78

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

استغربت ذلك وقتها؛ إذ لم أكن أميز مادة عن أخرى وكنت لا أظن أن بين سجين وآخر من فرق لا بشكل التحقيق ولا بنوع الاتهام، وكنت أظن أن الجميع في مركب واحد، لكن ساعتئذ تبين أننا لسنا كذلك وأن التهم تختلف ولم أتفطن إلى السبب الحقيقي لهذا التمايز إلا بعد فترة، حيث كان واضحا أن المحكومين في فترات التوتر الشديد على جبهات القتال، كانوا ينالون أشد الأحكام وأقساها ويحكمون بأسوأ المواد القانونية، أما من حكم عليه في فترة سابقة لاندلاع الحرب، أو في أولها حين كان الجيش العراقي يحقق فيها انتصارات كانت المواد القانونية أقل وطأة في عقوباتها وكذلك هي الأحكام. أضحيت أدرك من حينها أن التهمة التي حكمت بسببها لن ينالها أي تخفيف؛ لأنها أشد المواد قسوة، بل وصار البعض يخشى أن يمتد الحكم المؤبد أكثر مما هو عليه، خصوصا بعد أن تم تغيير قانون مدة السجن المؤبد من عشرين سنة إلى خمس وعشرين سنة في بلد كان يمكن أن يكون للقانون أثر رجعي بلا نقاش ولا اعتراض من أي أحد. ومن ينسى صدور قانون شرع حكم الموت لكل منتم لتنظيم معارض ولو كان قد انسحب منه بالفعل حتى قبل صدور ذلك القانون. قطعت بهذا القانون الغريب عشرات آلاف الرقاب من الشباب وبتهم ملفقة في كثير من الحالات. فإذا كان القانون يحكم بالموت على فعل لم يكن جريمة قبل صدوره، فهل كان يجد حرجا لو مدد الحكم على من هو أصلا الآن مدان بجريمة؟!

المناخ السائد كان يشير إلى ما هو معتاد من عدم شمولنا بأي عفو، وأصبحنا نكيف أنفسنا لذلك، وفي وقتها ظهر زعيم النظام، وقال: «لا يوجد لدينا سجناء سياسيون.» وسألنا أحد رجال الأمن عن ذلك وقلنا له: «إذن ماذا نعتبر نحن؟» فأجابنا برد يعكس الاستخفاف بالقانون والتلاعب بالألفاظ الذي تمارسه السلطة القمعية آنذاك: «أنتم نزلاء ولستم سجناء.»

لكن يبدو أن بعض الهاربين من السجن استطاعوا أن يسربوا أسماءنا - نحن سجناء الأقسام المغلقة تحديدا - إلى جهة دولية محايدة وسلموها قوائم مفصلة بشكل واضح جدا عن عدد وأسماء السجناء السياسيين في الأقسام المغلقة، مما اضطر النظام إلى الاعتراف - أخيرا - بوجودنا في السجن، وأجبر على إطلاق سراحنا في إجراءات سريعة مستعجلة، وخلال أقل من أسبوع واحد، قبل موعد زيارة مبعوث دولي كبير كان يحمل القائمة الطويلة بأسمائنا معه. وبالرغم من كل ذلك فقد استثني عدد قليل من السجناء وظلوا لفترات أطول، بل إن بعضهم أكمل عشرين عاما بالتمام والكمال في تلك الزنزانات المريعة.

في يوم شتائي قصير - تحديدا ليلة واحدة قبل عشية أعياد الميلاد - استدعيت لالتقاط صورة لي ولأخذ بصماتي. جلست مع مجموعة من السجناء في ساحة كبيرة جدا تفصل بين باب قسم الأحكام الخاصة والباب الخارجي للسجن، حيث قضيت خلفه تسع سنوات وأربعة أشهر وخمسة أيام.

جاء رجل أمن بدين معروف بغبائه وقسوته يطلب منا المسامحة وبراءة الذمة عما بدر منه تجاهنا، ويرجو ألا يحقد أحد عليه ويبرر ذلك بأنه كان يؤدي واجبه فقط، ثم يطلب من السجناء أن يتفهموا ذلك وألا تؤخذ الأمور على محمل شخصي. ثم قال: عليكم الآن وأنتم تخرجون من السجن أن تهتفوا بحياة السيد الرئيس القائد، وأن تشكروه على عفوه وكرمه ومسامحته لكم، ونحن صامتون لا نرد على أي من كلماته الغبية، بل إني همست في أذن صاحبي بشتيمة مقذعة ذكرت فيها اسم القائد نفسه صريحا.

هبط الغسق ونحن لا نزال في إجراءات الإفراج، أتطلع إلى الجدران الإسمنتية العالية ومن خلالها تنبعث أمامي صور فتية من خيرة شعبنا قضوا خلفها، وضاعت قدراتهم الخلاقة ومواهبهم الرائعة تحت سنابك خيل مسعورة، وطئتهم بحوافرها الحديدية وخلفت في صدورهم ندوبا عميقة سيحملها أمثالي من بقية السيف طوال عمره المتبقي.

خيم الليل على السجن ونحن نهم بالخروج عبر البوابة الكبيرة، وحينها سألني سجين كان إلى جواري: «ما هو شعورك الآن وأنت تخرج من السجن؟»

فأجبته بما كان يجول في ضميري. - بلا شعور.

لندن

07 / 09 / 2019

Unknown page