وإن هذه البداية لتكفي لصدنا عن مناقشته فيما أورده من حديث؛ لأنها بداية من لا يعتزم الدخول في جدال فلسفي نزيه. ومع ذلك فماذا قال؟ أخذ ينثر الأسماء الإفرنجية يمينا ويسارا بالأحرف العربية تارة وبالأحرف الإفرنجية تارة أخرى، وهي أسماء لفلاسفة ومذاهب، لا لأنها تصلح أن تكون ردا لما أراد أن يرد عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته على غلاف الكتاب من أنه دكتور من جامعتي برلين وهامبورج بألمانيا، دكتور من هناك في «الفلسفة وعلم النفس والدراسات الإسلامية» - كما أثبت على غلاف كتابه - ولست أدري في الحق كيف اجتمعت هذه الفروع كلها في رسالة للدكتوراه، ولم يكن ذلك ليكون من شأني لولا أنه يدلني على أنه لم يخصص نفسه للدراسة الفلسفية التي تعينه على تتبع تحليلات الفلاسفة حين تجاوز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية التي تستخدم في إثارة النفوس، ولا يهمها أن تتجه بالمنطق البارد نحو العقول. وحسبنا من ضعف إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب الوضعي» الذي يقول به أوجست كونت، حتى لقد طفق يشرح للناس هذا المذهب ويكيل له الضربات وهو يظن أنه يهاجم ما ندعو إليه.
إن في هذا الخلط وحده لفصل الخطاب، لكننا على سبيل التفكه نذكر أن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيورات، الذين لم يخطر بباله أن يقرأ سطرا واحدا لواحد منهم، أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب هو الذي يأخذ على مؤلف «خرافة الميتافيزيقا» أنه يردد فكر الغربيين باسم التجديد وأنه يردده «مشوها أو محرفا»، ثم انظر إلى طريقة مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارة وردت في «خرافة الميتافيزيقا» تقول: «نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية ... وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداول اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن «مئات من الألفاظ المتداولة» والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة. وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه وإذا هو فارغ، وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.» يذكر المؤلف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل منه - واعجباه - أن الكلمة [وهل كل حديثنا عن كلمة واحدة معينة يا دكتور بهي؟ أم هكذا أردت لها أنت لتستدل من ذلك ما يتفق مع هواك لا مع النص؟] أن الكلمة التي يتداولها الناس في كثرة لا بد أن تكون اسم الجلالة «الله» وإن لم يصرح مؤلف خرافة الميتافيزيقا بذلك، ولنضرب عرض الحائط بعبارة «مئات من الألفاظ المتداولة» التي وردت في النص - هكذا يقول لسان الحال عند الدكتور البهي - لأننا نحن - أولاد البلد - يفهم بعضنا بعضا، ونفهمها من وراء السطور - وهي طائرة - ومحال أن يضحك على ذقوننا كاتب مادي لعين كمؤلف «خرافة الميتافيزيقا» ... إنه يقول شيئا لكننا نفهمه على وجه آخر لأننا لسنا من الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يصرح به. وأستحلفك بالله - أيها القارئ - لا تضحك إذا ما أنبأتك بأن مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث الذي يستنتج من نص كهذا نتيجة كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن كلامه هذا «لا يدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية بل يدل أيضا على أن «البتر» في النقل عن الغير يكاد يكون صفة من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين.» (والمقصود بالمرددين عنده هم الدكتور طه حسين والأستاذ علي عبد الرازق وكاتب هذه السطور الذي هو مؤلف «خرافة الميتافيزيقا»). ورحمكم الله يا أصحاب العقول السليمة، فقد تولى الحديث عنكم الدكتور محمد البهي وهو أستاذ أجاد «اللغة العلمية» إجادة تامة، وتنزه عن «البتر» الذي يقترفه «المرددون» لما ليس يفقهون. •••
ونترك هذه الوقفة الانفعالية التي لم يحسن صاحبها فهم ما يتصدى لنقده وبالتالي لم يحسن النقد العلمي النزيه، واكتفى بإلقاء خطبة وجدانية يلهج فيها بخوفه على الإسلام من طائفة مفكرة أسلمت كما أسلم ثم استخدمت واجبها الإسلامي في التفكير، وأحبت وطنها كما أحب، ثم رأت أن ترتفع بمداركها العقلية إلى منزلة أراد المستعمرون احتكارها لأنفسهم. نترك هذه الوقفة الانفعالية - إذن - لننتقل إلى فيلسوف عربي دحض المذهب التجريبي الحسي كما يدحض الفلاسفة بعضهم بعضا؛ بالحجة المنطقية الرصينة، لكن دحضه للمذهب التجريبي الحسي لم يجعله يتطرف إلى نقيضه، وأعني المذهب المثالي الذي يحول الدنيا بأسرها إلى أفكار مجردة في عقل مدركيها، وإنما هو يختار موقفا أشبه بموقف وسط بين الطرفين وهو أن يكون العقل أداة الإدراك، لكن معقولاته لا تقتصر على نفسه بل إن وجودها في الذهن ليدل على وجود الموجودات الخارجية. وذلك الفيلسوف العربي هو يوسف كرم، في كتابيه «العقل والوجود» و«الطبيعة وما بعد الطبيعة». لقد أرسل يوسف كرم خطابا قصيرا إلى كاتب هذه السطور بتاريخ 6 مايو (أيار) 1959م؛ أي قبيل وفاته بأيام (مات فجر الخميس 28 مايو 1959م)، يقول فيه: «تحية واحتراما وإعجابا بكثرة تآليفكم، وإن كان ما قرأته لكم يحفر بيننا هوة سحيقة؛ فإن أول ما يقتضى من رجل العلم خلوص النية والجد في البحث وهما متوافران، لكن وأنا مواصل قراءة «نحو فلسفة علمية» ومكرر الوعد بالكتابة عنه، وأستطيع أن أقول - منذ الآن - إن الفلسفة التي تفرضونها هي الفلسفة المادية، وإننا لن نتفق في الرأي، وسيبدو لكم هذا الاختلاف حين تطالعون كتابا لي توشك دار المعارف أن تصدره واسمه «الطبيعة وما بعد الطبيعة»، وسيادتكم تثقون طبعا أني كتبته بإخلاص.»
وصدر الكتاب بعد وفاته، وهذا هو نص التصدير الذي صدره به، لأنه يوجز القول فيما جاء فيه وفي الكتاب الذي سبقه وهو «العقل والوجود» يقول التصدير:
أثبتنا في كتاب «العقل والوجود» أن للإنسان قوة داركة متمايزة من الحواس، تدعى بالعقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة عن مادتها، ومعاني أخرى مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، فأبطلنا المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر الكائنات.
وبعد إثبات وجود العقل بوجود موضوعاته وأفعاله، عرضنا لقيمة الإدراك العقلي، فأدحضنا مذهب الشك المنكر لجميع الحقائق حتى الحسية منها والهادم للعلم من أساسه، وأدحضنا المذهب التصوري الذي، وإن آمن أصحابه بوجود العقل وبمدركات عقلية فهم يقصرون هذا الوجود على داخل العقل، ويعتبرون هذه المدركات تصورات وحسب، فينكرون على الإنسان حق الخروج من التصور إلى الوجود . وبعد إثبات بطلان تلك الدعاوي بينا تهافت المذاهب الميتافيزيقية المبنية عليها ...
والآن نقصد إلى النظر في طبائع هذه الموضوعات وأن نبدي الرأي فيها ... آملين ... أن نقدم صورة سليمة للطبيعة بقوانينها وبموجوداتها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان، على هذا الترتيب التصاعدي الظاهر لأول وهلة.
ونقصد أخيرا إلى إتمام البحث الشامل، واستيفاء اليقين الكلي، بالصعود إلى العلة الأولى للطبيعة أي لخالقها ومشرع قوانينها، المفارق لها، العالي على موجوداتها ...
على أن الناقدين الناقضين للتجريبية العلمية التي اضطلع بعرضها والدفاع عنها كاتب هذه السطور، لم يقتصروا على الأستاذ العقاد والدكتور البهي والأستاذ يوسف كرم (في توسطه بين طرفي التجريبية والمثالية)، بل كان من بينهم كذلك الدكتور عثمان أمين في كتابه «الجوانية»، ولكنني لا أنوي التعرض لما يقدمه في هذا الكتاب، لأنني غير مؤهل لذلك؛ إذ يقول في التقديم «منذ البداية أرى لزاما أن أنبه إلى أن هذا الكتاب الصغير لم يكتب إلا للقراء الجوانيين حقا، ومعنى هذا أن القارئ الذي يقف عند حرفية الألفاظ وظاهر العبارات دون أن يحاول أن ينفذ إلى فهم «ما بين السطور» لن يستطيع أن يصحبني في هذه الرحلة الفلسفية الطويلة؛ لأن اللغة المقروءة أو المسموعة ليس في طاقتها أن تنقل كل ما يعتلج في نفس الكاتب أو المتكلم، ما لم يصحبها من جهة القارئ أو السامع ضرب من «التهيؤ النفسي» أو التأهب الوجداني ...»
ولما كنت - لحسن الحظ أو لسوئه - ممن يلزمون الكاتب بحرفية ألفاظه - وإلا كان عابثا حين استخدمها - وكذلك لما كنت - لحسن الحظ أو لسوئه - ممن لا يجدون «بين السطور» إلا بياضا لا يعني شيئا، ولما كنت أومن - لحسن الحظ أو لسوئه - أن ما لا يستطيع الكاتب أن يجريه في «لغة مقروءة أو مسموعة» فليصمت عنه، لأنه لا جدوى عندئذ من شغل أعين القراء أو آذان المستمعين برموز عاجزة عن نقل ما أراد الكاتب أو المتكلم أن ينقله. أقول إني لما كنت هذا وهذا وذاك، فسآخذ بنصح مؤلف «الجوانية» بألا أتبعه في رحلته الفلسفية الطويلة.
Unknown page