وإليه الإشارة في الكشاف، فيكون هذا من باب التتميم والتكميل لا من باب الترقي، لأن الترقي شرطه من الأدنى إلى الأعلى، ولو كان ذلك لقيل (بسم الله الرحيم الرحيم).
فإن قلت: ما معناهما من حيث اللغة؟ قلت: قد علمت أنهما مشتقان من رحم يرحم رحمة وهو: التعطف والحنو. ومنه الرحيم لانعطافها على ما فيها. فإن قلت: كيف يجوز أن يوصف الله بهذا المعنى؟
قلت: يكون مجازا من إنعامه على عباده؛ لأن مآل التعطف والحنو يفضي إلى هذا، كما أن سخطه عبارة عن عقابه.
وأما إعرابها:
فقوله: بسم: مجرور بالباء، ومحل الباء نصب هو ظاهر، لأنه إما مفعول وإما
1 / 27
حال، ويجوز أن لا يكون في قوة ابتدائي بسم الله، أي ابتدائي حاصل بسم الله، ولفظة (الله) مجرور بالإضافة، والرحمن الرحيم مجروران بالوصفية.
وهذا القدر كاف للفطن الذكي، ولا ينفع الإكثار والبسط للجاهل الغبي.
قوله: (الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) أقول:
هذا جزء من القرآن الكريم أتى به في أول كتابه لوجوه كثيرة:
الأول: تأسيا بكتاب الله تعالى فإنه مستفتح أولا بالبسملة، وثانيا بالحمدلة.
والثاني: عملا بقوله ﵇: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع) رواه أبو داود وابن ماجه وأبو عوانة.
وما قيل: إن هذا وحديث البسملة متعارضان ظاهرا: فقد مر جوابه فيك تابنا المستجمع في شرح المجمع مستوفى.
1 / 28
والثالث: اتباعا للمصنفين في أنهم يثنون الابتداء بالحمد لله.
والرابع: تفاؤلا به للتبرك، وليس شيء مما يتبرك به أفضل من القرآن.
والخامس: أن هذا اقتباس، وهو من صنعة البديع، وهو أن يذكر شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه.
والسادس: أن هذا الجزء الشريف مشتمل على الحمد الذي هو رأس الشكر والسلام على الأنبياء؛ لأن المراد من قوله: ﴿على عباده الذين اصطفى﴾ هم الأنبياء.
والسابع: دفعا لسؤال من يسأل: أنه لم اختار الحمد على المدح والشكر؟
فإن قلت: دأبهم أن يصلوا على النبي ﵇ بعد الحمد لله، والمصنف خالفهم في ذلك.
قلت: لا، لأن المراد من عباده الذين اصطفى: هم الأنبياء كما قلنا، ونبينا محمد ﷺ داخل في جملتهم، فتكون مصليا عليه أيضا.
فإن قلت: هم قد صرحوا، وهو قد ترك التصريح، مع أنه ليس فيه لفظ الصلاة.
قلت: طريقه آكد وأبلغ؛ لأنه كنى رسول الله ﷺ، والكناية أبلغ من الصريح، لما فيها من الإشعار على الفخامة وعلو القدر ما ليس فيه، والسلام ههنا بمعنى الصلاة، على أن البعض لم يفرقوا بين الصلاة والسلام، أو يكون المراد من عباده الذين اصطفى: هو محمد ﷺ، من باب إطلاق الكل وإرادة البعض. فإن قلت: كيف يكون من هذا الباب والمراد الجميع في التفسير؟
قلت: قد تقدم أنه اقتباس من القرآن فلا يكون منه مطلقا، فيعمل مراده حينئذ، ثم الحمد هو الوصف بالجميل على جهة التفضيل لا على جهة الاستهزاء، والألف واللام فيه للاستغراق، أي كل واحد من أفراد الحمد لله تعالى، وليست هي للعهد كما توهمه المعتزلة، والحمد: مرفوع بالابتداء، وخبره (الله) وسلام: عطف عليه، وعلى عباده: جار ومجرور متعلق بمحذوف، واللذين: اسم موصول، واصطفى: صلته، والعائد محذوف تقديره: الذين اصطفاهم: أي اختارهم من بين عباده بأشياء مخصوصة، وأصله: اصتفى، لأنه من صفى يصفوا صفوة وصفاءً، فنقلت إلى باب الافتعال، ثم قلبت التاء طاء لما عرف في موضعه.
1 / 29
قوله: (هذا مختصر في علم الفقه جمعته لبعض إخواني في الدين بقدر ما وسعه وقته).
أقول: أي هذا الكتاب الذي صنفته كتاب مختصر، هذا التقدير إذا كانت الخطبة بعد الفراغ من التصنيف، وإن كانت في أول الشروع: تكون الإشارة حينئذ إلى ما في خاطره؛ لأنه تصور في خاطره أن يصنف كتابا صفته كذا وكذا، مثل قوله تعالى: ﴿وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا﴾.
فإنه ﵇ أشار إلى الكعبة قبل بنائها، لأنه تصورها في قلبه ما من شأنها يكون كذا وكذا.
وقوله: (في علم الفقه) أي في بعض علم الفقه، وإنما قدرنا هكذا: لأن هذا المختصر مقتصر على عشرة كتب ليس إلا.
والفقه في اللغة: الفهم، كما في قوله تعالى: ﴿يفقهوا قولي﴾ أي يفهموا، وفي اصطلاح الفقهاء: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، وعن أبي حنيفة: أنه معرفة النفس ما لها وما عليها.
وقيد بقوله: (لبعض إخواني) لأنه لا يمكن أن يكون هذا المختصر لجميع إخوانه، لأن المؤمنين شرقا وغربا كلهم إخوانه في الدين، لقوله تعالى: ﴿إنما المؤمنون إخوة﴾ وإنما قيد بقوله: (في الدين) احترازا عما إذا كان له أخ في النسب، ولا يكون أخا له في الدين، مثل ما إذا كان كافرا.
1 / 30
وقوله: (بقدر ما وسعه وقته) أي جمعته بقدر ما وسع هذا المختصر وقت المختصر. فالضمير في وسعه: منصوب على المفعولية، وفاعله قوله: (وقته) والضمير في وقته مجرور بالإضافة، وكلاهما عائدان إلى المختصر. وفي بعض النسخ: بقدر ما وسعني وقته، والحاصل أن هذا اعتذار من المصنف في سبب الاختصار، وهو عدم وسعة الوقت على أطول من هذا: إما باعتبار أن المختصر مطلوب مرغوب فيه، وإما باعتبار كونه مشغولا بخلافه أيضا، ولم يساعده وقته إلا بهذا المقدار، وهذا هو الظاهر فافهم.
قوله: (واقتصرت فيه على عشرة كتب هي أهم كتب الفقه له وأحقها بالتقديم)
أقول: هذا بيان لقوله (هذا مختصر في علم الفقه) لأنه لما قال ذلك: ألقى في ذهن السامع أنه مختصر، ولكن ما تحقق عنده كيفية اختصاره ولا كمية أبوابه، ولما قال على عشرة كتب: انتقش في ذهنه أنه على عشرة كتب ليس إلا.
وقوله: (هي أهم كتب الفقه) أي الكتب العشرة التي أذكرها: أهم كتب الفقه لبعض إخواني. وكونها أهم كتب الفقه ظاهر.
أما الصلاة والزكاة والصوم والحج: فلأنها قواعد الإسلام وأسه، لما روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى ابن عمر ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة
1 / 31
وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان) فهذه أركان خمسة للدين.
أما الشهادتان: فموضعهما الكلام، فلذلك لم يذكرهما المصنف، لأنه علم برأسه مستقل بنفسه.
وأما الصلاة: فلأنها تالية الإيمان، وثانيته في الكتاب والسنة، أما في الكتاب فقوله تعالى: ﴿الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة﴾.
وأما في الحديث: فما رويناه، وأنها أحد شطري الإيمان، ألا يرى أن تاركها جاحدا: كافر بالإجماع؟ وكسلا وتهاونا: فاسق، فيؤدي ويضرب، وعند الشافعي: يقتل، فقيل: حدا، وقيل: كفرا، وقد ورد في تاركها وعيد شديد لما روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن بين الرجل والكفر ترك الصلاة).
وأما الطهارة: فهي شرطها فلا تنفك عنها.
وأما الزكاة: فلا ريب أنها تالية الصلاة، وثانيتها في الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾.
1 / 32
وأما في الحديث: فما رويناه، وأنها من أعظم أركان الدين، وكيف لا وقد قال ﵇ (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس) رواه مسلم وابن ماجه.
وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها من نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار).
وأما الصوم: فلا زيغ أنه من جملة ما يبتنى عليه الإسلام، وأنه هو العبادة التي أضافها الله تعالى إلى نفسه، وإن كان جميع العبادات له في الحقيقة، على ما روي في صحيح مسلم عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (قال الله ﷿: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
وأما الحج: فهو أيضا من شعائر الإسلام، وتقام به شعائر الله تعالى، وتحصل به الجنة، لما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
1 / 33
وفيه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه) وفي رواية ابن ماجه (من حج هذا البيت ...) إلى آخره.
وأما الجهاد: فلا مراء أنه من قواعد الإسلام، ألا يرى أن التولي من الزحف كيف عد من الكبائر، وكيف رغب رسول الله ﷺ فيه وقال: (يضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسولي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك ..) الحديث بتمامه في صحيح مسلم.
وأما الصيد والذبائح: فلا ريبة أنهما يكثران من الخلق بالنسبة إلى غيرهما من المباحات، لا سيما الذبائح، فتكون الحاجة ماسة إلى علمه.
وأما الكراهية: فلا غرو أن فيها بيان الحل والحرمة، ولا شك أن تمييز الحلال من الحرام والاجتناب عنه من قواعد الإسلام.
وأما الفرائض: فلا عُندُد أنها نصف العلم لقوله ﵇: (تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم وهو ينسى، وهو أول شيء ينتزع من أمتي) رواه ابن ماجه. وقال ﵊: (العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة) رواه أبو داود.
1 / 34
وأما الكسب مع الأدب: فلا معلندد أن طلب الكسب فريضة، فيكون داخلا في القواعد. والأدب: التخلق بالأخلاق الحميدة، ولا شك أن التأدب بالآداب الحسنة واجب، وترك الأدب في كثير من المواضع يوجب الفسق ويسقط العدالة.
هذا بيان وجه اختيار المصنف هذه الكتب العشرة، على أنا نقول: إنها أكثر وقوعا بالنسبة إلى غيرها، فإن المكلف يمكن أن لا يقع له في عمره من الوكالة أو الكفالة أو المضاربة أو الرهن أو الهبة أو العارية أو نحوها، ولا يمكن شرعا أن لا يقع له شيء من مسألة الطهارة أو الصلاة أو الصوم أو الفرائض أو الكراهية أو الكسب، وعدم الوقوع في حق البعض لوجود المانع نادر بالنسبة إلى الوقوع في حق الأكثرين، والنادر كالمعدوم عند وجود الأكثر فافهم.
قوله: (نفعه الله به وجعله سببا لترقيه إلى أعلى مراتب الآخرة)
أقول: أي نفع الله بعض إخواني في الدين بهذا المختصر، هذه جملة دعائية، إخبار في معنى الإنشاء، تقديره: اللهم انفعه به: أي وفقه وارزقه العمل بما فيه، لأنه حين يعمل بما فيه يهديه إلى صراط مستقيم، ويرشده إلى منهج قويم.
قوله: (وجعله سببا لترقيه) أي جعل الله هذا المختصر سببا لترقي بعض إخواني في الدين الذي يشتغل فيه ويعمل بما فيه: إلى أعلى مراتب الآخرة، وهو نظره إلى ربه الكريم من غير كيف ولا تشبيه ولا قرب قريب ولا بعد بعيد، نازلا في دار البقاء، وحالا في دار الكرامة (اللهم ارزقنا ذلك يا خير الناصرين ويا رب العالمين) وهذه أيضا جملة دعائية: إخبار في معنى الإنشاء.
ومعنى الترقي: هو التصعد والتدرج، وهو الوصول من الأدنى إلى الأعلى على سبيل التدريج، فافهم.
1 / 35
كتاب الطهارة
أقول: ابتدأ المصنف في بيان الكتب العشرة التي اختارها، فإن قلت: لم قال: كتاب الطهارة، ولم يقل باب الطهارة؟
قلت: لأن الباب عبارة عن النوع، والكتاب معناه: الجمع في اللغة، فكأنه يجمع الأنواع التي تحته وهي: الوضوء والغسل وأحكام المياه والآبار والأسار ونحوها.
فإن قلت: لم قال كتاب الطهارة ولم يقل كتاب الطهارات؟
قلت: الطهارة مصدر يتناول القليل والكثير، فلا يحتاج إلى الجمع.
فإن قلت: لم قال كتاب الطهارة ولم يقل كتاب الوضوء؟
قلت: الطهارة تطلق على الوضوء والغسل وطهارة المكان والثوب والبدن، وطهارة الآبار ونحوها.
والوضوء لا يطلق إلا على غسل الأعضاء الثلاثة ومسح ربع الرأس.
فإن قلت: لم قدم كتاب الطهارة على الصلاة؟
قلت: لأنها شرط الصلاة، والشرط دائمًا بقدم على المشروط، إذ وجوده يتوقف على وجود الشرط.
والطهارة مصدر من طهر الشيء بفتح الطاء وضمها: هي النظافة مطلقًا، وفي الشرع: النظافة عن النجاسات.
قوله: (الماء على ثلاثة أقسام):
أقول: إنما قدم بحث المياه على الوضوء والغسل لأنه آلة لهما، وهما يحصلان
1 / 37
به، فلا بد من أن يقدم الآلة أولًا ليكون المكلف على الاستعداد، ثم قدم الماء المطلق على سائر أقسام الماء وهي:
المقيد، والمستعمل، والمختلط، والمعتصر، والمتغير، ونبيذ التمر، والمكروه، والمشكوك، والنجس، لأن الطهارة تحصل به بطريق الأصالة، بخلاف بواقيه، فإن بعضها لا يجوز استعماله: كالنجس، وبعضها يجوز عند عدم المطلق: كالمكروه، وبعضها بالجمع بالتراب: كالمشكوك.
قوله: (طاهر وطهور) أي القسم الأول: طاهر وطهور، أي طاهر في نفسه وطهور لغيره.
قوله: (وهو الماء الباقي على أوصاف خلقته) هذا حد الماء الطاهر والطهور، وهو الماء الذي يسميه الفقهاء: ماء مطلقًا، وهو ما يكون باقيًا على أوصاف خلقته التي خلقه الله تعالى عليها من غير أن يتغير طعمه ولونه وريحه، وذلك كماء السماء والعيون والآبار والأنهار والبحار والحياض والغدران ونحوها.
قوله: (ومنه ما يقطر من الكرم) أي من الماء الطاهر والطهور ما يقطر من الكرم أيام الربيع، لأنه يخرج من غير علاج.
وذكر في المحيط: أنه لا يتوضأ بماء يسيل من الكرم، لكمال الامتزاج.
قوله: (والمتغير بطاهر) أي ومنه المتغير، أي من الطاهر والطهور: الماء الذي تغير بالشيء الطاهر كالصابون والزعفران، والحرض ونحوها، ولكن بشرطين:
الأول: أن لا يغلبه بالأجزاء، أشار إليه بقوله: (ما لم يغلبه بالأجزاء).
1 / 38
الثاني: أن لا يجدد له اسم آخر، أشار إليه بقوله: (ولم يجدد له اسم آخر) لأنه إذا جدد له اسم آخر: لا يبقى ماء: كالمرق وماء الباقلا والخل وسائر الأشربة.
واعلم أن المراد من الغلبة بالأجزاء هو: أن يخرج الماء من الصفة الأصلية وهي الرقة، بأن يثخنه إلى أن يجعله ثخينًا، لا أن يكون من حيث الوزن أكثر كما يتوهمه بعض الناس، نص عليه في شروح الهداية.
ويعضده أيضًا قول قاضي خان: "أن التوضي بماء الزعفران وزردج العصفر يجوز إن كان رقيقًا والماء غالب، فإن غلبت الحمرة وصار متماسكًا لا يجوز".
ويقويه قول أبي يوسف في الأمالي: "إذا اختلط الصابون بالماء وغلب عليه وأثخنه: لا يجوز التوضي به، وإذا كان رقيقًا لكن علاه بياض الصابون: يجوز
1 / 39
التوضي به. وكذلك إذا طبخ الآس والبابونج في الماء، فإن غلب على الماء حتى يقال ماء البابونج أو ماء الآس: لا يجوز التوضي به". وههنا تفريعات أخر ذكرتها في شرحي المستجمع، فمن رامها فعليه بذيله.
قوله: (وطاهر فقط) أي القسم الثاني من الأقسام الثلاثة:
ماء طاهر في نفسه فقط، يعني غير طهور لغيره (وهو كل ماء أزيل به حدث أو أقيمت به قربة) وهو الماء المستعمل، وسبب استعمال الماء: أحد الأمرين عند أبي يوسف، وهما: إزالة الحدث والتقرب، وهو أن يتوضأ وهو على الوضوء قصدًا للقربة، وعند محمد: السبب التقرب فقط.
وفي حكمه ثلاث روايات عن أبي حنيفة: في رواية: نجس مغلظ، وبها أخذ الحسن، وفي رواية: نجس مخفف، وبها أخذ أبو يوسف، وفي رواية: طاهر غير طهور، وبها أخذ محمد، وهو أحد قولي الشافعي، وهو الصحيح وعليه الفتوى.
قوله: (ونجس) أي القسم الثالث من أقسام الثلاثة: ماء نجس (وهو ماء قليل وقعت به نجاسة وإن لم تغيره) لما روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة" رواه أبو داود. ولو لم يكن الماء منجسًا لم يكن للنهي فائدة.
1 / 40
والقلتان: تتنجس بوقوع النجاسة فيها، خلافًا للشافعي، والحديث الذي ورد فيها: ضعيف، ضعفه يحيى بن معين وغيره.
1 / 41
وهي خمس قرب كل قربة خمسون منا.
قوله: (وكثير وقعت فيه نجاسة) عطف على قوله: (وهو ماء قليل) فيكون هذا أيضًا داخلًا في حكم القسم الثالث: وهو النجس، فتقدير الكلام: القسم الثالث: ماء نجس، وهو ماء قليل وقعت فيه نجاسة وإن لم تغيره، وماء كثير وقعت فيه نجاسة فغيرت أحد أوصافه وهي: اللون والطعم والرائحة، سواء كان هذا الماء الكثير جاريًا أو واقفًا. فافهم.
فرع: إذا ألقي الكلب الميت في النهر والماء يجري، ينظر: إن كان للماء الذي يجري من جانب الكلب قوة الجريان، أو كان الماء يجري على أعلى الكلب: فالماء طاهر. وإن كان جميعه يجري على جميع الكلب وليس في جانبيه قوة الجريان: فالماء نجس.
قوله: (والكثير: عشر في عشر٩ لما بين حكم الماء الكثير أولًا شرع في بيان حده: وهو عشر في عشر بذراع المساحة، وهو ذراع الملك: وهو كسرى أنو شروان، وهو سبع قبضات بإصبع قائمة، لأنه من الممسوحات، وذراع المساحة فيها أليق، وقيل بذراع الكرباس توسعة للناس، لأنه ست قبضات: أربع وعشرون إصبعًا، وهو اختيار المصنف، والأصح أنه يعتبر في كل زمان ومكان ذراعهم، نص عليه في الكافي والمحيط.
1 / 42
قوله: (في عمق) بدون الواو، وجار ومجرور وقعت حالًا من قوله: (والكثير) وقوله: (بذراع الكرباس) صفة لقوله: عشر في عشر، والمبتدأ كثيرًا ما يقع منه الحال، فتقدير الكلام: والماء الكثير حال كونه مستقرًا في عمق عشرة أذرع كائنة في عشرة أذرع مثلها مذروعة بذراع الكرباس.
قوله: (لا تظهر الأرض بالغرف) جملة وقعت صفة لقوله: (عمق) فافهم.
وقيل في حد العمق: قدر ذراع، وقيل: قدر شبر، وقيل: قدر أربع أصابع مفتوحة، وعن البزدوي: بما يبلغ الكعب.
قوله: (والقليل ما دونه) أي الماء القليل ما دون الكثير، وهو ما دون العشر في العشر، مثل تسعة في تسعة وما دونها.
قوله: (والجاري) أي الماء الجاري (ما يذهب بتبنة أو ورق) نص عليه صاحب تحفة الفقهاء، وقيل: ما يعده الناس جاريًا، وهو المختار.
قوله: (والواقف ما دونه) أي الماء الواقف ما دون الجاري وهو: ما لا يذهب بتبنة ولا ورق.
قوله: (والنجاسة كل خارج من أحد السبيلين) وهما القبل والدبر، وأطلق الخارج ليعم البول والغائط والدودة ونحوها. فإن قلت: كيف يقول المصنف: (والنجاسة كل خارج من أحد السبيلين) ونحن نجد خارجًا من أحدهما وهو غير نجس: كالريح
1 / 43