Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
53

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

في يوم آخر - وكان يوم عيد الأضحى - جاء رجال الأمن صباحا وأخرجوا سجينا وانهالوا عليه بالضرب، كان يركض نصف عار في الممر أمام مرأى كل من كان في الزنزانات، تنهال عليه الهراوات من كل صوب وحدب، لا يعرف أين يختبئ ولا إلى من يلجأ، صار جسده الأسمر أحمر قانيا، واختلطت دماؤه باحمرار جلده من أثر الصفعات والركلات والهراوات التي انهالت عليه. لم نكن نعرف - ولا حتى هو يعرف - ما ارتكب من ذنب ليتلقى كل هذا العذاب صبيحة يوم العيد. وبعد نصف ساعة تقريبا من جولات التعذيب المتواصل وأمام إلحاح منه بسؤاله للجلادين: «ماذا فعلت؟»

جاءه الجواب: «إنك حاقد.»

كان شجاعا وظريفا أيضا ولم تختف روح الطرفة لديه حتى بعد كل هذا العذاب، فقال للضابط: «سيدي، أنا كنت خائفا من أن أكون قد ارتكبت فعلا محظورا، لكن الحمد لله القضية سهلة؛ لأن كل السجناء حاقدون.»

رغم دموية المشهد وشفقتنا عليه مما لقي من الأذى، إلا أنه أضحكنا جميعا وأخرس الجلاد إلى حد أنه توقف عن ضربه وانسحب مستشعرا الموقف السخيف الذي وضع فيه.

لأسباب لا يجدر بي أن أسميها أسبابا؛ لأنها لم تكن سوى ذرائع واهية للانتقام منا، وقعت مشاهد كثيرة من التعذيب وبعضها كان فيه من حجم الوحشية وكمية السادية التي تحتويها بحيث لا يمكن لأحد أن يصدق أن بشرا قادر على فعلها. بعضها أفضى إلى موت الضحايا، إما مباشرة بعد الضرب أو بسبب عطل أصاب أحد الأعضاء الحيوية وتوفي إثر ذلك لاحقا.

أحدهم كبل ومدد على منضدة ما عدا رأسه، كان يخرج عنها، وعلقت قنينتا غاز موصولتان بسلسلة حديدية إلى طرفي عنقه كأنه مصلوب على لوح خشب وانهالوا عليه بالضرب. لم يكن يقوى على الحركة فيما الضربات تنزل عليه تسحق عظامه وتفتت جلده الطري لينزف من كل موضع، وعنقه كاد يكسر من ثقل ما تدلى منه، حمل شبه مغشي عليه إلى زنزانته وكانت هذه آخر مرة يرى فيها سليما ليناله مرض شديد، وتضاءل حجمه حتى صار شبحا ثم اختفى من السجن والدنيا إلى الأبد.

آخرون كانوا يعاقبون بأن يطلب منهم ارتقاء قضبان الزنزانة إلى الأعلى ثم تقيد أيديهم وأرجلهم إلى القضبان، ويبقون معلقين وقوفا أياما على ذلك الحال. أما ما كان يعرف بالفلقة فكان أمرا شائعا كثير الاستعمال. وفي مرات كثيرة كانوا يبالغون في إذلال السجناء فيطلب منهم التقلب على ظهورهم ورءوسهم في الممر بين الزنزانات، ومن يتردد أو يمتنع أو حتى يتوقف من التعب يلهبوه بالسياط.

كان الموت يدور بين الزنزانات، يبحث عمن يستعجل الرحيل. وفي زنزانة مجاورة لزنزانتنا بلغ المرض أشده بسجين، وبعد تفسيرات وشرح مطول لرجال الأمن أن الزنزانة لا تكفي أن ينام فيها أحد على ظهره وأن هذا السجين أضحى من الضعف بحال أنه لم يعد قادرا أن يقلب جسده ولا بد من نومه مضطجعا طيلة الوقت على ظهره، حينذاك سمح الأمن بإخراجه من الزنزانة وأن يسجى إلى جانب قضبانها في الممر كي يقدم له رفاقه في الزنزانة العناية اللازمة من أكل وشرب، إلا أنه لم يرهق رفاقه. ففي صباح اليوم التالي غادرنا ليسحب ببطانية كان ينام عليها ويتلاشى نجم آخر من سمائنا. وعقب ذلك عدنا إلى حياتنا اليومية بروتينها ننتظر حدثا جديدا مفجعا آخر.

لم يتوقف أي شيء، كل الأمور سارت كما هي؛ لأن الموت كان زائرا مقيما لا يثير فينا استغرابا إذا ما خطف أحدنا إلى عالمه الفسيح. الأحداث المفجعة والمحزنة كانت لا شيء بنظر رجال الأمن. وأذكر فيما كان صاحبنا تلفه بطانية ويخرج من الباب عينه الذي دخل منه، حصلت بعض الهمهمة أثناء توزيع وجبة الطعام الصباحية، فقال بصوت عال أحد أفراد الخدمات مؤنبا السجناء: «شبيكم اليوم؟ سامعين شي؟ صاير شي؟»

همس أحدهم في أذني: «لا ما صاير شي، بس واحد مات.»

Unknown page